الحروب المتلاحقة خلال خمس سنوات تقريباً، حروب الجمل وصفين والنهروان، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع الشامية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم ولدت في نفوس أصحاب الإمام علي (عليه السلام) حنيناً إلى السلم والاستراحة. فقد مرت عليهم سنوات وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلا ليشهروه في حرب أخرى إلى جانب هذا كانوا لا يحاربون جماعات غريبه عنهم، وإنما يحاربون إخوانهم وعشائرهم وأصحابهم الذين تربطهم بهم مودة ومعرفة. ولا ريب أن مثل هذا الشعور بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد الإمام علي إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم، حيث اكتشف زعماء القبائل ومن إليهم أن سياسة أمير المؤمنين لا يمكن أن تلبي مطامحهم التي تزكيها سياسة معاوية في دفع المال وإقطاع الولايات، فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه. وقد ساعد على تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد أن أطلقت من عقالها بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولا يخفى أن الإنسان القبلي عالمه قبيلته، ينفعل بانفعالاتها ويطمح بطموحاتها، ويعادي من يعاديها. فهو كما وصفه أحد الشعراء:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وقد عبر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق. فلم يستجيبوا للإمام علي علیه السلام حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفين:
ولما استشهد الإمام علي (عليه السلام) وبويع للإمام الحسن بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدها، وخاصة عندما دعاهم الإمام الحسن علیه السلام للتجهيز لحرب الشام، حيث كانت الاستجابة باردة جداً. ثم جهز جيشاً ضخماً إلا أنه كتب عليه الهزيمة قبل ملاقاة العدو وذلك بسبب التيارات المتعددة التي كانت تتجاذبه. فقد (خف معه أخلاط من الناس: بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم خوارج يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب حيلة وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك وأصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم). وكان هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية واعدين بأن يسلموه الحسن حياً أو ميتاً. وحين خطبهم الإمام الحسن ليختبر مدى إخلاصهم هتفوا من كل جانب (البقية البقية)بينما هاجمته طائفة تريد قتله. وفي الوقت نفسه أخذ الزعماء يتسللون تحت جنح الليل بعشائرهم.
ولما رأى الإمام الحسن، أمام هذا الوضع السيء، أن الظروف النفسية والاجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال، ورأى أن الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتع معاوية بنصر حاسم، حينئذٍ جنح إلى الصلح بشروطها. هكذا كانت الحال في عهد الإمام الحسن أما حالة الناس أثناء ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وفيما بعدها فقد ازدادت سوءاً أو أصبح الأمر أكثر حراجة:
فالذعر والخوف قد أطبق على الناس، وقل الديانون كما أشار إلى ذلك الإمام الحسين بقوله: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون).
وظل الامام الحسين (عليه السلام) يقاتل مع قلة من أهل بيته وأصحابه حتى سقط شهيداً مخضباً بدمائه الطاهرة على رمال كربلاء التي شهدت تلك المأساة الدموية التي لم يشهد التاريخ فظاعتها. وحينما استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه تصور الأمويون وعامة الناس أن أهل البيت قد انتهى أمرهم، وأفل نجمعهم، فلا الأمويون يخافونهم، ولا غير الأمويين يرجونهم...إلى جانب هذا لم يجرأ أحد على الاتصال بهم، والجهل المطبق بالإسلام، فكانت الردة عن أهل البيت (عليهم السّلام) عامة وشاملة. وهذه هي الوضعية الاجتماعية والسياسية التي كان يعيش في ظلها الإمام زين العابدين (عليه السلام). وقد عايشها بوضوح كامل مع عمه الحسن (عليه السلام) ومع أبيه الحسين (عليه السلام) واستمرت هذه الظروف على أشدها طوال حياته... فكيف يتصرف؟ وكيف يتحرك؟ وكيف تعامل مع الملوك والولاة الظالمين؟ هل يترك الأمور على ما هي؟ أم يرفع السيف للحرب؟.
المعروف عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) أنه لم يرفع السيف في ذلك الوقت ولم يجهز جيشاً للقيام بثورة، إنما اتجه اتجاهات أخرى كانت في نظره أجدى في بناء الأمة وإعدادها للوقوف أمام تلك الانحرافات الخطيرة التي حدثت على نطاق الحكم وفي داخل المجتمع. فما هي الأسباب التي دفعت الإمام (عليه السّلام) إلى الإمتناع عن القيام بالثورة في ذلك الوقت.
أ - الوضع السياسي والاجتماعي للأمة:
لقد وصلت الأمة إلى حالة من الإنهماك النفسي والجسدي بحيث لا يمكنها القيام بثورة شاملة. رأينا موقف المقاتلين المأساوي من الإمام الحسن عليه السّلام. كما رأينا كيف فعلت رشاوي معاوية فعلها بين رؤساء القبائل، أضف إلى ذلك: التضليل الديني والسياسي وإحياء النزعات القبلية الجاهلية، أمام هذه الأسباب وصلت الأمة إلى حالة من القعود والاسترخاء بحيث أصبحت غير مؤهلة لحمل الرسالة وأداء الأمانة، فكيف سيكون موقف الإمام (عليه السّلام) لو دعا إلى الثورة؟ ستكون النتيجة حتماً الخذلان والفشل.
ب - عدم وجود قوة كافية ومؤهلة للثورة:
لم تكن هناك قوة كافية ناصرة ومؤيدة واعية لأهداف الثورة التي على الإمام القيام بها. وقد أكد (عليه السلام) على ذلك مراراً، (روى النهدي قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السّلام) يقول: ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا)(1). والحب الذي يعنيه الإمام هو الحب المقرون بالاتباع والإخلاص لأهل البيت (عليهم السلام) فكيف يمكن للإمام أن يثور بشلة قليلة أمام جيش أموي كبير؟ لا يمكن تصور ذلك أبداً. علماً أن الإمام السجاد (عليه السّلام) كان واقعياً جداً في تصرفاته الحكيمة والدقيقة. إن الصفات الإسلامية المطلوبة في الثائرين غير موجودة. وفي الرواية التالية يبين لنا الإمام (عليه السّلام) رأيه بوضوح عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد بصعوبته وأقبلت على الحج ولينته، إن الله عز وجل يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة *يقاتلون في سبيل الله فَيَقْتُلُوْنَ ويُقْتَلُوْن وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن * ومن أوفى بعهده من الله فاستبشر ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)(2). فقال له (عليه السلام):
أتم الآية، فقال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)(3)
إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحج)(4).
فإذا وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث بجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالى سينصرهم حتماً وسينتصر بهم: (التائبون، العابدون... هؤلاء هم أنصار الله وأحباؤه... وليس المراؤون المخادعون الكذابون المراوغون، ذله أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون... وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانتصر بهم انتصاراً باهراً بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلى الدرجات الرفيعة والصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم.
ج - الاستفادة من التجارب السابقة:
لقد تجرع الإمام الكثير من الآلام بسبب ما أصابه من غم وهم الحوادث التي جرت على جده أمير المؤمنين وعلى أبيه الإمام الحسين وعلى عمه الإمام الحسن (عليهم السّلام)، وقد رأى خذلان الناس عن نصرة أبيه وحيداً، فريداً، عطشاناً على شط الفرات هذه التجربة أثرت في نفسه وتعلم منها دروساً واقعية مؤلمة واستخلص عبراً كثيرة في معرفة نفوس الناس وأحوالهم وأسلوبهم، ولم يكن للأئمة المعصومين: علي والحسن والحسين عليهم السّلام من سبيل أفضل مما فعلوه مع هذه الأمة، فالأساليب التي اتبعوها والمواقف التي اتخذوها مع الناس لم يكن أمامهم غيرها...
ولذلك لم يستجب الإمام زين العابدين لدعوة أهل العراق بالثورة، وقد بيّن ذلك واتخذ موقفاً حاسماً واضحاً تجاههم. نتلمس السبب في خطبته عليه السّلام أمام أهل الكوفة بعد مقتل أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) قال" (رحم الله امرءا قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا سامعون، ومطيعون، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرنا يرحمك الله فإنَّا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا، فقال (عليه السّلام): هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل!؟ كلا! فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيتي معه، ولم ينسني ثكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وثكل أبي وبني أبي، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ثم قال:
لا غرو أن قتل الحسين فشيخه قد كان خيراً من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصاب حسيناً كان ذلك أعظما
قتيل بشط النهر روحي فداؤه جزاء الذي أراده نار جهنما
كما نرى في عبارات الإمام السجاد عليه السّلام:
ولم ينسني ثكل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وثكل أبي وبني أبي، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري.
هذه الكلمات تحمل بين طياتها المرارة والألم الشديد في كل قطعة من جسم الإمام (عليه السّلام) والغصة ما برحت باقية في حلقه حزناً وكمداً من هذه التجربة المرة جعلته يتخذ موقفاً حاسماً لا مهادنة فيه بأن لا يكرر التجربة التي مرت على آبائه وأهل بيته يرفض الاستجابة لم يدعوه القيام بالثورة على الحكم الأموي دون أن يطمئن لأسباب الانتصار.
د - قسوة الملوك وانحرافهم عن الإسلام:
المتتبع للتاريخ يرى بوضوح أن من أسباب فشل الثورات التي قامت في عهد الأمويين والعباسيين هو حدوثها في وقت قوة الحكام والولاة لا في زمن ضعفهم.
لقد كان الملوك الأمويون وولاتهم في عصر الإمام (عليه السّلام) في أوج قوتهم في ملكهم ويشهد التاريخ بأنهم أشد الناس قسوة وانحرافاً عن الإسلام حيث وصل بهم الأمر إلى رمي الكعبة بالمجانيق وسبي المدينة وقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وملوك عصره هم: يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. وولاة عصره هم: الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد الله بن زياد وهشام بن إسماعيل والي المدينة.
وكل هؤلاء كانوا من الفاسقين، والظالمين، لا يتورعون عن ارتكاب الحرام، ففي عهدهم قتل أشرف الناس أبيّ الضيّم سيد الشهداء، الحسين بن علي، وسبيت المدينة وهدمت الكعبة ورميت بالمجانيق. ويزيد الخمير السكير كان صاحب جوار وكلاب وقرود ومنادمة على الشراب. والحجاج بن يوسف الثقفي كان ظالماً غشوماً أهلك الحرث والنسل وتطاول على الصحابة الشرفاء والعلماء الفضاء. هذان نموذجان من النماذج العديدة من الملوك والولاة الذين كان قد عاصرهم الإمام عليه السّلام فمثلهم يجب أن تعد لهم العدة الكافية ليقضي على طغيانهم وجبروتهم، وهذا ما لم يكن متوفراً للإمام زين العابدين عليه السّلام.
المصادر :
1- بحار الأنوار، ج46، ص143.
2- سورة التوبة: الآية 111.
3- سورة التوبة: الآية 112.
4- الكافي الكليني، ج5، ص26.