إنّ الموضوع المهم هو تبيين نظام الحكم بعد رحيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ودراسة الظروف التي رافقت رحيله ، فهل الظروف السائدة آنذاك تؤكِّد على تنصيب الإمام وتعيينه من جانبه سبحانه ، أو على تفويضها إلى الأُمّة وقيامها بتعيين الحاكم الإسلامي ، ودراسة هذا الموضوع عن كثب ، رهن الإشارة إلى الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي الفتيّ.
إنّ الأُمة الإسلامية قُبيل وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت محاصرة من جهة الشمال والشرق من قبل امبراطوريتين عظيمتين ، وهما : الروم وإيران ، هذا من الخارج.
وأمّا من الداخل فلقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدو الداخلي أو ما يسمّىٰ بالطابور الخامس ،
كانت الامبراطورية الرومية في شمال الجزيرة العربية وكانت تشغل بال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم طيلة حياته ، وقد نشبت بينها وبين المسلمين معارك طاحنة في السنة الثامنة من الهجرة ، عندما قتلوا رسول النبي صلىاللهعليه وآله وسلم أعني : الحارث بن عمير الأزدي ، فانّه لمّا وصل أرض « مؤتة » تعرض له شرحبيل بن عمرو الغسّاني وضرب عنقه ، وقد أدّىٰ هذا الأمر إلى أن يبعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن الحارثة ، وعبد الله بن رواحة فقُتل الجميع ، ورجع الجيش منهزماً إلى المدينة.
ولقد أثارت هزيمة المسلمين في هذه المعركة نكسة في نفوس المسلمين ، وزادت جرأة جيوش الروم على التعرض للمسلمين. فلذلك قاد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في السنة التاسعة جيشاً جرّاراً قصد به غزو الروم لما وصلت إليه الأخبار بأنّ الروم بصدد الإغارة عليهم ، فقاد النبي ذلك الجيش إلى تبوك وكان له أثر بالغ في زعزعة معنويات جيوش الروم ، ورفع معنويات المسلمين ، ومع ذلك لم يكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بغافل عن خطرهم ، وقد أوصى في أواخر حياته بتجهيز جيش بقيادة أُسامة بن زيد بغية مواجهة الروم.(1)
المنافقون هم الذين استسلموا للمدِّ الإسلامي وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً ، فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام ، ويخفون نواياهم السيئة ويتحيّنون الفرُص بغية الانقضاض على المسلمين والإطاحة بهم.
ولقد بلغ خطر المنافقين بمكان أصبح يهدد كيان المجتمع الإسلامي ، لأنّهم كانوا يحيكون مؤمرات خفيّة ينقاد لها السُّذّّج من الناس ، ولأجل ذلك شدّد القرآن الكريم على ذكر عذابهم أكثر من أي صنف آخر ، وقال : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... ).
ويحدّثنا التاريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً وخطيراً في تعكير الصف الإسلامي وإتاحة الفرصة لأعداء الإسلام بغية تمرير مخططاتهم سواء أكان قبل انتشار صولة الإسلام وبعده.
وعلى هذا فكان من المحتمل بمكان أن يتحد هذا الخطر الثلاثي الاجتثاث جذور الإسلام عقب رحيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وغياب شخصه عن ساحة الصراع السياسي.
سيادة الروح القبلية على المجتمع الإسلامي الفتي لقد كانت الروح القبلية سائدة على المجتمع الإسلامي الفتيّ يومذاك ، وكان لرئيس القبيلة نفوذ واسع بين أفراد قبيلته ، وقد كان الولاء للقبيلة متوغلاً في نفوسهم حتى بعد إسلامهم رغم ما تلقّوه من التعاليم الإسلامية والتربية القرآنية ، ولذلك كانت تلك النزعة تظهر بين الفينة والأُخرى وينشب بسببها النزاع ويكاد يتسع لولا حكمة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتدبيره.
ويكفي في ذلك ما رواه أهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ).
وقد نشب نزاع في العام السادس من الهجرة في أرض بني المصطلق عند ماء ، حيث تنازع رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار على سقي الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري فقال : يا معشر الأنصار ، والآخر قال : يا معشر المهاجرين ، فاجتمع من كلٍّ رهطٌ بسيوفهم ، فلولا حكمة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لسالت دماء في أرض العدو حيث قدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « دعوها فانّها دعوى منتنة » (2) يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهلية ، وجعل الله المؤمنين إخوة وحزباً واحداً.
وكم لهذا الموقف من نظائر في التاريخ ، وبإمكانك أن تقرأ دور شاس بن قيس الذي كان شيخاً من اليهود كيف خطّط لإثارة النعرات الطائفية بين الأوس والخزرج حتى كادت أن تندلع الفتنة بينهما مرة أُخرى إلا أنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أخمدها بحكمة بالغة ، قائلاً : يا معشر المسلمين الله الله ، أبدعوى الجاهلية وانا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ،
واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم ». (3)
كل ذلك يدل على وجود رواسب الجاهلية بين قبيلتي الأوس والخزرج حتى بعد اعتناقهم الإسلام وانضوائهم تحت لوائه. ويشهد على ذلك مضافاً إلى ما مرّ ما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة الإفك ، قال : قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي والله ماعلمت علىٰ أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاّ معي ».
قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.
قالت : فقام رجل من الخزرج وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ـ ،
قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة ـ فقال لسعد بن معاذ :
كذبت لعمرو الله ، والله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل.فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ، لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت عائشة : فثار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قائم على المنبر.
قالت : فلم يزل رسول الله يخفّضهم حتى سكتوا وسكت. (4)
فكيف يجوز والحال هذه أن يترك الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أُمَّته المفطورة على العصبيات القبلية ، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصهاً على النفس ، ورفض سلطة الآخر ؟
فهل كان يجوز للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يترك تعيين مصير الخلافة لأُمَّة هذه حالها ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟
وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الأُمَّة جمعاء على واحد ، ولا تخضع للرواسب القبلية ، ولا تبرز إلى الوجود مرة أُخرى ما مضى من الصراعات العشائرية وما يتبع ذلك من حزازات ؟
أم هل يجوز لقائد يهتم ببقاء دينه وأُمّته أن يترك أكبر الأُمور وأعظمها وأشدها دخالة في حفظ الدين ، إلى أُمة نشأت على الاختلاف ، وتربَّت على الفرقة ، مع أنّه كان يشاهد الاختلاف منهم في حياته أحياناً ، كما عرفت ؟
إنّ التاريخ يدل على أنّ هذا الأمر قد وقع بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة ، منتحلة لنفسها أعذاراً وحججاً وطالبة ما تريد بكلّ ثمن حتى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلامية والوصايا النبوية.
فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة ، تفرق الكلمة » (5)
نقلاً عن عمر بن الخطاب ما يدل على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد.
هذه صورة مصغرة من تاريخ المسلمين في العصر الأوّل ، وقد عرفت أنّ الأعداء كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر للقضاء عليهم من الخارج والداخل.
ومن جانب آخر كانت الرواسب القبلية خامرة في نفوسهم تبرز بين الحين والآخر.
فهذه الظروف تفرض على قائد حكيم كالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يفكِّر مليّاً في مستقبل الأُمة الإسلامية بعد رحيله ، فيخطّط تخطيطاً حكيماً للحيلولة دون مضاعفات الخطر الثلاثي والتعصبات القبلية التي تهدد كيان الإسلام وتقوّض أركانه من خلال نصب قائد بأمر من قبل الله سبحانه يقود الأُمة الإسلامية إلى ساحة الجهاد بُغية دفع الأخطار المحدقة بهم ، وبقداسته ومثاليته وكونه منصوباً من الله سبحانه يقطع دابر الخلاف في تعيين الخليفة ، وهذا بخلاف ما لو ترك الأُمة على حالها والعدو ببابها والنزاع القبلي على قدم وساق.
الصحابة ومؤهلات القيادة
لم تبلغ الأُمّة الإسلامية ـ كما يشهد عليه التاريخ ـ المستوى الفكري الذي يؤهلها إلى تدبير أُمورها وإدارة شؤونها وقيادة سفينتها إلى ساحل الأمان دون حاجة إلى نصب قائد من الله سبحانه.
وقد كان عدم بلوغ الأُمّة هذا المستوىٰ أمراً طبيعياً ، لأنّ إعداد أُمّة كاملة بحاجة إلى مزيد من الوقت ولا يتيسر ذلك في فترة وجيزة تبلغ 23 سنة ، وهي حافلة بأحداث مريرة ومشحونة بحروب طاحنة.
إنّ إعداد مثل هذه الأُمّة لا يمكن في العادة إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لبلورة التعاليم الإسلامية ورسوخها في أعماق النفوس بحيث تخالط مفاهيمُ الدين دماءهم ، وتتمكن العقيدة في نفوسهم إلى حد يحفظهم من التذبذب والتراجع إلى الوراء.
وهذا الحد من الكمال لم يكن حاصلاً في فترة قصيرة ، وتشهد على ذلك الأحداث والوقائع التي كشفت عن تأصُّل الأخلاق الجاهلية في نفوسهم وعدم تغلغل الإيمان في قلوبهم ، حتى أنّنا نجد أنّ القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة أُحد ، إذ يقول سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ).
ويقول أيضاً : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ).
وربما يتصوَّر أنّ هذه النكسات تختص بالسنين الأُولى من الهجرة ، ولا تختص بالسنين التي أعقبت وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لانتشار الإسلام في الجزيرة العربية واعتناق خلق كثير منهم الإسلام ، ولكن التاريخ يرد تلك المزعمة ويثبت عدم بلوغهم الذروة في أمر القيادة بحيث تغنيهم عن نصب قائد محنّك من جانبه سبحانه.
وهذه هي غزوة « حنين » التي غزاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في السنة الثامنة ، وقد أُصيب المسلمون بهزيمة نكراء تركوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ساحة الوغى ولم ينصره سوى عدد قليل ، فلمّا رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تفرَّق المسلمين حينها قارعهم بصوت عال ، وقال : « أيّها الناس هلمُّوا إليّ أنا رسول الله » ، إلى غير ذلك من الكلمات التي علّمها لعمَّه العباس حتى يُجهر بها ، وقد نقل القرآن الكريم إجمال تلك الهزيمة ، وقال : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ).
إنَّ قوله سبحانه : ( وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) يعرب عن عدم نهوضهم بمهمة الدفاع عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومثل هذه الأُمَّة بحاجة ماسّة إلى نصب قائد محنّك يلمَّ شعثهم ولا يصح تفويض أُمورها إلى جماعة هذه حالهم وهذا مقدار ثباتهم في ساحات الحرب والدفاع عن كيان الدين.
وهناك كلمة قيمة للشيخ الرئيس في بيان الأُسلوب الأفضل للحكومة الإسلامية حيث يقول : الاستخلاف بالنص أصوب ، فانّ ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف.
أهل السنَّة ومعالم الحكومة الإسلامية
إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هو القائد الذي تفانى في أداء رسالة ربّه وهداية أُمَّته بكلّ إخلاص وعزيمة ، ولم يكن شيء عنده أعزّ من هداية الناس وبقاء شريعته والنظام الذي يحمي الشريعة ، فعلى ذلك كان على مفترق طرق :
أ : أن ينصب قائداً محنكاً يخلفه في كلّ مهامه ويقطع دابر الخلافات بعده ويكون عمله نموذجاً للآخرين.
ب : أن يبيِّن معالم الحكومة وخصوصياتها بكلّ دقة وتفصيل ، حتى تستغني الأُمة بذلك عن التنصيب ويكون كلامه هو الملهم عبْر الأجيال في تعيين نوع الحكومة للمسلمين.
بيد أنّ التصور السائد عند أهل السنّة هو أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يسلك الطريق الأوّل ولم ينصب خليفة بعده ، بل ترك الأمر إلى الأُمَّة ، ومع ذلك لا يوجد في مجموع ما بأيدينا من الكتاب والروايات المروية في الصحاح والمسانيد شيء يرسم الخطوط العريضة لنوع الحكومة وأركانها وخصائصها وصفات الحاكم وبرامجه ، مع أنّه تكلم في أبسط الأُمور فضلاً عن أخطرها ، كما هو واضح لمن طالع الصحاح والمسانيد خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الإنسان.
ولمّا وجد علماء أهل السنة أنفسهم أمام تلك المعضلة حاولوا حلَّ عقدتها بترسيم خطوط عريضة لحكومة إسلامية من عند أنفسهم تارة باسم الشورى ، وأُخرى باسم أهل الحل والعقد ، وثالثة باتخاذ حكومة الخلفاء الأربعة وما يليها أُسوة وبياناً لنوع الحكومة الإسلامية وخصوصياتها.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ علماء أهل السنة لم يتجردوا عن كلّ رأي مسبق فأخذوا خصوصيات الحكومات القائمة بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حجّة شرعية للمسلمين عامة.
مع أنَّهم لم يعتمدوا في إقامة دعائم الحكومة على دليل قرآني أو سنة نبوية ، وإنّما وضعوا حلولاً استحسانية والتي لا تكون حجّة إلاّ على أنفسهم.
وها نحن نطرح هذه الفروض على بساط البحث كي يعلم مدى إتقانها.هل الشورى أساس الحكم الإسلامي ؟
هناك من اتخذ الشورىٰ أساساً للحكم الإسلامي ، واستدلُّوا على ذلك بآيتين :
الأُولى : قوله سبحانه : ( ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ... ) قائلين بأنّه سبحانه أمر نبيَّه بالمشاورة تعليماً للأُمَّة ، بأن يتشاوروا في مهام الأُمور ومنها الخلافة.
والذي يؤخذ عليه : انّ الخطاب موجّه إلى الحاكم الذي ثبت كونه حاكماً بوجه من الوجوه ثمّ أمره بالمشاورة في غير هذا الأمر. بأن يشاور أفراد الأُمّة فيمايرجع إلى غير أصل الحكومة ، غاية الأمر يتعدّى عنه إلى غير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من أفراد الأُمّة ، لكن مع حفظ الموضوع ، وهو إذا تمت حكومة فرد وثبتت مشروعيته ، فعليه أن يشاور الأُمّة ، وأمّا المشاورة في تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورىٰ فلا تعمُّه الآية.
الثانية : قوله سبحانه ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ).
استدلُّوا بالآية على أنّ نوع الحكومة يتلخص في الشورىٰ فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الغير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكل أمر ، ومنه الخلافة والإمامة فالمؤمنون بحسب هذه الآية يتشاورون في جميع أُمورهم حتى الخلافة.
يلاحظ عليه : أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور الموضوعة على عاتق المؤمنين فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسك بعموم الآية في مورده.
وبعبارة أُخرى انّ النزاع في أنّ الخلافة هل هي مفوّضة إلى الأُمَّة ، أو هي أمر مختص بالسماء ؟ ومادام لم يحرز كون هذا الموضوع من مصاديق الآية لا يحتج بها على أنّ صيغة الحكومة الإسلامية هي الشورى.
نقد فكرة أنَّ الشورىٰ أساس الحكم
1. ومما يدل على أنّ الشورى لم تدخل حيز التنفيذ طيلة التاريخ هي انّ بيعة أبي بكر قد انعقدت بخمسة ، وهم : عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة الجراح ، أسيد بن حضير ، بشر بن سعد ، وأسلم مولى أبي حذيفة. ثمّ خرجوا من السقيفة وابوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته ، ولأجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر ، ويقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها.
وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الأوّل ، وأمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورىٰ في ستة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لأحدهم ، كما هو واضح من التاريخ.
2. لو كان أساس الحكم ومنشؤه هو الشورى ، لوجب على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الأقلّ. مع انّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.
فلو كانت الشورى مبدأً للحكومة لكان على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بيان حدود الشورى وتوعية الأُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله ، ومع الأسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ومن جملة الأُمور التي كان من المفروض بيانها ، هي :
أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيون وحدهم ، أو المختلط منهم ؟
ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكم ، أم بملاك الكيف ؟
إنّ جميع هذه الأُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها وكيف سكت الإسلام عنها ، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟
3. لو كانت الشورى مبدأًً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمس متن الشورى ، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى ، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي ( 364 ـ 450 ه ) في كتابه : « الاحكام السلطانية » ويقول :
الإمامة تنعقد بوجهين :
أحدهما : باختيار أهل العقد والحل.
والثاني : بعهد الإمام من قبل.
فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة : لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أُخرى : أقلُّ من تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين :
أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب ، وأبوعبيدة الجرّاح ، وأسيد بن حضير ، وبشر ابن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
الثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العباس قال لعلي : أُمدد يدك أُبايعك ، فيقول الناس : عمّ رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ. (6)
وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.
هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ؟
هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الإسلامي وأساس له. وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الإسلامية أساساً لها ، وقد أمضاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن غير موضع ، حيث بايعه أهل المدينة في السنة 11 و 12 و 13 من البعثة ، بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.
كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه ، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم. (7)
إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى ، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ).
يذكر المفسرون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث رسولاً في صلح الحديبية إلى قريش ، وقد شاع أنَّ مبعوث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد قتل ، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش ، ولمّا رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ الخطر على الأبواب ، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة ، قرر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر ، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سميت هذه البيعة « بيعة الرضوان ». (8)
وقد بايعت المؤمنات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في فتح مكة ، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
نقد فكرة انّ البيعة أساس الحكم
لو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون ـ كلّهم أو بعضهم ـ قائدهم يقف على أنَّه لم تكن الغاية من البيعة الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كان الهدف التأكيد العملي على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق ، ولذلك نجد جرير بن عبدالله ، قال : بايعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ إقام الصَّلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، والنصح لكلِّ مسلم.
وقال أيضاً : « وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت ولا تفرُّوا من الحرب ». (9)
والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للإيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره ، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الإيمان.
نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهلية ، حيث كان الرائج فيها انّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلىٰ شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.
والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الإسلام ، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة ، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط ، وغاية ما هناك أنّ البيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.
المصادر :
1- الكامل في التاريخ : 2 / 145.
2- السيرة النبوية : 2 / 290 ـ 291.
3- السيرة النبوية : 1 / 555 ـ 557.
4- صحيح البخاري : 5 / 189 ، باب غزوة بني المصطلق.
5- السيرة النبوية : 2 / 659 ـ 660.
6- الأحكام السلطانية : 7.
7- السيرة النبوية : 1 / 431 ـ 438.
8- السيرة النبوية : 2 / 315.
9- صحيح البخاري ، 5 / 55 ، مسند أحمد : 4 / 15.. مسند أحمد : 3 / 292.
source : راسخون