قال الرسول الاکرم (صلی الله عليه وآله وسلم) " إن لكل أمة فتنة. وفتنة أمتي المال " (1)، ولما كان فتنة الأمة في المال، بينت الشريعة الخاتمة موضع الرحاب الآمن، وشاء الله أن يكون الأمن في فعل الرسول، بمعنى أن النجاة لن تكون في منع الرواية عن الرسول، لأن الله تعالى بين موضع كل مال. وقسمه بين عباده تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد، وهذه القسمة وهذه القوانين نفذها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وفي الوقت الذي كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقيم الحجة. كان يخبر بالغيب عن ربه ويقول " إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم " (2)، وأمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بأوامر تدفع هذا الهلاك، ومنها التقدم بالصدقة، لأن من خاصتها أنها تنمي المال. لأنها تنشر الرحمة وتورث المحبة. وتآلف القلوب وتبسط الأمن. وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والفساد والسرقة. وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعونة. وبذلك يفسد أغلب طرق الفساد، وحذر عليه الصلاة والسلام من التعامل بالربا، لأن الربا من خاصته أنه يمحور المال ويفنيه تدريجيا، من حيث أنه ينشر القسوة والخسارة ويورث البغض والعداوة وسوء الظن، ويفسد الأمن والحفظ. ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت، ويدعو إلى التفرق والاختلاف، وبذلك يفتح أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال.
ولأن المجتمع في نظر الشريعة ذو شخصية واحدة، له كل المال الذي أقام به صلبه وجعله له معاشا، فإن الشريعة الزمت المجتمع بأن يدير المال ويصلحه ويعرضه معرض النماء، ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا. ويحفظه من الضيعة والفساد، ومن مجملات القرآن التي تتعلق بالأموال وبينها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ليستقيم حال المجتمع، قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (3)، والمعنى:
يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنائم التي غنمتها. فقل: هي لله والرسول. يحكم فيها الله بحكمه ويقسمها الرسول. وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال " إنما أنا قاسم وخازن. والله يعطي " (4)، وقال " ما أعطيكم ولا أمنعكم أنا قاسم أضع حيث أمرت " (5)، وبين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حكم الله في الغنيمة، وقال تعالى: (واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله...) (6)، وبين الرسول حكم الخمس وحكم الأربعة أخماس، وعلموا حق الذين حرمت عليهم الصدقة من ذي القربى، وحق الجنود.
وقال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله. فريضة من الله والله عليم حكيم) (7)، قال المفسرون: بين الله تعالى أنه هو الذي قسم الصدقات وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره، فقوله
" فريضة من الله " إشارة إلى أن تقسيمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض منه تعالى، وإشارة إلى أن الزكاة فريضة واجبة، وقوله تعالى:
(والله عليم حكيم) إشارة إلى أن فريضة الزكاة مشرعة على العلم والحكمة، لا تقبل تغيير المغير.
وروى أبو داوود عن زياد بن الحارث قال " أتيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فبايعته. فأتاه رجل. فقال: اعطني من الصدقة، فقال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها. فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ".
وأقامت الشريعة الخاتمة الحجة على المسيرة، فأخبر النبي الخاتم (صلی الله عليه وآله وسلم). إن فتنة أمته في المال، وبين كيف تدخل الأمة في حجاب الأمن. وفي الوقت الذي بين فيه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حكم الغنيمة أخبر بالغيب عن ربه، بأن فتنة المال ستصيب البعض، وقال " كأني براكب قد أتاكم فنزل. فقال. الأرض أرضنا والفيئ فيئنا وإنما أنتم عبيدنا. فحال بين الأرامل واليتامى وما أفاء الله عليهم " (8)، أخبر النبي بهذا حتى يأخذوا بالأسباب وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء. لأن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
إجتهاد الصحابة في الأموال
الساحة بعد رسول الله كان بها صحابة سمعوا من النبي شيئا ولم يحفظوه على وجهه. وكان بها من سمع منه شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم. فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، وأدى هذا في نهاية المطاف إلى تضارب القرارات ثم ضياع مال الله في عهد بني أمية. بعد أن بسطوا أيديهم على بيوت المال، وبالجملة نقدم هنا الأحاديث التي تشهد بالمقدمات الأولى.
روى البخاري ومسلم. عن عائشة أن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم).
سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث ما تركناه صدقة، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرة له حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ستة أشهر، فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر ذلك.. " (9).
وروى الإمام أحمد " لما قبض رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: فقال: أأنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ فقال:
بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. إني سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين " (10).
ولقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن أبا بكر أبى أن يعطي فاطمة رضي الله عنها ما ترك رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، وذلك لما عنده من حديث لم يرويه غيره. وفي عهد عمر روى البخاري ومسلم. أن صدقة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالمدينة. دفعها عمر إلى علي بن أبي طالب والعباس. وأمسك خيبر وفدك (11)، وذلك أيضا لما عنده من حديث، وروي أن أهل البيت ردوا إلى عمر ما دفعه إليهم لأنهم وجدوه دون حقهم الذي بينه رسول الله لهم، فعن يزيد بن هرمز. أن نجدة الحروري أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى. ويقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس: لقربى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، قسمه لهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله " (12).
وكان لقرار منع ميراث الرسول وصدقته آثار جانبية منها:
التعتيم على أهل البيت، لأن خروجهم من تحت سقف ما كتبه الله لهم وهم الذين حرمت عليهم الصدقة، يجعلهم كغيرهم من الناس، ولم يفعل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) هذا في حياته. وإنما كان يضع الناس في مواضعهم التي حددها الله تعالى، فعن جبير بن مطعم قال " مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم). فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد " (13) وفي رواية " إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام. وإنما نحن وهم شئ واحد. وشبك بين أصابعه " (14).
أما فيما يختص بحقوق الجنود. فقد بينه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حين سئل:
ما تقول في الغنيمة؟ قال: لله خمس. وأربعة أخماس للجيش " (15). لكن عمر بن الخطاب اجتهد في هذا، وأمر بوضع جميع الغنائم في بيت المال ثم قام بتقسيم هذه الغنائم وفقا لما يراه، ودون على ذلك الدواوين، وعدم قسمة عمر للغنائم يشهد به ما روي عن إبراهيم إنه قال: لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر: إقسمها بيننا فإنا فتحنا، فأبى عمر وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين " (16) وقال عمر " لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله خيبر سهمانا، ولكني أردت أن يكون جزية تجري على المسلمين، وكرهت أن يترك آخر المسلمين لا شئ لهم " (17) وفي رواية قال: ولكني أتركها خزانة لهم (18).
ويشهد التاريخ أن هذه الخزانة أضرت أكثر مما نفعت، فبعد أن بسطت بنو أمية أيديهم على بيوت المال التي تركها عمر بن الخطاب، اتخذوا دين الله دغلا، ومال الله دولا، وعباد الله خولا، واستمرت بيوت المال على امتداد المسيرة يشترى بها الحكام الذمم ويسفكون بها الدم الحرام.
وكان هناك العديد من الصحابة الذين عارضوا سياسة عدم قسمة الغنائم على سنة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، منهم الزبير بن العوام، فعن سفيان بن وهب قال: لما فتحنا مصر بغير عهد، قام الزبير فقال: إقسمها يا عمرو بن العاص فقال: لا أقسمها، فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله خيبر، فقال: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب عمر إليه: أقرها حتى تغزوا منها حبل الحبلة (19)، قال المفسرون في رد عمر،. يريد حتى يغزو أولاد الأولاد ويكون عاما في الناس.
وقيل: أو يكون أراد المنع من القسمة حيث علقه على أمر مجهول.
ويشهد التاريخ أن عمرو بن العاص بسط يده على مصر كلها وكان خراجها له طيلة حياته في عهد معاوية بن أبي سفيان، وذلك عندما تكاتف عمرو مع معاوية على علي بن أبي طالب، فكافأه معاوية بأن تكون مصر له طعمة، ومن الذين اعترضوا على قرار عمر. بلال بن رباح، قال له عندما افتتحوا أرضا: إقسمها بيننا وخذ خمسها، فقال عمر: لا هنا عين المال، ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه: إقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال راوي الحديث: فما حال الحول ومنهم عين تطرف (20) أي: ماتوا بفضل دعاء عمر.
وكان بلال كثير الاعتراض على سياسة عمر. عن ابن أبي حازم قال: جاء بلال إلى عمر حين قدم الشام. وعنده أمراء الأجناد. فقال. يا عمر. يا عمر. إنك بين هؤلاء وبين الله، وليس بينك وبين الله أحد، فأنظر من بين يديك ومن عن يمينك ومن شمالك، فإن هؤلاء الذين جاؤوك (أي أتباع بلال) والله لم يأكلوا إلا لحوم الطير (أي لم يصل إليهم من الأمراء شيئا)، فقال عمر للأمراء: لا أقوم من مجلسي هذا حتى تكفلوا لي لكل رجل من المسلمين بمديت (21) بر وحظهما من الخل والزيت، قالوا: تكفلنا لك يا أمير المؤمنين (22).
أما قسمة عمر بن الخطاب بين الناس، فلقد فضل عمر المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم، وروي أنه قال " من أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما، ألا وإني بادئ بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي فمعطيهم، ثم بادئ بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان فمعطيهم، ثم بادئ بأزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فمعطيهن، - وفي رواية " ففرق لأزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) إلا جويرية وصفية وميمونة. فقالت عائشة: إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يعدل بيننا. فعدل بينهن عمر " (23). ثم قال عمر: من أسرعت به الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ به عن العطاء فلا يلومن أحدكم إلا مناخ راحلته " (24).
وبالجملة: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أيما قرية افتتحها الله ورسوله فهى لله ورسوله، وأيما قرية افتتحها المسلمون عنوة، فخمسها لله ولرسوله وبقيتها لمن قاتل عليها " (25)، وكان (صلی الله عليه وآله وسلم) يسوي بين الجنود في القسمة، ولم يخص أحدا بشئ دون الآخر (26)، ولقد أخبر بالغيب عن ربه بما سيحدث من بعده، وقال لأبي ذر " كيف أنت وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيئ. إصبر حتى تلقاني، (27)، وقال " خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا كان إنما هو رشا فاتركوه، ولا أراكم تفعلون، يحملكم على ذلك الفقر والحاجة، ألا وإن رحى بني مرج قد دارت، وإن رحى الإسلام دائرة، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان، فدوروا مع الكتاب حيث دار.. " (28).
وإذا كان الاجتهاد قد أخرج أهل البيت والجنود الذين شاركوا في المعارك من تحت سقف قسمة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم). فإن الاجتهاد. قد أخرج المؤلفة قلوبهم من تحت سقف القسمة التي قسمها الله تعالى.
ولقد ذكرنا من قبل أن الله تعالى هو الذي قسم الصدقات، وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره،
وجزءها سبحانه ثمانية أجزاء. لا تقبل تغيير المغير، قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله فريضة من الله) (29) وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا صنفان: صنف كفار وصنف أسلموا على ضعف، وذلك ليأمن شرهم وفتنتهم، لأن من شأن الصدقة أنها تؤلف القلوب وتبسط الأمن، وظل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يعطي هذا السهم للمؤلفة قلوبهم ليعاونوا المسلمين أو ليتقوى إسلامهم. حتى وفاته (صلی الله عليه وآله وسلم).
وكان أبو سفيان (30) وابنه معاوية (31) من الذين أعطاهم النبي من سهم المؤلفة قلوبهم، وروي أن عمرو بن العاص حين جزع عن موته فقيل له: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدينك ويستعملك.
فقال: أما والله ما أدرى أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني " (32)، وعلى الرغم من أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يعطي أبا سفيان من سهم المؤلفة، إلا أن الصحابة كانوا يختلفون في تحديد موقعه، روي أن أبي سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فأتى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر. فقال: يا إخوتاه أغضبتكم، قالوا: يغفر الله لك يا أخي (33)، قال النووي: هذه فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء (34). وروي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أعطى قريشا حين أفاء الله عليه أموال هوازن، فقال الناس من الأنصار: يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فعندما سمع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بمقالتهم، أرسل إلى الأنصار فجمعهم ولم يدع أحد غيرهم، فقال: " إني لأعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله إلى رحابكم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا:
أجل يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم " إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني فرطكم على الحوض " (35).
لقد كان في سهم المؤلفة امتحان وابتلاء. ولكن الصحابة بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) اجتهدوا فيه..
روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين وكانا من المؤلفة قلوبهم، جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر، فكتب بذلك خطأ، فمزقه عمر بن الخطاب، وقال: هذا شئ كان يعطيكموه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) تأليفا لكم، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف، فرجعوا إلى أبي بكر. فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال أبو بكر: هو إن شاء الله. ووافق عمر " (36).
وعن الشعبي أنه قال: كانت المؤلفة على عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، فلما ولي أبو بكر انقطعت (37)، واعترض ابن قدامة على انقطاع سهم المؤلفة وقال: إن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم، والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال " إن الله حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاءا " وكان عليه الصلاة والسلام يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وانقراض زمن الوحي، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ لذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره (38).
والخلاصة: ختم الله تعالى آية الأنفال بقوله (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (39)، وفي هذا تحذير من الاختلاف، وإخبار بأن طاعة الرسول طاعة لله، وختم سبحانه آية الخمس بقوله (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (40)، قال ابن كثير: أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزلنا على الرسول في القسمة (41) وختم سبحانه آية الزكاة بقوله (فريضة من الله والله عليم حكيم) (42) قال ابن كثير: أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه، فهو تعالى عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به (43).
والمسيرة قد اجتهدت تحت سقف الامتحان والابتلاء، ولكن أحاديث الإخبار بالغيب، وحركة التاريخ، تثبت أن بعض هذه الاجتهادات انتهت في نهاية المطاف إلى دائرة لا تحقق الأمان بصورة من الصور، قد تكون بيوت المال قد امتلأت بالذهب والفضة عند المقدمة، ولكن عند النتيجة نرى أن تفضيل هذا عن ذاك في القسمة، أدى إلى الصراع القبلي بين ربيعة ومضر، وبين الأوس وبين الخزرج (44) وأشعل الصراع العنصري بين العرب والعجم. والصريح والموالي (45) كما أدى الاجتهاد في الخمس إلى اختلاف الأمة في من هم عشيرة النبي الأقربين؟ ومن هم أهل بيته وعترته؟، وأدى الاجتهاد في الأربعة أخماس الخاصة بالجنود، إلى احتواء الأمراء في الأمصار على معظم هذه الأموال، وكان لهذا أثرا سيئا على امتداد المسيرة، وأدى الاجتهاد في سهم المؤلفة، إلى استواء ضعيف الإيمان مع قوى الإيمان، وأدى إلى تهييج النفوس على الانتقام بأي وسيلة، لأن الصدقة من خصائصها أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة. وتألف القلوب. وتبسط الأمن، فإذا أمسكت، وكان تحت سقف الأمة منافقين، منهم اثني عشر رجلا أخبر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ولن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل سم الخياط. كان إمساكها سببا في فتح طرق الفساد.
المصادر :
1- رواه الترمذي وصححه (الجامع 569 / 4).
2- رواه أبو داوود عن أبي موسى (كنز 191 / 3) والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود (كنز 191 / 3).
3- سورة الأنفال آية 1.
4- رواه البخاري (الصحيح 190 / 2).
5- رواه البخاري (الصحيح 192 / 2).
6- سورة الأنفال آية 41.
7- سورة التوبة آية 60.
8- رواه ابن النجار (كنز 195 / 11).
9- رواه البخاري (الصحيح 186 / 2) وأحمد ومسلم والبيهقي (كنز 242 / 7).
10- رواه أحمد بإسناد صحيح (الفتح الرباني 63 / 23).
11- رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي (كنز 242 / 7).
12- رواه مسلم وأحمد وأبو داوود والنسائي (الفتح الرباني 77 / 14).
13- رواه البخاري (الصحيح 196 / 2).
14- رواه أحمد (الفتح الرباني 76 / 14) وأبو داوود حديث 2980.
15- رواه البغوي (كنز العمال 375 / 4).
16- رواه أبو عبيد وابن زنجويه (كنز 574 / 4).
17- رواه أحمد والبخاري وابن خزيمة في صحيحه وابن الجارود والطحاوي وأبو يعلى وابن أبي شيبه وأبو عبيد (كنز 555 / 4).
18- رواه البخاري وأبو داوود (كنز 514 / 4).
19- رواه الشيخان وابن عساكر وابن زنجويه وأبو عبيد (كنز 557 / 4).
20- المغني / لابن قدامة 716 / 2.
21- مكيال معروف بالشام.
22- رواه أبو عبيد (كنز العمال 575 / 4).
23- رواه البيهقي (كنز العمال 578 / 4).
24- رواه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبيهقي وابن عساكر (كنز 556 / 4).
25- رواه البخاري ومسلم (كنز العمال 378 / 4).
26- الفتح الرباني 72 / 13، كنز العمال 375 / 4.
27- رواه أحمد وأبو داوود وابن سعد (كنز العمال 373، 374 / 4).
28- عن أبي مطير باختصار (كنز 216 / 1) أبو داوود حديث 2958.
29- سورة التوبة آية 60.
30- صحيح مسلم 156 / 7. البداية والنهاية 359 / 4، كنز العمال 176 / 9.
31- البداية والنهاية 359 / 4.
32- أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 310 / 22) الزوائد 353 / 9) وابن سعد (الطبقات 263 / 1).
33- رواه مسلم (الصحيح 16 / 16).
34- مسلم شرح النووي 16 / 16.
35- رواه البخاري ومسلم وأحمد (الفتح الرباني 89 / 14).
36- الفتح الرباني 62 / 9، الدر المنثور 252 / 2، تفسير المنار 496 / 10، فقه السنة / سيد سابق 425 / 1.
37- رواه ابن أبي شيبة والطبراني (تحفة الأحوازي 335 / 3).
38- المغني / ابن قدامة 666 / 2.
39- سورة الأنفال آية 1.
40- سورة الأنفال آية 41.
41- تفسير ابن كثير 313 / 2.
42- سورة التوبة آية 60.
43- تفسير ابن كثير 366 / 2.
44- تاريخ اليعقوبي 106 / 2.
45- ابن أبي الحديد 111 / 8.
/ج
source : راسخون