إن عالم الکون عالم فسیح لا یحیط الإنسان بأسراره ودقائقه ، وما اکتشفه الإنسان منها فإنما هو ضئیل بالنسبة إلى ما خفی علیه . کیف وما أوتی من العلم إلا قلیلا ، قال سبحانه : * ( وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَمَا أُوتِیتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِیلاً ) * . ( 1 )
هذا هو العالم الفیزیائی الذائع الصیت أنشتاین ( المتوفى عام 1955 م ) قال : إن نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم کنسبة هذا الدرج إلى مکتبتی . ( 2 ) ولو أنصف لکان علیه أن یقول حتى أقل من هذه النسبة ، وکان الأولى أن یقول نسبة هذا الدرج إلى أطباق السماء . وعلى ضوء ذلک فلله سبحانه فی هذا العالم أسباب وعلل لم یصل إلیها البشر مع ما بذل من الجهود .
ثم إن الأسباب تنقسم إلى طبیعیة ومادیة وإلى غیبیة وإلهیة ، أما الأول فالنظام الکائن مبنی على العلل والأسباب الطبیعیة وتأثیر کل سبب طبیعی ومادی بإذن الله سبحانه ، ولیس للعلم دور سوى الکشف عن هذه الأسباب المادیة .
غیر أن المادی ینظر إلى هذه الأسباب بنظرة استقلالیة ولکن الإلهی ینظر إلیها نظرة تبعیة قائمة بالله سبحانه ، مؤثرة بإذنه ، وهذا هو ذو القرنین یتمسک بالأسباب الطبیعیة فی إیجاد السد أمام یأجوج ومأجوج ویستعین بالأسباب ولا یراها مخالفا للتوحید .
قال سبحانه حاکیا عنه : * ( آتُونِی زُبَرَ الْحَدِیدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَیْنَ الصَّدَفَیْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِی أُفْرِغْ عَلَیْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن یَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّی فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّی جَعَلَهُ دَکَّاء وَکَانَ وَعْدُ رَبِّی حَقًّا ) * . ( 3 )
إن الاستعانة بالأحیاء والاستغاثة بهم أمر جرت علیه سیرة العقلاء ، وهذا موسى الکلیم استغاثه بعض شیعته فأجابه دون أن یخطر ببال أحد أن الاستغاثة لا تجوز إلا بالله ، قال سبحانه : * ( وَدَخَلَ الْمَدِینَةَ عَلَى حِینِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِیهَا رَجُلَیْنِ یَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِیعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِی مِن شِیعَتِهِ عَلَى الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ فَوَکَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَیْهِ ) * . ( 4 )
وما هذا إلا لأن موسى وشیعته تعتقد بأن المغیث إنما یغیث بقوة وإذن منه سبحانه ، فلا مانع من طلب النجدة والاستغاثة والاستعانة من الأحیاء شریطة القید المذکور ، وقد أشیر إلیه فی قوله سبحانه : * ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ ) * . ( 5 )
کل ما ذکرنا کان یعود إلى التوسل بالأحیاء والأسباب الطبیعیة ، وهذا لیس مورد بحث ونقاش .
إنما الکلام فی التوسل بالأنبیاء والأولیاء لا على الطریق المألوف وله أقسام :
أ . التوسل بدعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أو الصالحین فی حال حیاتهم .
ب . التوسل بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " قدسیته وشخصیته .
ج . التوسل بحق النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " والأنبیاء والصالحین .
د . التوسل بدعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " والصالحین بعد رحیلهم .
ه . طلب الشفاعة من النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " والأولیاء .
وإلیک دراسة کل واحد منها :
أ . التوسل بدعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أو الصالحین فی حال حیاتهم :
اتفق المسلمون على جواز التوسل بدعاء الرسول " صلى الله علیه وآله وسلم " فی حال حیاته ، بل یستحب التوسل بدعاء المؤمن کذلک ، قال سبحانه : * ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوکَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِیمًا ) * . ( 6 ) تجد أنه سبحانه یدعو الظالمین إلى المجئ إلى مجلس الرسول " صلى الله علیه وآله وسلم " کی یستغفر لهم النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " .
وفی آیة أخرى یندد بالمنافقین بأنهم إذا دعوا إلى المجئ إلى مجلس الرسول " صلى الله علیه وآله وسلم " وطلب المغفرة منه تنکروا ذلک واعترضوا علیه بلی الرأس ، قال سبحانه : * ( وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَکْبِرُونَ ) * . ( 7) وتاریخ الإسلام حافل بنماذج عدیدة من هذا النوع من التوسل .
ب . التوسل بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وقدسیته وشخصیته :
وها هنا وثیقة تاریخیة ننقلها بنصها تعرب عن توسل الصحابة بدعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " فی حال حیاته أولا ، وبقدسیته وشخصیته ثانیا ، والمقصود من نقلها هو الاستدلال على الأمر الثانی .
روى عثمان بن حنیف أنه قال : إن رجلا ضریرا أتى النبی فقال : ادع الله أن یعافینی ؟
فقال " صلى الله علیه وآله وسلم " : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت وهو خیر ؟ قال : فادعه ، فأمره " صلى الله علیه وآله وسلم " أن یتوضأ فیحسن وضوءه ویصلی رکعتین ویدعو بهذا الدعاء : " اللهم إنی أسألک وأتوجه إلیک بنبیک نبی الرحمة ، یا محمد إنی أتوجه بک إلى ربی فی حاجتی لتقضى ، اللهم شفعه فی " . قال ابن حنیف : فوالله عندما تفرقنا وطال بنا الحدیث حتى دخل علینا کأن لم یکن به ضر .
وهذه الروایة من أصح الروایات ، قال الترمذی : هذا حدیث حق ، حسن صحیح . ( 8 )
وقال ابن ماجة : هذا حدیث صحیح . ( 9 )
ویستفاد من الحدیث أمران
الأول : أن یتوسل الإنسان بدعاء النبی صلى الله علیه وآله وسلم ویدل على ذلک قول الضریر : ادعوا الله أن یعافینی ، وجواب الرسول صلى الله علیه وآله وسلم : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت وهو خیر .
الثانی : إنه یجوز للإنسان الداعی أن یتوسل بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " فی ضمن دعائه وهذا یستفاد من الدعاء الذی
علمه النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " للضریر ، والإمعان فیه یثبت هذا المعنى ، وأنه یجوز لکل مسلم فی مقام الدعاء أن یتوسل بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " ویتوجه به إلى الله .
وإلیک الجمل التی تدل على هذا النوع من التوسل :
1 . اللهم إنی أسألک وأتوجه إلیک بنبیک إن کلمة " بنبیک " متعلق بفعلین " أسألک " و " أتوجه إلیک " والمراد من النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " نفسه القدسیة وشخصیته الکریمة لا دعاءه .
2 . محمد نبی الرحمة نجد أنه یذکر اسم النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " ثم یصفه بنبی الرحمة معربا عن أن التوسل بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " بما لها من الکرامة والفضیلة .
3 . یا محمد إنی أتوجه بک إلى ربی إن جملة : " یا محمد إنی أتوجه بک إلى ربی " تدل على أن الضریر حسب تعلیم الرسول ، اتخذ النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " نفسه وسیلة لدعائه وتوسل بذاته بما لها من المقام والفضیلة .
وهذا الحدیث یرشدنا إلى أمرین :
الأول : جواز التوسل بدعاء الرسول .
الثانی : جواز التوسل إلى الله بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " بما لها من الکرامة والمنزلة عند الله تبارک وتعالى .
أما الأول ، فقد جاء فی محاورة الضریر مع النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " ، فکان الموضوع هو دعاء الرسول ، أی طلب الضریر الدعاء منه " صلى الله علیه وآله وسلم " .
وأما الثانی ، فیستفاد من الدعاء الذی علمه الرسول صلى الله علیه وآله وسلم للضریر ، فإنه یضمن التوسل بشخص النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " .
نعم لم یکن یدور فی خلد الضریر سوى التوسل بدعائه ولکن الرسول صلى الله علیه وآله وسلم علمه دعاء جاء فیه التوسل بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وهو فی نوعه توسل ثان ، وبذلک وقفنا على أنه یستحب للمسلم أن یتوسل بدعاء الصالحین من الأنبیاء والأولیاء کما یجوز له فی دعائه التوسل بذواتهم ومقامهم ومنزلتهم .
ویظهر من الأحادیث الشریفة أن أصحاب النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " کانوا یتوسلون بذات النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " فی مقام الابتهال والدعاء حتى بعد رحیل النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " .
أخرج الطبرانی ، عن أبی أمامة بن سهل بن حنیف ، عن عمه عثمان بن حنیف : إن رجلا کان یختلف إلى عثمان بن عفان فی حاجة له ، فکان عثمان لا یلتفت إلیه ولا ینظر فی حاجته ، فلقی ابن حنیف فشکا ذلک إلیه ، فقال له عثمان بن حنیف : ائت المیضاة فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصل فیه رکعتین ، ثم قل : " اللهم إنی أسألک وأتوجه إلیک بنبینا محمد " صلى الله علیه وآله وسلم " نبی الرحمة ، یا محمد إنی أتوجه بک إلى ربی فتقضی لی حاجتی " فتذکر حاجتک ورح حتى أروح معک . فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثم أتى باب عثمان بن عفان ،فجاء البواب حتى أخذ بیده فأدخله على عثمان بن عفان ، فأجلسه معه على الطنفسة ، فقال : حاجتک ؟ فذکر حاجته وقضاها له ، ثم قال له : ما ذکرت حاجتک حتى کان الساعة . وقال : ما کانت لک من حاجة فاذکرها . ثم إن الرجل خرج من عنده فلقی عثمان بن حنیف ، فقال له : جزاک الله خیرا ما کان ینظر فی حاجتی ولا یلتفت إلی حتى کلمته فی ، فقال عثمان بن حنیف : والله ما کلمته ، ولکنی شهدت رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " وأتاه ضریر فشکا إلیه ذهاب بصره ، فقال له النبی صلى الله علیه وآله وسلم : فتصبر ؟ فقال : یا رسول الله لیس لی قائد فقد شق علی . فقال النبی صلى الله علیه وآله وسلم : إئت المیضاة فتوضأ ، ثم صل رکعتین ، ثم ادع بهذه الدعوات . قال ابن حنیف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحدیث حتى دخل علینا الرجل کأنه لم یکن به ضر قط . ( 10)
إن سیرة المسلمین فی حیاة النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وبعدها ، استقرت على أنهم کانوا یتوسلون بأولیاء الله والصالحین من عباده ، دون أن یدور فی خلد أحد منهم بأنه أمر حرام أو شرک أوبدعة ، بل کانوا یرون التوسل بدعاء الصالحین طریقا إلى التوسل بمنزلتهم ، وشخصیتهم ، فإنه لو کان لدعاء الرجل الصالح أثر ، فإنما هو لأجل قداسة نفسه وطهارتها ، ولولاهما لما استجیبت دعوته ، فما معنى الفرق بین التوسل بدعاء الصالح وبین التوسل بشخصه وذاته ، حتى یکون الأول نفس التوحید والآخر عین الشرک أو ذریعة إلیه .
إن التوسل بقدسیة الصالحین ، والمعصومین من الذنب ، والمخلصین من عباد الله لم یکن قط أمرا جدیدا بین الصحابة بل کان ذلک امتدادا للسیرة الموجودة قبل الإسلام ، فقد تضافرت الروایات التاریخیة على ذلک وإلیک البیان :
1 . استسقاء عبد المطلب بالنبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وهو رضیع : لقد استسقى عبد المطلب بالنبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وهو طفل صغیر ، حتى قال ابن حجر : إن أبا طالب یشیر بقوله : وأبیض یستسقى الغمام بوجهه ثمال * الیتامى عصمة للأرامل إلى ما وقع فی زمن عبد المطلب حیث استسقى لقریش والنبی " صلى الله علیه وآله وسلم " معه غلام . ( 11 )
2 . استسقاء أبی طالب بالنبی " صلى الله علیه وآله وسلم " : أخرج ابن عساکر عن ابن عرفلة ، قال : قدمت مکة وقریش فی قحط . . . . فقالت قریش : یا أبا طالب أقحط الوادی وأجدب العیال ، فهلم فاستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام - یعنی : النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " کأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء ، وحوله أغیلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالکعبة ، ولاذ بإصبعه الغلام وما فی السماء قزعه ، فأقبل السحاب من هاهنا ومن هاهنا واغدودق وانفجر له الوادی وأخصب النادی والبادی ، وفی ذلک یقول أبو طالب فی قصیدة یمدح بها النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " : وأبیض یستسقى الغمام بوجهه * ثمال الیتامى عصمة للأرامل وقد کان استسقاء أبی طالب بالنبی صلى الله علیه وآله وسلم وهو غلام ، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبی أمرا معروفا بین العرب ، وکان شعر أبی طالب فی هذه الواقعة مما یحفظه أکثر الناس .
ویظهر من الروایات أن استسقاء أبی طالب بالنبی " صلى الله علیه وآله وسلم " کان موضع رضا من رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " فإنه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس ، فجاء المطر واخصب الوادی فقال النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " : " لو کان أبو طالب حیا لقرت عیناه ، من ینشدنا قوله ؟ " . فقام علی " علیه السلام " وقال : یا رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " کأنک أردت قوله : وأبیض یستسقى الغمام بوجهه * ثمال الیتامى عصمة للأرامل ( 12 )
إن التوسل بالأطفال الأبریاء فی الاستسقاء أمر ندب إلیه الشرع الشریف ، فهذا هو الإمام الشافعی یقول : أن یخرج الصبیان ، ویتنظفوا للاستسقاء وکبار النساء ومن لا هیئة له منهن ، ولا أحب خروج ذوات الهیئة ولا آمر بإخراج البهائم . (13 )
وما الهدف من إخراج الصبیان والنساء الطاعنات فی السن ، إلا استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم ، وکل ذلک یعرب عن أن التوسل بالأبریاء والصلحاء والمعصومین مفتاح استنزال الرحمة وکأن المتوسل بهم یقول : ربی وسیدی إن الصغیر معصوم من الذنب ، والکبیر الطاعن فی السن أسیرک فی أرضک ، وکلتا الطائفتین أحق بالرحمة والمرحمة ، فلأجلهم أنزل رحمتک إلینا ، حتى تعمنا فی ظلهم . فإن الساقی ربما یسقی مساحة کبیرة لأجل شجرة واحدة وفی ظلها تسقى الأعشاب غیر المفیدة .
وعلى ضوء هذا التحلیل یفسر توسل الخلیفة بعم الرسول : " العباس بن عبد المطلب " الذی سیمر علیک ، وأنه کان توسلا بشخصه وقداسته وصلته بالرسول صلى الله علیه وآله وسلم وتعلم بالتالی أن هذا العمل کان امتدادا للسیرة المستمرة ، وأن هذا لا یمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة .
3 . التوسل بعم النبی صلى الله علیه وآله وسلم أخرج البخاری فی صحیحه ، عن أنس : " أن عمر بن الخطاب کان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ( رض ) فقال : اللهم إنا کنا نتوسل إلیک بنبینا فتسقینا ، وإنا نتوسل إلیک بعم نبینا فاسقنا . قال : فیسقون " . (14 ) هذا ما نص علیه البخاری وهو یدل على أن عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعم النبی صلى الله علیه وآله وسلم وشخصه وشخصیته وقدسیته وقرابته من النبی صلى الله علیه وآله وسلم لا بدعائه ویدل على ذلک : قول الخلیفة عند الدعاء : " اللهم کنا نتوسل إلیک بنبینا فتسقینا وإنا نتوسل إلیک بعم نبینا فاسقنا " وهذا ظاهر فی أن الخلیفة قام بنفسه بالدعاء عند الاستسقاء ، وتوسل بعم الرسول وقرابته منه فی دعائه .
ج . التوسل بحق النبی ( صلى الله علیه وآله وسلم ) والأنبیاء والصالحین :
وهناک لون آخر من التوسل وهو التوسل بحق الأنبیاء والمرسلین ، والمراد الحق الذی تفضل به سبحانه علیهم فجعلهم أصحاب الحقوق ، ولیس معنى ذلک أن للعباد أو للصالحین على الله حقا ذاتیا یلزم علیه تعالى الخروج منه ، بل الحق کله لله ، وإنما المراد
، الحق الذی منحه سبحانه لهم تکریما ، وجعلهم أصحاب حق على الله ، کما قال سبحانه : * ( وَکَانَ حَقًّا عَلَیْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِینَ ) * . ( 15 )
ویدل على ذلک من الروایات عندما یلی :
أ . روى أبو سعید الخدری : قال : قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم : من خرج من بیته إلى الصلاة ، وقال : اللهم إنی أسألک بحق السائلین علیک ، وأسألک بحق ممشای هذا ، فإنی لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا ریاء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطک وابتغاء مرضاتک ، فأسألک أن تعیذنی من النار ، وأن تغفر لی ذنوبی أنه لا یغفر الذنوب إلا أنت ، أقبل الله علیه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملک . ( 16 )
ب . روى عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " : لما اقترف آدم الخطیئة ، قال : ربی أسألک بحق محمد لما غفرت لی ، فقال الله عز وجل : یا آدم کیف عرفت محمدا ولم أخلقه قال : لأنک لما خلقتنی بیدک ونفخت فی من روحک ، رفعت رأسی فرأیت على قوائم العرش مکتوبا لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فعلمت أنک لم تضف إلى اسمک إلا أحب الخلق إلیک ، فقال الله عز وجل : صدقت یا آدم إنه لأحب الخلق إلی ، وإذا سألتنی بحقه فقد غفرت ولولا محمد ما خلقتک . ( 17)
ج . روى الطبرانی بسنده عن أنس بن مالک أنه لما ماتت فاطمة بنت أسد حفروا قبرها ، فلما بلغوا اللحد حفر رسول الله بیده وأخرج ترابه بیده ، فلما فرغ دخل رسول الله فاضطجع فیه ، وقال : الله الذی یحیی ویمیت وهو حی لا یموت اغفر لأمی فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ، ووسع علیها مدخلها بحق نبیک والأنبیاء الذین من قبلی ، فإنک أرحم الراحمین . ( 18 )
إلى هنا تم البحث عن أقسام التوسل الثلاثة وعرفت أن الجمیع یدعمه الکتاب والسنة وتصور أن التوسل بغیره سبحانه تألیه وعباده لغیره قد عرفت بطلانه وذلک لوجهین :
الوجه الأول : لو کان التوسل بدعاء النبی صلى الله علیه وآله وسلم وذاته أو حقه شرکا یلزم أن یکون کل توسل کذلک حتى التوسل بالغیر فی الأمور العادیة مع أنه باطل بالضرورة ، لأن الجمیع من قبیل التوسل بالأسباب ، عادیة کانت أو غیر عادیة ، طبیعیة کانت أو غیر طبیعیة .
الوجه الثانی : قد عرفت فی تعریف العبادة أنه الخضوع أمام الغیر بما هو إله أو رب أو مفوض إلیه أموره سبحانه ، ولیس واحد من هذه القیود متحققا فی التوسل بالأنبیاء والصالحین والشهداء بل یتوسل بهم بما أنهم عباد مکرمون یستجاب دعاؤهم عند الله سبحانه ، أو أن لذواتهم وحقوقهم منزلة عند الله ، فالتوسل بهم یثیربحار رحمته . کیف یکون التوسل بنبی التوحید " صلى الله علیه وآله وسلم " شرکا مع أنه یتوسل به بما أنه مکافح للشرک ومقوض لدعائمه ؟
د . التوسل بدعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " والصالحین بعد رحیلهم :
من أقسام التوسل الرائجة بین المسلمین هو التوسل بدعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أو الصالحین بعد رحیلهم .
ولکن ثمة سؤالا یطرح نفسه وهو : أن التوسل بدعاء الغیر إنما یصح إذا کان الغیر حیا یسمع دعاءک ویستجیب لک ویدعو الله سبحانه لقضاء وطرک ونجاح سؤالک ، أما إذا کان المستغاث میتا انتقل من هذه الدنیا فکیف یصح التوسل بمن انتقل إلى رحمة الله وهو لا یسمع ؟
والجواب : أن الموت - حسب ما یوحی إلیه القرآن والسنة النبویة - لیس بمعنى فناء الإنسان وانعدامه ، بل معناه الانتقال من دار إلى دار وبقاء الحیاة بنحو آخر والذی یعبر عنه بالحیاة البرزخیة . وتدل على بقاء الحیاة آیات من الذکر الحکیم نقتصر على بعضها : الآیة الأولى : قوله تعالى : * ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ یُقْتَلُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْیَاء وَلَکِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) * . ( 19 )
وقد کان المشرکون یقولون : إن أصحاب محمد یقتلون أنفسهم فی الحروب دون سبب ، ثم یقتلون ویموتون فیذهبون ، فوافى الوحی ردا علیهم بأنه لیس الأمر على ما یقولون ، بل هم أحیاء وإن کان المشرکون وغیرهم لا یدرکون ذلک .
الآیة الثانیة قوله تعالى :
1 . * ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُواْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْیَاء عِندَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ ) * .
2 . * ( فَرِحِینَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَیَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِینَ لَمْ یَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَ هُمْ یَحْزَنُونَ ) * .
3 . * ( یَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ یُضِیعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِینَ ) * . ( 20 )
وقد نزلت الآیة : إما فی شهداء بدر وکانوا أربعة عشر رجلا ثمانیة من الأنصار وستة من المهاجرین ، وإما فی شهداء أحد وکانوا سبعین رجلا ، أربعة من المهاجرین : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمیر ، وعثمان بن شماس ، وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار ، وعلى قول نزلت فی حق کلتا الطائفتین .
الذین بذلوا مهجهم فی سبیل الله . وثمة طائفة من الآیات تدل على بقاء أرواح الکفار بعد انتقالهم عن هذه الدنیا ، مقترنة بألوان العذاب ، وهناک طائفة أخرى من الآیات تدل على بقاء الروح بعد رحیل الإنسان المؤمن والکافر من هذه الدار ، ولنذکر هذه الآیات على وجه الإیجاز :
1 . * ( النَّارُ یُعْرَضُونَ عَلَیْهَا غُدُوًّا وَعَشِیًّا وَیَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) * . ( 21 ) تدل الآیة بوضوح على أن آل فرعون یعرضون على النار قبل قیام الساعة غدوا وعشیا ، کما أنهم بعد قیامها یدخلون أشد العذاب ، فعذابهم قبل الساعة غیر عذابهم بعدها ، وهو دلیل صریح على حیاة تلک الطغمة .
2 . * ( مِمَّا خَطِیئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ یَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ) * . ( 22 ) تدل الآیة على أن قوم نوح أغرقوا أولا فأدخلوا نارا ، ولم یجدوا لأنفسهم أنصارا ولیست هذه النار ، نار یوم القیامة بشهادة أنه سبحانه یقول : * ( فَأُدْخِلُوا نَارًا ) * وهو یدل على تحقق الدخول بلا فاصل زمنی بعد الغرق ولو أرید نار یوم الساعة لکان الأنسب أن یقول " فیدخلون نارا " .
3 . * ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّی أَعْمَلُ صَالِحًا فِیمَا تَرَکْتُ کَلاَّ إِنَّهَا کَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى یَوْمِ یُبْعَثُونَ ) * . ( 23 ) إن الکافر حینما یواجه الموت یجد مستقبل حیاته مظلما وکأنه یشاهد العذاب الألیم بأم عینه بعد موته فیتمنى الرجوع إلى الحیاة الدنیا ، فیجاب ب * ( کَلاَّ ) * وما یشاهده لیس إلا عذابا برزخیا لا عذابا أخرویا ولذلک یقول سبحانه * ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى یَوْمِ یُبْعَثُونَ ) * .
هذه الآیات وغیرها تعرب عن بقاء الحیاة بعد الانتقال عن نشأة الدنیا ، وإن أطلق الموت علیه فإنما هو باعتبار انتهاء أمد حیاته الدنیویة واندثار بدنه وأما روحه ونفسه فهی باقیة بنحو آخر تتنعم أو تعذب .
الصلة بین الحیاتین : الدنیویة والبرزخیة ربما یمکن أن یقال : إن الآیات دلت على کون الشهداء والأولیاء بل الکفار أحیاء ، ولکن لا دلیل على وجود الصلة بین الحیاتین وأنهم یسمعون کلامنا ، وهذا هو الذی نطرحه فی المقام ونقول : دل الذکر الحکیم على وجود الصلة بین الحیاة الدنیویة والبرزخیة بمعنى أن الأحیاء بالحیاة البرزخیة یسمعون کلامنا ویشاهدون أفعالنا ، ولیسوا بمنقطعین تمام الانقطاع عن الحیاة الدنیویة وإلیک شواهد من الآیات :
1 . قال سبحانه : * ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِی دَارِهِمْ جَاثِمِینَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ یَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُکُمْ رِسَالَةَ رَبِّی وَنَصَحْتُ لَکُمْ وَلَکِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِینَ ) * . ( 24 )
نزلت الآیات فی قصة النبی صالح حیث دعا قومه إلى عبادة الله وترک التعرض لمعجزته ( الناقة ) وعدم مسها بسوء ، ولکنهم بدل ذلک فقد عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم فعمهم العذاب فأصبحوا فی دارهم جاثمین ، فعند ذلک عاد النبی صالح یخاطبهم وهم هلکى ، بقوله : * ( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ یَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُکُمْ رِسَالَةَ رَبِّی وَنَصَحْتُ لَکُمْ وَلَکِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِینَ ) * .
وقد صدر الخطاب من النبی صالح " علیه السلام " بعد هلاکهم وموتهم ، بشهادة قوله : * ( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ) * فی صدر الخطاب المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقیب هلاک القوم . فلو لم تکن هناک صلة بین الحیاتین لما خاطبهم النبی صالح بهذا الخطاب .
2 . قال سبحانه : * ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِی دَارِهِمْ جَاثِمِینَ * الَّذِینَ کَذَّبُواْ شُعَیْبًا کَأَن لَّمْ یَغْنَوْا فِیهَا الَّذِینَ کَذَّبُواْ شُعَیْبًا کَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِینَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ یَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُکُمْ رِسَالاتِ رَبِّی وَنَصَحْتُ لَکُمْ فَکَیْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ کَافِرِینَ ) * . ( 25 ) وقد وردت هذه الآیة فی حق النبی شعیب " علیه السلام " ودلالة الآیة کدلالة سابقتها ، حیث یخاطب شعیب قومه بعد هلاکهم ، فلو کانت الصلة مفقودة ولم یکن الهالکون بسبب الرجفة سامعین لخطاب نبیهم ، فما معنى خطابه لهم ؟
3 . قال سبحانه : * ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِکَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً یُعْبَدُونَ ) * . ( 26 ) ترى أنه سبحانه یأمر النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " بسؤال الأنبیاء الذین بعثوا قبله وأما مکان السؤال فلعله کان فی لیلة الإسراء .
السنة الشریفة والصلة بین الحیاتین ثمة روایات متضافرة بل متواترة تدل على وجود الصلة بین الحیاتین ، وجمع هذه الروایات بحاجة إلى تألیف کتاب مفرد .
ونکتفی هنا بالحدیث المتفق علیه بین المسلمین وهو تکلیم النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أهل القلیب .
لقد انتهت معرکة بدر بانتصار المسلمین وهزیمة المشرکین قتل منهم قرابة سبعین من صنادیدهم وساداتهم وطرحت جثث قتلاهم فی القلیب ، فوقف النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " یخاطبهم واحدا تلو الآخر ، ویقول : یا أهل القلیب ، یا عتبة بن ربیعة ، ویا شیبة بن ربیعة ، یا أمیة بن خلف ، یا أبا جهل ، وهکذا عد من کان منهم بالقلیب ، وقال : هل وجدتم ما وعد ربکم حقا فإنی قد وجدت ما وعدنی ربی حقا ؟ ! فقال له أصحابه : یا رسول الله أتنادی قوما موتى ؟ ! فقال " علیه السلام " : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولکنهم لا یستطیعون أن یجیبونی .
یقول ابن هشام بعد هذا النقل : إن النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " قال : یا أهل القلیب بئس عشیرة النبی کنتم لنبیکم کذبتمونی وصدقنی الناس ، وأخرجتمونی وآوانی الناس ، وقاتلتمونی ونصرنی الناس . ثم قال : هل وجدتم ما وعدکم ربی حقا ؟ ! . ( 27 )
أخرج البخاری : عن نافع أن ابن عمر أخبره ، قال : اطلع النبی " علیه السلام " على أهل القلیب ، فقال : وجدتم ما وعد ربکم حقا ؟ ! فقیل له : ندعوا أمواتا ، فقال : ما أنتم بأسمع منهم ، ولکن لا یجیبون . ( 28 )
وأخیرا نقول : إن جمیع المسلمین - على الرغم من الخلافات المذهبیة بینهم فی فروع الدین - یسلمون على رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " فی الصلاة عند ختامها ویقولون : " السلام علیک أیها النبی ورحمة الله وبرکاته " .
وقد أفتى الإمام الشافعی وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد ، وأفتى الآخرون باستحبابه ، لکن الجمیع متفقون على أن النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " علمهم السلام وأن سنة النبی صلى الله علیه وآله وسلم ثابتة فی حیاته وبعد وفاته . ( 29 ) فلو انقطعت صلتنا بالنبی " صلى الله علیه وآله وسلم " بوفاته ، فما معنى مخاطبته والسلام علیه یومیا ؟ !
سؤال وجواب لو کانت الصلة بیننا وبین من فارقوا الحیاة موجودة فما معنى قوله سبحانه : * ( فَإِنَّکَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ) * ( 30) وقوله سبحانه : * ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِی الْقُبُورِ ) * . ( 31 )
والجواب : بملاحظة الآیات السابقة هو أن المراد من الإسماع ، الإسماع المفید ، ومن المعلوم أن سماع الموتى أو من فی
القبور لا یجدی نفعا بعد ما ماتوا کافرین ، وإلا فهذا هو النبی صلى الله علیه وآله وسلم ، یقول : " المیت یسمع قرع النعال " فی حدیث أخرجه البخاری عن أنس بن مالک عن رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " قال : إن العبد إذا وضع فی قبره وتولى عنه أصحابه حتى أنه لیسمع قرع نعالهم أتاه ملکان فیقعدانه فیقولان له ما کنت تقول فی هذا الرجل محمد " صلى الله علیه وآله وسلم " فیقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله إلى آخر ما نقل . ( 32 )
وقد مر أن النبی صلى الله علیه وآله وسلم کان یزور القبور ، ویخرج آخر اللیل إلى البقیع ، فیقول : السلام علیکم دار قوم مؤمنین وأتاکم ما توعدون ، غدا مأجلون وإنا إن شاء الله بکم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقیع الغرقد . ( 33 )
اتفق المسلمون على تعذیب المیت فی القبر ، أخرج البخاری عن ابنة خالد بن سعید بن العاص أنها سمعت النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وهو یتعوذ من عذاب القبر ، وأخرج عن أبی هریرة کان رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " یدعو : اللهم إنی أعوذ بک من عذاب القبر ومن عذاب النار . ( 34 )
کل ذلک یدل على أن المراد من نفی الإسماع هو الإسماع المفید . تحقیقا لقوله سبحانه : * ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّی أَعْمَلُ صَالِحًا فِیمَا تَرَکْتُ کَلاَّ إِنَّهَا کَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى یَوْمِ یُبْعَثُونَ ) * ( 35 ) حیث إن الآیة صریحة فی رد دعوة الکفار حیث طلبوا من الله سبحانه أن یرجعهم إلى الدنیا حتى یعملوا صالحا ، فیأتیهم النداء " بکلا " فیکون تمنیهم بلا جدوى ولا فائدة کما أن سماع الموتى کذلک ، لا أنهم لا یسمعون أبدا ، إذ هو مخالف لما مر من صریح الآیات والروایات . ه . طلب الشفاعة :
اتفقت الأمة الإسلامیة على أن الشفاعة أصل من أصول الإسلام نطق به الکتاب والسنة النبویة ، وأحادیث العترة الطاهرة ، ولم یخالف فی ذلک أحد من المسلمین وإن اختلفوا فی بعض خصوصیاتها .
وأجمع العلماء على أن النبی صلى الله علیه وآله وسلم أحد الشفعاء یوم القیامة ، إلا أن الکلام فی المقام فی طلب الشفاعة من النبی صلى الله علیه وآله وسلم فهل یجوز أن نقول : یا رسول الله اشفع لنا عند الله ، کما یجوز أن نقول : اللهم شفع نبینا محمدا " صلى الله علیه وآله وسلم " فینا یوم القیامة ، أو لا یجوز ؟
تظهر حقیقة الحال من خلال الوجوه التالیة :
الوجه الأول : إن حقیقة الشفاعة لیست إلا دعاء النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أو الولی " علیه السلام " فی حق المذنب وإذا کانت هذه حقیقتها فلا مانع من طلبها من الصالحین ، لأن غایة هذا الطلب هو طلب الدعاء ، فلو قال القائل : " یا وجیها عند الله اشفع لنا عند الله " یکون معناه ادع لنا عند ربک فهل یرتاب فی جواز ذلک مسلم ؟ والدلیل على أن الشفاعة هو طلب الدعاء ، ما أخرجه مسلم ، عن عبدالله بن عباس ، أنه قال : سمعت رسول الله یقول : ما من رجل مسلم یموت فیقوم على جنازته أربعون رجلا لا یشرکون بالله شیئا إلا شفعهم الله فیه . ( 36 ) أی قبل شفاعتهم فیه ولیست شفاعتهم إلا دعاؤهم له بالغفران . وعلى هذا فلا وجه لمنع الاستشفاع بالصالحین إذا کان مآله إلى طلب الدعاء .
الوجه الثانی : إن سیرة المسلمین تکشف عن جواز طلب الشفاعة فی عصر النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " وبعده .
أخرج الترمذی فی سننه عن أنس قال : سألت النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " أن یشفع لی یوم القیامة ، فقال : أنا فاعل ، قال : قلت یا رسول الله فأین أطلبک ؟ فقال : اطلبنی أول ما تطلبنی على الصراط . ( 37 )
نقل ابن هشام فی سیرته : انه لما توفی رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " کشف أبو بکر عن وجهه وقبله ، وقال : بأبی أنت و أمی أما الموتة التی کتب الله علیک فقد ذقتها ، ثم لن تصیبک بعدها موتة أبدا . ( 38 )
وقال الرضی فی نهج البلاغة : لما فرغ أمیر المؤمنین " علیه السلام " من تغسیل النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " قال کلاما وفی آخره : بأبی أنت وأمی طبت حیا وطبت میتا أذکرنا عند ربک . ( 39 )
إن کلام الإمام یدل على عدم الفرق فی طلب الشفاعة من الشفیع فی حین حیاته وبعد وفاته ، وقد کان الصحابة یطلبون الدعاء من النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " بعد وفاته .
وتصور أن طلب الشفاعة من الشفیع الواقعی شرک تصور خاطئ ، فإن المراد من الشرک فی المقام هو الشرک فی العبادة ، وقد علمت أن مقومه هو الاعتقاد بألوهیة المدعو أو ربوبیته أو کون مصیر العبد بیده ، ولیس فی المقام من ذلک شئ .
إن طالب الشفاعة من الشفعاء الصالحین - الذین أذن الله لهم بالشفاعة - إنما یعتبرهم عبادا لله مقربین لدیه ، وجهاء فیطلب منهم الدعاء ، ولیس طلب الدعاء من المیت عبادة له ، وإلا لزم کون طلبه من الحی عبادة لوحدة واقعیة العمل .
وقیاس طلب الشفاعة من النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " بطلب الوثنیین الشفاعة من الأصنام قیاس مع الفارق ، لأن المشرکین کانوا على اعتقاد بألوهیة معبوداتهم وربوبیتها ، وأین هذا من طلب الموحد الذی لا یراه إلها ولا ربا ولا من بیده مصیر حیاته ؟ ! وإنما تعتبر الأعمال بالنیات لا بالصور والظواهر .
المصادر :
1- الإسراء / 85
2- مجلة رسالة الإسلام السنة الرابعة ، العدد الأول ، مقال الکاتب المصری أحمد أمین .
3- الکهف / 96 - 98 .
4- القصص / 15 .
5- آل عمران / 126 .
6- النساء / 64 .
7- المنافقون / 5 .
8- صحیح الترمذی 5 ، کتاب الدعوات ، الباب 119 برقم 3578 ، سنن ابن ماجة : 1 / 441 برقم 1385 ، مسند أحمد : 4 / 138 ، إلى غیر ذلک .
9- صحیح الترمذی 5 ، کتاب الدعوات ، الباب 119 برقم 3578 ، سنن ابن ماجة : 1 / 441 برقم 1385 ، مسند أحمد : 4 / 138 ، إلى غیر ذلک .
10- المعجم الکبیر للحافظ سلیمان بن أحمد الطبرانی : 9 / 30 - 31 ، باب ما أسند إلى عثمان بن حنیف برقم 8311 ، والمعجم الصغیر له أیضا : 1 / 183 - 184 .
11- فتح الباری : 2 / 398 ، دلائل النبوة : 2 / 126 .
12- السیرة الحلبیة : 1 / 116 . 2 . إرشاد الساری : 2 / 338 .
13- الأم : 1 / 248 ، باب خروج النساء والصبیان فی الاستسقاء .
14- صحیح البخاری : 2 / 27 ، باب صلاة الاستسقاء ، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا.
15- الروم / 47 .
16- سنن ابن ماجة : 1 / 256 رقم 778 ، باب المساجد ، مسند أحمد : 3 / 21 .
17- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشریعة لأبی بکر أحمد بن الحسین البیهقی : 5 / 489 ، دار الکتب العلمیة .
18- معجم الطبرانی الأوسط : 356 ، حلیة الأولیاء : 3 / 121 ، مستدرک الحاکم : 3 / 108 .
19- البقرة / 154 .
20- آل عمران / 169 - 171 .
21- غافر / 46 .
22- نوح / 25 .
23- المؤمنون / 99 - 100 .
24- الأعراف / 78 - 79 .
25- الأعراف / 91 - 93 .
26- الزخرف / 45 .
27- السیرة النبویة : 1 / 649 ، السیرة الحلبیة : 2 / 179 و 180 .
28- صحیح البخاری : 9 / 98 ، باب عندما جاء فی عذاب القبر من کتاب الجنائز .
29- تذکرة الفقهاء : 3 / 333 ، المسألة 294 ، الخلاف : 1 / 47 .
30- الروم / 52 . –
31- فاطر / 22 .
32- البخاری : الصحیح : 2 / 90 ، باب المیت یسمع خفق النعال .
33- صحیح مسلم : 3 / 63 ، باب عندما یقال عند دخول القبور من کتاب الجنائز .
34- البخاری : الصحیح : 2 / 99 ، باب التعوذ من عذاب القبر من کتاب الصلاة .
35- المؤمنون / 99 - 100 .
36- صحیح مسلم : 3 / 53 ، باب من صلى علیه أربعون شفعوا فیه من کتاب الجنائز .
37- سنن الترمذی : 4 / 621 ، کتاب صفة القیامة .
38- السیرة النبویة : 2 / 656 ، ط عام 1375 ه.
39- نهج البلاغة : رقم الخطبة 23 .
source : rasekhoon