في تنزيه آدم ع
مسألة فمما تعلقوا به قوله تعالى في قصة آدم ع وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى قالوا و هذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلا قبيحة و أكده بقوله فَغَوى و الغي ضد الرشد الجواب يقال لهم أما المعصية فهي مخالفة الأمر و الأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب و بالندب معا فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم ع مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة و يكون بمواقعتها تاركا نفلا و فضلا و غير فاعل قبيحا و ليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب فإن تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهرة و لهذا يقولون أمرت فلانا بكذا و كذا من الخير فعصاني و خالفني و إن لم يكن ما أمره به واجبا و أما قوله فَغَوى فمعناه أنه خاب لأنا نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم فإذا خالف الأمر و لم يصر إلى ما ندب إليه فقد خاب لا محالة من حيث إنه لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحق بالامتناع و لا شبهة في أن لفظة غوى يحتمل الخيبة قال الشاعر
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغي لائما
فإن قيل كيف يجوز أن يكون ترك الندب
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 10
معصية أ و ليس هذا يوجب أن توصف الأنبياء ع بأنهم عصاة في كل حال و أنهم لا ينفكون من المعصية لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب قلنا وصف تارك الندب بأنه عاص توسع و تجوز و المجاز لا يقاس عليه و لا يعدى به عن موضعه و لو قيل إنه حقيقة في فاعل القبيح و تارك الأولى و الأفضل لم يجز إطلاقه في الأنبياء ع إلا مع التقييد لأن استعماله قد كثر في القبائح فإطلاقه بغير تقييد موهم لكنا نقول إن أردت بوصفهم أنهم عصاة أنهم فعلوا القبائح فلا يجوز ذلك و إن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه استحقوا الثواب و كان أولى فهم كذلك فإن قيل فأي معنى لقوله تعالى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى و أي معنى لقوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ و كيف يقبل توبة من لم يذنب أم كيف يتوب من لم يفعل القبيح قلنا أما التوبة عندنا و على أصولنا فغير موجبة لإسقاط العقاب و إنما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضلا و الذي توجبه التوبة و تؤثره هو استحقاق الثواب فقبولها على هذا الوجه إنما هو ضمان الثواب عليها فمعنى قوله تعالى فَتابَ عَلَيْهِ أنه قبل توبته و ضمن له ثوابها و لا بد لمن ذهب إلى أن معصية آدم ع صغيرة من هذا الجواب لأنه إذا قيل له كيف تقبل توبته و يغفر له و معصيته قد وقعت في الأصل مكفرة لا يستحق عليها شيئا من العقاب لم يكن له بد من الرجوع إلى ما ذكرناه و التوبة قد يحسن أن تقع ممن لا يعهد من نفسه قبيحا على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى و الرجوع إليه و يكون وجه حسنها في هذا الموضع استحقاق الثواب بها و كونها لطفا كما يحسن أن تقع ممن يقطع على أنه غير مستحق للعقاب و أن التوبة لا تؤثر في إسقاط شيء يستحقه من العقاب و لهذا جوزوا التوبة من الصغائر و إن لم
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 11
تكن مؤثرة في إسقاط ذم و لا عقاب فإن قيل الظاهر من القرآن بخلاف ما ذكرتموه لأنه أخبر أن آدم ع منهي عن أكل الشجرة بقوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ و بقوله أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ و هذا يوجب بأنه ع عصى بأن فعل منهيا عنه و لم يعص بأن ترك مأمورا به قلنا أما النهي و الأمر معا فليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال و لا اشتراك و قد يؤمر عندنا بلفظ النهي و ينهى بلفظ الأمر و إنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه فإذا قال تعالى لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و لم يكره قربها لم يكن في الحقيقة ناهيا كما أنه تعالى لما قال اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا و لم يرد ذلك لم يكن أمرا فإذا كان قد صح قوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ إرادة لترك التناول فيجب أن يكون هذا القول أمرا و إنما سماه منهيا عنه و سمى أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل و تزهيدا في الفعل نفسه و لما كان الأمر ترغيبا في الفعل المأمور به و تزهيدا في تركه جاز أن يسمى نهيا و قد يتداخل هذان الوصفان في الشاهد فيقول أحدنا قد أمرت فلانا بأن لا يلقى الأمير و إنما يريد أنه نهاه عن لقائه و يقول نهيتك عن هجر زيد و إنما معناه أمرتك بمواصلته فإن قيل أ لا جعلتم النهي منقسما إلى منهي قبيح و منهي غير قبيح بل يكون تركه أفضل من فعله كما جعلتم الأمر منقسما إلى واجب و غير واجب قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر لأن انقسام المأمور به في الشاهد إلى واجب و غير واجب غير مدفوع و لا خلاف و ليس يمكن أحدا أن يدفع أن في الأفعال الحسنة التي يستحق بها المدح و الثواب ما له صفة الوجوب و فيها ما لا يكون كذلك فإذا كان الواجب مشاركا للندب في تناول الإرادة له و استحقاق الثواب و المدح به فليس يفارقه إلا بكراهة الترك لأن الواجب تركه مكروه و النفل ليس كذلك فلو جعلنا
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 12
الكراهة تتعلق بالقبيح و غير القبيح من الحكيم تعالى و كذلك النهي كما جعلنا الأمر منه يتعلق بالواجب و غير الواجب لارتفع الفرق بين الواجب و الندب مع ثبوت الفصل بينهما في العقول فإن قيل فما معنى حكايته تعالى عنهما قولهما رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا و قوله تعالى فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ قلنا معناه أنا نقصنا أنفسنا و بخسناها ما كنا نستحقه من الثواب بفعل ما أريد منا من الطاعة و حرمناها الفائدة الجليلة من التعظيم من ذلك الثواب و إن لم نكن مستحقا قبل أن نفعل الطاعة التي نستحق بها فهو في حكم المستحق فيجوز أن يوصف من فوت نفسه بأنه ظالم لها كما يوصف بذلك من فوت نفسه المنافع المستحقة و هذا هو معنى قوله تعالى فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فإن قيل فإذا لم يقع من آدم ع على قولكم معصية فلم أخرج من الجنة على سبيل العقوبة و سلب لباسه على هذا الوجهة و لو لا أن الإخراج من الجنة و سلب اللباس على سبيل الجزاء على الذنب لما قال الله تعالى فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما و قال تعالى في موضع آخر فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ قلنا نفس الإخراج من الجنة لا يكون عقابا لأن سلب اللذات و المنافع ليس بعقوبة و إنما العقوبة هي الضرب و الألم الواقعان على سبيل الاستخفاف و الإهانة و كذلك نزع اللباس و إبداء السوءة و لو كانت هذه الأمور مما يجوز أن تكون عقابا و يجوز أن يكون غيره لصرفناها عن باب العقاب إلى غيره بدلالة أن العقاب لا يجوز أن يستحقه الأنبياء ع فإذا فعلنا ذلك فيما يجوز أن يكون واقعا على سبيل العقوبة فهو أولى فيما لا يجوز أن يكون كذلك فإن قيل فما وجه ذلك إن لم تكن عقوبة قلنا لا يمتنع أن يكون الله تعالى علم أن المصلحة تقتضي تبقية آدم ع في الجنة و تكليفه فيها متى لم يتناول من الشجرة فمتى تناول منها تغيرت الحال في المصلحة و صار إخراجه عنها و تكليفه في دار
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 13
غيرها هو المصلحة و كذلك القول في سلب اللباس حتى يكون نزعه بعد التناول من الشجرة هو المصلحة كما كانت المصلحة في تبقيته قبل ذلك و إنما وصف إبليس بأنه مخرج لهما من الجنة من حيث وسوس إليهما و زين عندهما الفعل الذي يكون عنده الإخراج و إن لم يكن على سبيل الجزاء عليه لكنه يتعلق به تعلق الشرط في المصلحة و كذلك وصف بأنه مبد لسوآتهما من حيث أغواهما حتى أقدما على ما سبق في علم الله تعالى بأن اللباس معه ينزع عنهما و لا بد لمن ذهب إلى أن معصية آدم ع صغيرة لا يستحق بها العقاب من مثل هذا التأويل و كيف يجوز أن يعاقب الله تعالى نبيه بالإخراج من الجنة أو غيره من العقاب و العقاب لا بد من أن يكون مقرونا بالاستخفاف و الإهانة و كيف يكون من تعبد الله فيه بنهاية التعظيم و التبجيل مستحقا منا و منه تعالى الاستخفاف و الإهانة و أي نفس تسكن إلى مستخف بقدره مهان موبخ مبكت و ما يجيز مثل ذلك على الأنبياء ع إلا من لا يعرف حقوقهم و لا يعلم ما تقضيه منازلهم مسألة فإن قال قائل فما قولكم في قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أ و ليس ظاهر هذه الآية يقتضي وقوع المعصية من آدم ع لأنه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام إليه إلا ذكر آدم ع و زوجته لأن النفس الواحدة هي آدم و زوجها المخلوق منها هي حواء ع فالظاهر على ما ترون ينبئ عما ذكرناه على أنه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى لما أن حملت حواء عرض لها و كانت ممن لا يعيش لها ولد فقال لها إن أردت أن يعيش ولدك فسميه عبد الحارث و كان إبليس قد يسمى بالحارث فلما ولدت
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 14
سمت ولدها بهذه التسمية فلهذا قال تعالى جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما الجواب يقال له قد علمنا أن الدلالة العقلية التي قدمناها في باب أن الأنبياء ع لا يجوز عليهم الكفر و الشرك و المعاصي غير محتملة و لا يصح دخول المجاز فيها و الكلام في الجملة يصح فيه الاحتمال و ضروب المجاز فلا بد من بناء المحتمل على ما لا يحتمل فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل لكنا نعلم في الجملة أن تأويلها مطابق لدلالة العقل و قد قيل في تأويل هذه الآية مما يطابق دليل العقل و مما يشهد له اللغة وجوه منها أن الكناية في قوله سبحانه جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما غير راجعة إلى آدم ع و حواء بل إلى الذكور و الإناث من أولادهما أو إلى جنسين ممن أشرك من نسلهما و إن كانت الكناية الأولى تتعلق بهما و يكون تقدير الكلام فلما آتى الله آدم و حواء الولد الصالح الذي تمنياه و طلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى و يقوي هذا التأويل قوله سبحانه فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ و هذا ينبئ على أن المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين و ليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدمة راجعة إلى آدم ع و حواء أن يكون جميع ما في الكلام راجعا إليهما لأن الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره و من كناية إلى خلافها قال الله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فانصرف من مخاطبة الرسول ص إلى مخاطبة المرسل إليهم ثم قال وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ يعني الرسول ص ثم قال وَ تُسَبِّحُوهُ يعني مرسل الرسول فالكلام واحد متصل بعضه ببعض و الكناية مختلفة كما ترى و قال الهذلي
يا لهف نفسي كان جدة خالد و بياض وجهك للتراب الأعفر
و لم يقل بياض وجهه و قال كثير
أسيئي بنا أو حسني لا ملومة لدينا و لا مقلية إن ثقلت
فخاطب ثم ترك الخطاب و قال الآخر
فدى لك ناقتي و جميع أهلي و مالي أنه منه أتاني
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 15
و لم يقل منك أتاني فإن قيل كيف يكنى عمن لمن يتقدم له ذكر قلنا لا يمتنع ذلك قال الله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ و لم يتقدم للشمس ذكر و قال الشاعر
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما و ضاق بي الصدر
و لم يتقدم للنفس ذكر و الشواهد على هذا المعنى كثيرة جدا على أنه قد تقدم ذكر ولد آدم ع و تقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و معلوم أن المراد بذلك جميع ولد آدم ع و تقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً لأن المعنى أنه لما آتاهما ولدا صالحا و المراد بذلك الجنس و إن كان اللفظ لفظ وحده و إذا تقدم مذكوران و عقبا بأمر لا يليق بأحدهما وجب أن يضاف إلى من يليق به و الشرك لا يليق بآدم ع فيجب أن ننفيه عنه و إن تقدم ذكره و هو يليق بكفار ولده و نسله فيجب أن نعلقه بهم و منها ما ذكره أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني فإنه يحمل الآية على أن الكناية في جميعها غير متعلقة بآدم ع و حواء و يجعل الهاء في تَغَشَّاها و الكناية في دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما و آتاهُما صالِحاً راجعين إلى من أشرك و لم يتعلق بآدم ع من الخطاب إلا قوله تعالى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ قال و الإشارة في قوله خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى الخلق عامة و كذلك قوله وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ثم خص منها بعضهم كما قال الله تعالى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فخاطب الجماعة بالتسيير ثم خص راكب البحر و كذلك هذه الآية أخبرت عن جملة أمر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة و زوجها و هما آدم و حواء ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ادعى له الشركاء في عطيته قال و جايز أن يكون عنى بقوله هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ المشركين خصوصا إذا كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة و زوجها و يكون المعنى في قوله تعالى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 16
و هذا قد يجيء كثيرا في القرآن و في كلام العرب قال الله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً و المعنى فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة و هذا الوجه يقارب الوجه الأول في المعنى و إن خالفه في الترتيب و منها أن يكون الهاء في قوله جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ راجعة إلى الوالد لا إلى الله تعالى و يكون المعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطلبتين و يجري هذا القول مجرى قول القائل طلبت مني درهما فلما أعطيتك شركته بآخر أي طلبت آخر مضافا إليه و على هذا الوجه لا يمتنع أن تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم و حواء ع فإن قيل فأي معنى على هذا الوجه لقوله فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ و كيف يتعالى الله عن أن يطلب منه ولد بعد آخر قلنا لم ينزه الله تعالى نفسه عن هذا الإشراك و إنما نزهها عن الإشراك به و ليس يمتنع أن ينقطع هذا الكلام عن حكم الأول و يكون غير متعلق به لأنه تعالى قال أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ فنزه نفسه تعالى عن هذا الشرك دون ما تقدم و ليس يمتنع انقطاع اللفظ في الحكم عما يتصل به في الصورة و هذا كثير في القرآن و في كلام العرب لأن من عادة العرب أن يراعوا الألفاظ أكثر من مراعاة المعاني فكأنه تعالى لما قال جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما و أراد الإشراك في طلب الولد جاء بقوله تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ على مطابقة اللفظ الأول و إن كان الثاني راجعا إلى الله تعالى لأنه يتعالى عن اتخاذ الولد و ما أشبهه و مثله
قول النبي ص و قد سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقيقة و من شاء منكم أن يعق عن ولده فليعق
فطابق اللفظ و إن اختلف المعنيان و هذا كثير في كلامهم فأما ما يدعى في هذا الباب من الحديث فلا يلتفت
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 17
إليه لأن الأخبار يجب أن تبنى على أدلة العقول و لا تقبل في خلاف ما تقتضيه العقول و لهذا لا تقبل أخبار الجبر و التشبيه و نردها أو نؤولها إن كان لها مخرج سهل و كل هذا لو لم يكن الخبر الوارد مطعونا على سنده مقدوحا في طريقه فإن هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة و هو منقطع لأن الحسن لم يسمع من سمرة شيئا في قول البغداديين و قد يدخل الوهن على هذا الحديث من وجه آخر لأن الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية فيما رواه خلف بن سالم عن إسحاق بن يوسف عن عوف عن الحسن في قوله تعالى فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما قال هم المشركون و بإزاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير و عكرمة و الحسن و غيرهم من أن الشرك غير منسوب إلى آدم و زوجته و أن المراد به غيرهما و هذه جملة واضحة
تنزيه نوح ع
مسألة فإن سأل سائل عن قوله تعالى وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فقال ظاهر قوله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فيه تكذيب لقوله ع إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي و إذا كان النبي ص لا يجوز عليه الكذب فما الوجه في ذلك قيل له في هذه الآية وجوه كل واحد منها صحيح مطابق لأدلة العقل أولها أن نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول نفي النسب و إنما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم لأنه عز و جل كان وعد نوحا ع بأنه ينجي أهله في قوله احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فاستثنى من أهله من أراد إهلاكه بالغرق و يدل على
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 18
صحة هذا التأويل قول نوح ع إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ و على هذا الوجه يتطابق الخبران و لا يتنافيان و قد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس و جماعة من المفسرين و الوجه الثاني أن يكون المراد بقوله تعالى لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي أنه ليس على دينك و أراد أنه كان كافرا مخالفا لأبيه فكان كفره أخرجه من أن يكون له أحكام أهله و يشهد لهذا التأويل قوله تعالى على طريق التعليل إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فتبين أنه إنما خرج عن أحكام أهله بكفره و قبح عمله و قد حكي هذا الوجه أيضا عن جماعة من أهل التأويل و الوجه الثالث أنه لم يكن ابنه على الحقيقة و إنما ولد على فراشه فقال ع إن ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله تعالى أن الأمر بخلاف الظاهر و نبهه على خيانة امرأته و ليس في ذلك تكذيب خبره لأنه إنما أخبره عن ظنه و عما يقتضيه الحكم الشرعي فأخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره و قد روي هذا الوجه عن الحسن و مجاهد و ابن جريح و في هذا الوجه بعد إذ فيه منافاة للقرآن لأنه تعالى قال وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ فأطلق عليه اسم البنوة و لأنه أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ و لأن الأنبياء ع يجب أن ينزهوا عن هذه الحال لأنها تعيير و تشيين و نقص من القدر و قد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيما لهم و توقيرا و نفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم و قد حمل ابن عباس قوة ما ذكرناه من الدلالة على أن تأويل قوله تعالى في امرأة نوح ع و امرأة لوط ع فَخانَتاهُما أن الخيانة لم تكن منهما بالزنى بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون و الأخرى تدل على الأضياف و الوجهان الأولان هما المعتمدان في الآية فإن قيل أ ليس قد قال جماعة من المفسرين إن الهاء في قوله تعالى إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ راجعة إلى السؤال و المعنى أن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 19
صالح راجعة إلى السؤال بل إلى الابن و يكون تقدير الكلام أن ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و يشهد لصحة هذا التأويل قول الخنساء
ما أم سقب على بو تطيف به قد ساعدتها على التحنان أطيار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال و إدبار
و إنما أراد أنها ذات إقبال و إدبار و قد قال قوم في هذا الوجه أن المعنى في قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أن أصله غير صالح من حيث ولد على فراشه و ليس بابنه و هذا جواب من يرى أنه لم يكن ابنه على الحقيقة و الذي اخترناه خلاف ذلك و قد قرئت هذه الآية بنصب اللام و كسر الميم و نصب غير و مع هذه القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح ع و قد ضعف قوم هذه القراءة فقالوا كان يجب أن يقول إنه عمل عملا غير صالح لأن العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن حتى يقولوا عملا غير حسن و ليس هذا الوجه بضعيف لأن من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى و زوال اللبس فيقول القائل قد فعلت صوابا و قلت حسنا بمعنى فعلت فعلا صوابا و قلت قولا حسنا و قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي
أيها القائل غير الصواب أخر النصح و أقلل عتابي
و قال أيضا
و كم من قتيل ما يباء به دم و من علق رهنا إذا لفه الدما
و من مالي عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدما
أراد و كم إنسان قتيل و قال رجل من بحيلة
كم من ضعيف العقل منتكث القوى ما إن له نقض و لا إبرام
أراد كم من إنسان ضعيف العقل و القوى فإن قيل إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم قال الله تعالى فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ و كيف قال نوح ع من بعد رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ قلنا ليس يمتنع أن يكون نوح ع نهي عن سؤال ما ليس له
تنزيه الأنبياء(ع) ص : 20
به علم و إن لم يقع منه و أن يكون هو ع تعوذ من ذلك و إن لم يواقعه أ لا ترى أن نبينا ص قد نهي عن الشرك و الكفر و إن لم يقعا منه في قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و إنما سأل نوح ع نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع فلما بين الله تعالى أن المصلحة في غير نجاته لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال و أما قوله تعالى إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فمعناه لأن لا تكون منهم و لا شك في أن وعظه تعالى هو الذي يصرف عن الجهل و ينزه عن فعله و كل هذا واضح
source : في تنزيه آدم ع /علم الهدي/دار العرفان