أم البنین (سلام الله علیها) قد بلغت درجة من الفضل والکمال حیث رضی أمیر المؤمنین (علیه السلام) بخلقها ودینها، فأقدم على الزواج منها.. أما العکس فهو أوضح من أن یذکر.وکانت أم البنین (سلام الله علیها) فی غایة الأدب والأخلاق، فقد قالت لعلی أمیر المؤمنین (علیه السلام)، لا تسمنی فاطمة!، لأن الحسن والحسین وزینب وام کلثوم (علیهم السلام) یتذکرون أمهم ویتأثرون بذلک، ولذا سمّاها (علیه السلام) بـ (أم البنین) ـ على ما هی العادة عند العرب من الکنیة ـ لا باعتبار الانطباق الخارجی، بل باعتبار الانتخاب، والله سبحانه رزقها أربعة أولاد (مثل بدور الدجى) فصاروا مفخرة البشریة إلى یوم القیامة.
ذات المعنویات العالیة
الشیء القلیل الذی نعرفه عن أم البنین(علیها السلام) مرتبط ببعض المادیات وما أشبه، کنسبها وزواجها بعلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأولادها الأربع وشیء عن أدبها الجم وبعض قضایاها بعد قصة کربلاء...
أما مقدار معنویاتها العالیة، ومدى معرفتها وعلومها.. فلم نعلم منه شیئاً یذکر.
نعم یمکننا المعرفة الإجمالیة عبر رؤیة بعض الآثار..
فمثلاً ورد فی أحوال السیدة المعصومة (علیها السلام) أن من زارها عارفاً بحقها وجبت له الجنة(1)
وهذا شیء لا تصل إلى معرفة کنهه عقولنا، فما کان لهذه السیدة العظیمة من الواقعیة والمعنویة والقرب من الله عز وجل حتى أنه سبحانه قرر الجنة لمن زارها؟!
نعم هذه الروایة وأمثالها تدلّنا على مدى عظمتها ولو إجمالاً..
وهکذا بالنسبة إلى ما للسیدة الجلیلة أم البنین (علیها السلام) من المعنویة العالیة والمقام العظیم.. حیث یمکننا أن نحسّ بشیء من ذلک عبر ما نراه من الآثار المترتبة على التوسل بها وجعلها شفیعة عند الله عزّوجل فی قضاء الحوائج ..
فإن النذر لها یحل المشاکل الکبیرة التی هی بحاجة إلى الإمداد الغیبی من الله سبحانه، کشفاء المرضى الذین لا شفاء لهم حسب الظاهر، وإعطاء الأولاد لمن لم یرزق ولداً، ودفع البلایا وغیر ذلک..
وهذا مما علیه ألوف القصص من المشاهدات والمنقولات، والسبب لا یکون إلا معنویة رفیعة لهذه السیدة الجلیلة یقصر ذهننا عن درکها.
إن ذهاب الفلاسفة إلى العقول العشر، والمادیة الدیالکتیکیة(2)، وما أشبه.. من الأمور الواضحة البطلان، دلیل بیِّن على أن الإنسان لا یمکنه أن یستوعب المادیات الواضحة، فکیف بالمعنویات التی هی فوق طاقة الإنسان وقدرته؟.
أم البنین (علیها السلام) و واقعة کربلاء
وفی قصة کربلاء وقضیة عاشوراء التاریخیة قدمت ام البنین (علیها السلام) الى الله عزوجل أولادها الأربع، حیث استشهدوا بین یدی أبی عبد الله الحسین (علیه السلام)
أما هی بنفسها (سلام الله علیها) فلماذا لم تأت إلى کربلاء؟
لم یذکر التاریخ السبب فی ذلک ـ حسب التتبع الناقص ـ، فلعلها کانت مریضة ـ کما حکی عن فاطمة الصغرى(3) ـ أو مشتغلة برعایة أولاد بنیها، أو غیر ذلک مما علمه عند الله سبحانه.
أولادها
کان أولادها الأبطال أبناء أمیر المؤمنین (علیه السلام) وقد استشهدوا جمیعاً فی نصرة أخیهم الإمام الحسین (علیه السلام) فی کربلاء یوم عاشوراء.
أکبرهم وأفضلهم: العباس (علیه السلام) ویکنّى بـ (أبی الفضل) وهو آخر من استشهد من الأربعة، حیث قدَّمهم بین یدیه فاستشهدوا جمیعاً.
وقد کان للعباس (علیه السلام)عقب ولم یکن لأخوته الثلاثة، وکان رجلاً جمیلاً حتى لقّب بـ (قمر بنی هاشم).. وکان شجاعاً جسیماً بحیث یرکب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان الأرض خطاً، وکان لواء الإمام الحسین (علیه السلام) معه یوم استُشهد، ولقِّب بـ (السقّاء) لأنه استسقى الماء من الأعداء لأخیه الحسین (علیه السلام) وعائلته ولکن استشهد قبل أن یوصل الماء إلیهم، وکان قد جاء بالماء من نهر علقمة.وقد ذکر أصحاب المقاتل شیئا عن بطولة أولاد أم البنین ومواساتهم للإمام الحسین (علیه السلام) وکیفیة استشهادهم.
ولما وصل خبر استشهادهم إلى أمهم ـ أم البنین ـ فی المدینة المنورة بکتهم بکاءً مرّاً، لکن کان بکاؤها لهم أقل من بکائها على الحسین(علیه السلام) وذلک فی قصة مشهورة.
وهذا الموقف المشرف من السیدة أم البنین (علیها السلام) یدلّ على علوّ معرفتها بالإمام (علیه السلام)..
وفاتها
إن مؤامرات الذین لا یؤمنون بالله والیوم الآخر، تنال الکثیر من الأشیاء والأشخاص..
ومن هنا لا نعلم شیئاً عن سبب وفاة السیدة أم البنین (علیها السلام)، مع العلم بأنها کانت تفضح بنی أمیة الذین قتلوا الإمام الحسین (علیه السلام)..
وقد أسس معاویة جند العسل وقتل به مالک الأشتر (رضوان الله علیه)(4) وکثیراً من الأبریاء بالسم .. حتى صار عادة فیهم وفی العباسیین والعثمانیین من بعدهم.
زیارة قبرها
زیارة قبر أم البنین (سلام الله علیها) لها أجر وثواب عظیم فإن زیارة قبور المؤمنین والمؤمنات لها ثواب کثیر، وقد ورد التأکید على ذلک فی الروایات، فکیف بزیارة مثل قبرها. (5)
وهی (علیها السلام) فی المدینة المنورة فی البقیع ، ومن الواضح أن تراب قبرها الطاهر له الأثر الخاص، طبعاً لاکأثر تراب قبور الأئمة المعصومین والأنبیاء (علیهم الصلاة والسلام)، فإن مجرّد کونه تراباً لمثل قبرها له حیثیة رفیعة کما هو واضح.
الکرامة الإلهیة
ورد فی الحدیث القدسی:(عبدی أطعنی أجعلْک مثلی أنا أقول للشیء کن فیکون، أطعنی فیما امرتک تقول للشیء کن فیکون)(6).
ومن هنا تنشأ معجزات الأنبیاء وکرامات الأولیاء(علیه السلام) ، والفرق بینهما أن الأولى على سبیل التحدی، بخلاف الثانیة فإنها على سبیل إظهار فضل الولیّ أو ما أشبه.
وأم البنین (سلام الله علیها) صاحبة الکرامات الکثیرة التی نقلت عنها متواتراً وشوهدت کذلک، وذلک بالنذر أو التوسل بها لتشفع عند الله .. بإهداء ختمة أو قراءة القرآن الکریم لها أو ما أشبه.
وقد سمعت طیلة حیاتی کثیراً من کراماتها المتواترة ولا یسع المقام لبیانها.
هذا ومن الواضح أن قوانین الکون ـ وهی لا تعد ولا تحصى ـ إنما هی بأجمعها بإرادة الله سبحانه، والکرامة خارقة للقانون الکونی العام، وهی تدخل تحت قانون المستثنیات، فتکون أیضاً بإرادته تعالى، فالإرادة تشمل المستثنى والمستثنى منه کما لا یخفى..
فمن جعل النار محرقة جعلها برداً وسلاماً(7)
ومن جعل الماء لازماً لتساوی السطوح جعله فرقاً فرقاً کل فرقة کالطود العظیم(8)
ومن جعل القلب حینما یتوقف تسقط الأعضاء وأجهزة البدن عن العمل، جعله یرجعه إلى التحرک.. بإحیاء الموتى.
وهکذا فی سائر المعجزات والکرامات.
من غیر فرق بین أن یکون الفاعل نبیاً أو وصیاً، حیاً کعیسى(علیه السلام) أو متوفیاً کنبی الإسلام (صلى الله علیه وآله وسلم).
وهکذا الإمام أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) والإمام المهدی (عجّل الله تعالى فرجه الشریف).ولیس الأمر خاصاً بهم (علیهم السلام)، بل یشمل النساء الطاهرات، معصومة وغیرها أیضاً، کفاطمة الزهراء والسیدة زینب (علیهما السلام) بل وحتى العلماء ومن إلیهم کما مرّ فی الحدیث القدسی.
إحیاء الذکرى
قال الإمام الصادق (علیه السلام): (أحیوا أمرنا رحم الله من أحیا أمرنا)(9).
إن إحیاء ذکرى أم البنین (علیها السلام) وذکرى المعصومین (علیهم السلام) وذویهم ومن إلیهم، کالعلماء والصالحین والصالحات، من أهم ما یلزم، وذلک لأجل تنظیم الحیاة تنظیماً صحیحاً یوجب سعادة الإنسان فی دنیاه وآخرته.
فمثلاً فی ذکرى أم البنین (سلام الله علیها) تتذکر النساء هذه المرأة الطاهرة، العفیفة الشریفة، الحافظة لنفسها، الذاکرة لله والیوم الآخر، المدیرة لبیتها،المراعیة لحقوق زوجها، المربیة لأولاد صالحین و..
فتتعلم منها وتقتدی بها، فلا تکون مبعثرات ولاساقطات ولامهملات فی الحیاة الزوجیة أوفی تربیة الأولاد ـ کما هو المشاهد فی یومنا هذا
وبذلک تسعد المرأة التی تلقت الدروس من مدرسة أم البنین (علیها السلام) واتبعتها، ویسعد بها غیرها من أولادها وذویها، فیکون الإحسان عائداً لنفسها قبل غیرها، قال سبحانه: ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسکم وإن أسأتم فلها ) (10)
ولا شک أن ذکرى أم البنی(علیها السلام)وذکرى العظماء رجالاً أو نساءً، موجب للأجر والثواب فقد ورد:«من ورّخ مؤمناً فقد أحیاه»(11)، فکما أن إحیاء الإنسان یوجب الخیرات، کذلک إحیاء ذکراه،قال تعالى: ( ومن یعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)(12)
بالإضافة إلى أن ذکرى الأخیار والخیّرات تملأ النفس الإنسانی بالصحیح النافع والمنهج المسعد، والعکس بالعکس، وعندئذٍ تعکس النفس التی تلقت الذکرى شیئا من تلک الأسوة .. إن خیراً فخیر وإن شراً فشر.
وفی الختام نسأل الله سبحانه أن یوفقنا للتأسی بهؤلاء الأطهار (علیهم أفضل الصلاة والسلام) فی مختلف الأمور الدینیة والدنیویة فان قاعدة التأسی تجری فی الرسول الاعظم (صلى الله علیه وآله وسلم) ، وهکذا فی أهل بیته ومن یتعلق بهم من الأولیاء الصالحین.
المصادر :
1- راجع عیون أخبار الرضا (علیه السلام): ج2 ص267 ب67 ح2، وفیه: (من زارها فله الجنة). وانظر بحار الأنوار: ج48 ص316. وسفینة البحار: ج2 ص446. الطبعة القدیمة.
2- المادیة الجدلیة (أو الدیالکتیکیة): هو منهج فی التحلیل التأریخی، استخدمه مارکس وانجلس، وهو من أسس طریقة التفکیر عند الإشتراکیین والشیوعیین. وللتفصیل الأکثر ومعرفة ما فیها من الاشکالات راجع کتاب (نقد المادیة الدیالکتیکیة) .
3- هی بنت الإمام الحسین (علیه السلام) وکانت مریضة عند خروجه من المدینة المنورة فبقیت هناک.
4- هو مالک بن الحارث النخعی المجاهد فی سبیل الله والسیف المسلول على أعداء الله، وقد قال فی حقه أمیر المؤمنین (علیه السلام): (کان الأشتر لی کما کنت لرسول الله صلى الله علیه وآله وسلم)، استشهد عام 38هـ بالسم بخدعة معاویة، حیث کان لمعاویة عین بمصر، فکتب الیه بهلاک الأشتر، فصحبه نافع مولى عثمان فخدمه وألطفه حتى أعجبه واطمأن الیه، فأحضر له شربة من عسل بسم فسقاها له فمات، وکان معاویة یقول: ان لله جنوداً من عسل. راجع الکنى والألقاب: ج2 ص28-32.
5- راجع الکافی: ج3 ص228 ح1 وفیه: (عن أبی عبد الله (علیه السلام) فی زیارة القبور قال: إنهم یأنسون بکم فإذا غبتم عنهم استوحشوا).
6- کلمة الله: ص140
7- إشارة إلى قوله تعالى فی قصة إبراهیم (علیه السلام): ( یا نار کونی برداً وسلاماً على إبراهیم) سورة الأنبیاء: 69
8- إشارة إلى قوله سبحانه فی قصة موسى (علیه السلام) ( فأوحینا إلى موسى أن اضرب بعصاک البحر فانفلق فکان کل فرق کالطود العظیم ) سورة الشعراء: 63
9- قرب الإسناد: ص18.
10- سورة الإسراء: 7.
11- راجع سفینة البحار: ج2 ص641.
12- سورة الحج: 32
source : rasekhoon