السؤال: ملاحظة : ولكنّني تعجبت من أمر كيف خفي عليك ، وهو أنّك وفي ضوء استشهادك بكتب أهل السنّة ، قد اختلط عليك أمر مهمّ ، وهو أنّك ذكرت مصادر لعلماء لا يعدّون من أهل السنّة ، بل ربما عدّوا من الشيعة ، وهذا كما تعلم لا يصحّ في مقام الاستدلال على المحاور المخالف ، لاحظ أخي ما يلي :
قلت أنت : ويكفي في المقام ما يشير إليه ابن أبي الحديد المعتزلي في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة ، إذ يعترف بالصراحة بأفضلية الإمام (عليه السلام) عليهما ، وعلى غيرهما بعبارة : الحمد لله الذي قدّم المفضول على الأفضل ... .
واسمح لي أن أقول : بأنّ ابن أبي الحديد ، لم يكن من أهل السنّة ، بل كان شيعياً مغالياً ، ثمّ تحوّل إلى معتزلي ، وإليك بيان ذلك من قول أحد علماء الشيعة :
قال شيخكم الخوانساري : عزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحسين بهاء الدين محمّد بن محمّد بن الحسين بن أبي الحديد المدايني ، صاحب شرح نهج البلاغة المشهور ، وهو من أكابر الفضلاء المتتبّعين ، وأعاظم النبلاء
____________
1- طرائف المقال 2 / 86 .
|
الصفحة 389 |
|
المتبحّرين ، موالياً لأهل العصمة والطهارة ... ، وحسب الدلالة على علوّ منزلته في الدين ، وغلوّه في أمير المؤمنين (عليه السلام) شرحه الشريف ، الجامع لكلّ نفيسة وغريب ، والحاوي لكلّ نافحة ذات طيب (1) .
وأيضاً استشهدت بكتاب " ينابيع المودّة " ، وأقول : مؤلّفه هو سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي ، المتوفّى سنة 1294 هجرية .
من يتأمّل كتابه يعلم أنّ مؤلّفه شيعي ، وإن لم يصرّح علماء الشيعة بذلك ، لكن آقا بزرك الطهراني عدّ كتابه هذا من مصنّفات الشيعة ، في كتابه " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " (2) ، ولعلّ من مظاهر كونه من الشيعة ، ما ذكره في كتابه " ينابيع المودّة " عن جعفر الصادق عن آبائه (عليهم السلام) ، قال : " كان علي (عليه السلام) يرى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت ، وقال له : لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة ، فإن لم تكن نبيّاً ، فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه ، بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء " (3) .
وروى عن جابر ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " أنا سيّد النبيين وعلي سيّد الوصيين ، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر ، أوّلهم علي ، وأخرهم القائم المهدي " (4) .
وعن جابر أيضاً قوله : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " يا جابر إنّ أوصيائي وأئمّة المسلمين من بعدي أوّلهم علي ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي ، المعروف بالباقر ستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فأقرأه منّي السلام ثمّ جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ القائم ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، محمّد بن الحسن بن علي ، ذاك الذي يفتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب
____________
1- روضات الجنات 5 / 20 .
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة 25 / 290 .
3- ينابيع المودّة 1 / 239 .
4- المصدر السابق 3 / 291 .
|
الصفحة 390 |
|
عن أوليائه غيبة ، لا يثبت على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان " (1) .
فإنّ من يروي مثل هذه الروايات لا يمكن أن يكون سنّياً .
الجواب : أمّا قولك أنّ ابن أبي الحديد شيعي المذهب ، فهذا غير صحيح لعدّة أُمور :
الأوّل : ما يذكره من الردّ على السيّد المرتضى ، ودِفاعه عن خلافة الخلفاء الثلاثة ، وأنّها خلافة شرعية ، قول لا يقوله شيعي ، فضلاً عن أن يقوله مغالي في علي (عليه السلام) ، فهل أنّ المغالي في علي (عليه السلام) يدفع الخلافة عنه إلى غيره ؟ أو يثبتها له بمقتضى غلوّه ؟ راجع بداية " شرح نهج البلاغة " تجد هذا الكلام .
الثاني : تصريحه بأنّه ليس بشيعي وإمامي ، وذلك عندما قال في معرض شرحه على الخطبة الشقشقية ، بعد أن ذكر : " أمّا الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها ، وتذهب إلى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نصّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأنّه غصب حقّه .
وأمّا أصحابنا ... " (2) .
فلاحظ هنا : ذكر نفسه وأصحابه مقابل الإمامية ، بل تبرّأ من قول الإمامية ، فأين الغلوّ ؟ بل أين التشيّع ؟ فضلاً عن الغلوّ .
الثالث: قوله: " وتزعم الشيعة أنّ رسول الله ... ، وهذا عندي غير منقدح " (3) .
فلو كان شيعياً ، لما أخرج نفسه عن معتقد الإمامية وقال : " وهذا عندي غير منقدح " .
الرابع : قوله : " فإن قلت : هذا نصّ صريح في الإمامة ، فما الذي تصنع
____________
1- المصدر السابق 3 / 399 .
2- شرح نهج البلاغة 1 / 157 .
3- المصدر السابق 1 / 161 .
|
الصفحة 391 |
|
المعتزلة بذلك " ؟
قلت : يجوز أن يريد أنّه إمامهم أي علي (عليه السلام) في الفتاوى والأحكام الشرعية ، لا في الخلافة (1) .
فهنا ابن أبي الحديد ، يدفع قول من يقول بأنّ خلافة علي (عليه السلام) بالنصّ ، مع أنّ نكران النصّ على إمامة علي ليس من معتقدات الشيعة ، فضلاً عن الغلاة .
وهناك الكثير من تلك القرائن ، فراجع شرح النهج ، وخصوصاً في الأجزاء الأربعة الأول .
فإن قلت : إذاً على ماذا تحمل كلام الخونساري ؟
قلنا : إنّ الخوانساري صرّح بكونه من علماء أهل السنّة ، ولكن للأسف لم تنقل تمام كلامه ، بل قمت بالتقطيع وحذف الكلمات التي لا تعجبك حتّى تضلّل على الناس ، كما هي عادة أسلافك من الوهّابيين .
وننقل نصّ كلام الخونساري حول ابن أبي الحديد ، والقارئ هو الذي يحكم بيننا .
" الشيخ الكامل الأديب المؤرّخ عزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحسين بهاء الدين محمّد بن الحسين بن أبي الحديد المدايني الحكيم الأُصولي المعتزلي ، المعروف بابن أبي الحديد .
صاحب شرح نهج البلاغة المشهور ، هو من أكابر الفضلاء المتتبّعين ، وأعاظم النبلاء المتبحّرين ، موالياً لأهل بيت العصمة والطهارة ، وإن كان في زيّ أهل السنّة والجماعة ، منصفاً غاية الإنصاف في المحاكمة بين الفريقين ، ومعترفاً في ذلك المصاف بأنّ الحقّ يدور مع والد الحسنين ، رأيته بين علماء العامّة بمنزلة عمر بن عبد العزيز الأموي بين خلفائهم ... " .
ثمّ على فرض أنّه عدّه من علماء الشيعة فهنا قد اعتمد على حدسه واجتهاده ، ومِن الواضح أنّه في مجال التراجم لا يُعتمد على النقل ، فيما لو كان منشأه
____________
1- المصدر السابق 3 / 98 .
|
الصفحة 392 |
|
الحدس والاجتهاد ، بل على ما كان منشأه الحسّ ، وقد تقدّم فيما ذكرناه لك من القرائن الأربعة ما يؤكّد أنّ الخوانساري اعتمد على حدسه ، ولا يُتبع في ذلك ، ثمّ إنّ الخوا نساري لم يصرّح بأنّه من الإمامية ، وإنّما قال : إنّه موالي ، وهي كلمة يمكن أن تأوّل .
وفي الختام : نودُّ أن نبيّن : أنّ هناك فرقاً بين الشيعي والمحبّ ، فإنّ الشيعي من يتّبع ويقفو أثر الأئمّة (عليهم السلام) ، وأمّا المحبّ فهو من لا يبغض آل محمّد (عليهم السلام) ، وسنذكر لك بعض الذين يحبّون آل محمّد إلاّ أنّهم ليسوا بشيعة .
ونرجو التوجّه إلى شيء : وهو أنّ إلصاق تهمة الرفض والتشيّع لكلّ من يذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) حتّى ترد رواياتهم منهجاً قديماً اتخذه الكثير من أصحاب الرجال ، وهو لا يخفى على من مارس كتبهم ، ولا يسع المجال لبسط الكلام فيه ، ولكن خذ هذه القاعدة ، وقس عليها كلّ ما يرد عليك من أمثال ما ذكرت في سؤالك .
وأمّا في قولك : بأنّ صاحب كتاب ينابيع المودّة شيعي ، فهو أيضاً غير ثابت ، لبطلان الدليلين اللذين تقدّمت بهما .
أمّا الأوّل : وهو أنّه ذكر في كتاب الذريعة ، وكلّ مَن ذكر في الذريعة ، فهو شيعي ، إذاً فالقندوزي شيعي .
والجواب عن هذا القياس الذي أضمرت كبراه : بأنّا نمنع الكبرى ، بدليل أنّ الطهراني ذكر من كان صابئياً ، فضلاً عمّن كان سنّياً ، فحول كتاب التاجي ، قال صاحب الذريعة ما نصّه : " كتاب التاجي : المؤلّف باسم عضد الدولة المعروف بتاج الملّة ، ألّفه أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي ، المتوفّى 384 ، وهو صابئي ... " (1) .
وأيضاً ذكر من علماء العامّة ، صاحب " فرائد السمطين " ، حيث قال :
____________
1- الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3 / 211 .
|
الصفحة 393 |
|
" للحمويني من العامّة " (1) .
فمع اعترافه بأنّه من العامّة ، ومع ذلك يذكر كتابه ، وذلك لأنّ الطهراني أورد في كتابه الكثير من كتب أهل السنّة، التي روت فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، أو شروح نهج البلاغة لعلماء أهل السنّة ، وإن كان عنوان الكتاب يدلّ على أنّ الكتاب مختصّ بالمؤلّفين الشيعة ، ولكنّه ذكر بعض الكتب التي تصبّ في أهل البيت (عليهم السلام) ، وإن كان مؤلّفوها من علماء السنّة ، وذلك من باب المسامحة والتجوّز .
وأمّا الثاني: وهو أنّ الذي يروي هذه الروايات لا يكون سنّياً فهذا غير مطّرد ، فهناك الكثير من أهل السنّة المعتدلين غير المتعصّبين قد ذكروا فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، ونقلوا تلك الروايات ، نذكر منهم :
1-محمّد بن إدريس الشافعي صاحب كتاب الأُم ، ذكر في حبّه لآل محمّد (عليهم السلام) ما نصّه :
إن كان رفضاً حبّ آل محمّد |
فليشهد الثقـلان أنّي رافضـي (2) |
ومع هذا القول ، هل يمكن لأحد أن يقول بتشيّعه ؟
2-من الذين نقلوا حديث الثقلين بلفظ وعترتي ، لا بلفظ وسنّتي :
1-عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز البغوي ، وهو من علماء أهل السنّة ، كما نصّ على ذلك من ترجمه (3) .
2-الحسين بن إسماعيل أبو عبد الله الضبّي المحاملي ، وهو من علماء أهل السنّة ، كما نصّ على ذلك من ترجمه (4) .
____________
1- المصدر السابق 16 / 136 .
2- تاريخ مدينة دمشق 9 / 20 و 51 / 317 ، سير أعلام النبلاء 10 / 58 .
3- لسان الميزان 3 / 338 .
4- تاريخ بغداد 8 / 19 .
|
الصفحة 394 |
|
3-دعلج بن أحمد السجزي، أخرج روايته لحديث الثقلين الحاكم النيسابوي(1)، وهو من علماء أهل السنّة ، كما نصّ على ذلك من ترجمه (2) .
4-الحاكم النيسابوري في مستدركه (3) ، وهو من علماء أهل السنّة ، كما نصّ على ذلك من ترجمه (4) .
5-أبو إسحاق أحمد بن محمّد الثعلبي في تفسيره لقوله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } (5) في كتاب الكشف والبيان ، وهو من علماء أهل السنّة ، كما نصّ على ذلك من ترجمه (6) .
وإن شئت ذكرنا لك الكثير منهم ، وهذا لا يدلّ على تشيّعهم ، بل هم فقط نقلوا لنا ذلك ، نعم لو صرّحوا بأنّ هذا مذهبنا ، أو هو مذهب أصحابنا ، لدلّ على أنّهم شيعة .