ال الله تعالى في كتابه الكريم: (
وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. ) ، (1). لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى: ( فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ، (2)، وركّبه من سرّ وعلن، وروح وبدن، وبدنه من تراب، وروحه من أمر ربّه: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) ، (3)، فأودعه أسرار خلقه، جرمه صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر، فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فعلّمه الأسماء الحسنى وفهّمه البيان الأتمّ، وأناله الله تعالى بخضوعه وعبوديته له المقام الشامخ، فإنّ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، وأنطقه بأقواله سبحانه ومَن أصدق من الله قيلاً، وأصبغه بصبغته ومَن أحسن من الله صِبغة، وهداه النجدين: نجد الخير ونجد الشر، وجعله مختاراً في سلوك الطريقين إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.
وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات، وآلام ولذّات، ومنجيات ومهلكات، فمنافيات البدن: الأمراض والأسقام الجسمانية. وملائماته: الصحّة واللّذات الجسمانية. والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض وكيفيّة علاجها هو علم الطب، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه، وترديه وتهويه إلى أسفل السافلين، فيكون كالأنعام بل أضل سبيلاً، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة، والمتكفّل ببيان هذه الرذائل الأخلاقيّة ومعالجاتها هو علم الأخلاق.
أمّا صحّة الروح فتتمّ برجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتُسعده في الدارين، وتأخذ بيديه إلى مجاورة أهل الحقّ عند مليك مقتدر في مقعد صدق.
وإنّما بعث الله رسوله خاتم النبيّين
محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ليتمّم مكارم الأخلاق، فقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: ( إنّما بعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق ). وقد مدحه ربّه في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ، (4)، وقد أقسم في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنّه ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) حتى قيل: أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة. ثمّ البدن ماديّ فانٍ، وكلّ من على الأرض فانٍ، والروح مجرّد باقٍ، وإذا اتّصفت بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبديّة، وإن اتّصفت برذائلها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً.
فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه ويزكّي أخلاقه ويعالج أمراضه قبل فوات الأوان، كما أنّ المريض ينبغي له أن يعالج بدنه وصحّته. وكلّ شيءٍ إنّما يعالج بضدّه، فإنّ علاج اليابس بالرطب، والرطب باليابس، والحار بالبارد، والبارد بالحار، وهكذا أمراض الأخلاق، فإنّ الجهل يُعالج بالعلم، والبخل بالسخاء، والكبر بالتواضع، والشّره بالكفّ عن الشهوات، ومرض الرياء بالإخلاص. وإن كان ذلك كلّه يستلزم التكلّف والمرارة، فإنّ مَن أراد أن يعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء، وأن يصبر عن المشتهيات، وكذلك الروح حيث يُريد الإنسان علاجها، فلابد له من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر الذي هو سيّد الأخلاق، فيصبر على فعل الطاعات والعبادات، وترك المعاصي والآثام؛ ليداوي بالصبر أمراض القلوب، وأنّ علاجها أولى من علاج الأبدان، فمرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت، ولكنّ مرض الروح ـ والعياذ بالله ـ يدوم حتى بعد الموت، فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت، فإنّه سيندم يوم لا ينفعه الندم.
ثمّ أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه، ويرى عيوبها ومهلكاتها، فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته لم تخفَ عليه عيوبه، ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها، ولكنّ أكثرَ الناس جهلوا عيوب أنفسهم، فيرون القذى في أعين الآخرين ولا يرون الجذع في عيونهم.
ولابدّ من الاعتدال والحكمة في الأخلاق فهما الصحّة للقلب والنفس والروح، أمّا الميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهما المرض والسقم الذي يخاف منه.
وعلاج النفس لمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عنها يكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة، كما أنّ تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة وتحلّيه هو الآخر بالأخلاق الفاضلة يجعل الروح أكثر جلاءً، ويصقلها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار الله وكونه.
ثمّ الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال، وإنّما تعتريه العلل المغيّرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، وكذلك الروح، فكلّ مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة، وإنّما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، فالمحيط والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام.
ولمّا كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملاً، وإنّما ينمو ويكمل وتقوى القوى فيه بالنشوء والتربية بالغذاء والماء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، إلاّ أنّها قابلة للتكامل المنشود في جبلّته، والذي خُلق الإنسان من أجله، يصل الإنسان بجهده وجهاده إلى كماله، وأن يكون مظهراً لأسماء الله وصفاته، وتكمل هذه النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق، وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ، وإذا كان البدن صحيحاً فشأن الطبيب حينئذٍ تمهيد القانون وبيانه للصحّة والمحافظة عليها، وإن كان البدن مريضاً فشأن الطبيب أيضاً جلب الصحّة إليه، فكذلك النفس، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامة صحّتها وبقائها، واكتساب زيادة صفائها وجلائها، وإن كانت عديمة الكمال، فاقدة للصفاء الروحي، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحّة النفسيّة إليها.
هذا، ومن أمراض القلب الخطرة جداً هو الرياء في النوايا والعمل، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صلداء، فمَن يحسّ بدبيبها ؟ وأنّ الرياء من عمل الشيطان الرجيم ليضل الناس ويغويهم : (
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ، (5).
و يقابل الرياء الإخلاص والأعمال بالنيات، كما ورد في الخبر: (
ولكلّ امرئ ما نوى ). والنيّة من عمل الجوانح، وهو القصد القلبي نحو العمل المقصود إتيانه والمنشود فعله. ولو كانت النيّة خالصة لله سبحانه فإنّها توجب قبول الأعمال، فإنّ الكلم الطيّب ـ وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر ـ يصعد إلى الله سبحانه، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين، والإخلاص أساس التقوى.
قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (
طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء ) ، (6).
و قال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (
العلماء كلّهم هلكى إلاّ العاملون، والعاملون كلّهم هلكى الاّ المخلصون، والمخلصون على خطر ).
وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (
إذا عملت عملاً فاعمل لله خالصاً؛ لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلاّ ما كان خالصاً ).
وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (
ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنّما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها وجه الله ).
و قال
أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ: ( العمل كلّه هباء إلاّ ما أُخلص فيه ).
وقال ـ عليه السلام ـ: (
ضاع مَن كان له مقصدٌ غير الله ).
و قال
الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: ( ولابدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون؛ لأنّه إذا لم يكن ذلك منه يكن غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال: أولئِكَ كَالأنعَامِ بل هُم أَضلُّ سبيلاً، وقال: ]أولئكَ هُم الغَافِلُون َ).
قال الله تعالى عن لسان نبيّه: (
قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) ، (7). قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: ( إنّ لكلّ حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل لله ). وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث آخر: ( أمّا علامة ( علامات ) الُمخلص فأربع: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكفّ شرّه). و عن أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ قال: ( مَن لم يختلف سرّه وعلانيّته، وفعله ومقالته، فقد أدَّ الأمانة وأخلص العبادة).
قال أبو حامد الغزالي في (إحياء علوم الدين) في بيان حقيقة الإخلاص ـ بعد أن ذكر أقوال الشيوخ فيها ـ: ( الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة، وإنّما البيان الشافي بيان سيّد الأولين والآخرين، إذ سُئل عن الإخلاص فقال: ( هو أن تقول ربّي الله ثمّ تستقيم كما أُمرت) )، أي: لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلاّ ربّك، وتستقيم في عبادته كما أمرك: ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ )وهذه إشارة إلى قطع كلّ ما سوى الله عزّ وجلّ من مجرى النظر وهو الإخلاص حقّاً. ثمّ من آثار الإخلاص في حياتنا الفرديّة والاجتماعيّة وفي العلميّة والعمليّة هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب المخلص على لسانه.
وقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: ( قال الله عزّ وجلّ: لا أطلّع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلاّ تولّيت تقويمه وسياسته).
و قال أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ: (غاية الإخلاص الخلاص، والمخلص حريّ بالإجابة، وعند تحقق الإخلاص تستنير البصائر، وبالإخلاص ترفع الأعمال، وفي إخلاص النيّات نجاح الأمور، ومَن أخلص بلغ الآمال، أخلص تنل).
حريّ أن تكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور، فما أروع قوله ـ عليه السلام ـ: (أخلص تنل)، كلمتان فقط ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكم والحقائق، فإنّ الإنسان إنّما ينال ما ينال بالإخلاص.
و قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: (
إنّ المؤمن ليخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء ـ ثمّ قال ـ: إذا كان مخلصاً لله أخاف اللهُ منه كلَّ شيء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء ).
ثمّ يا هذا، هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود ؟ وقد قال الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ: ( ما بين الحق والباطل إلاّ قلّة العقل)، أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله، قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ قال: (إنّ العبد يعمل الذي هو لله رضىً فيريد به غير الله، فلو أنّه أخلص لله لجاءَه الذي يريد في أسرع من ذلك) ، (8).
هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل، ويقابله الرياء الذي هو من جنود الجهل، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: (
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصِدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) ، (9).
قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لابن مسعود: (
يا بن مسعود، إيّاك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميّين وأنت فيما بينك وبين ربّك مصر على المعاصي والذنوب ). يقول الله تعالى: ( يَعلَمُ خَائِنَةَ الأعيُنِ وَمَا تُخفِي الصِدُور ). وقال: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أنّ فيه خيراً ولا خير فيه) ، (10).
قال أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ: ( المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل ).
وقال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ:( إيّاك والرياء، فإنّه مَنْ عمل لغير الله وكلّه الله إلى مَنْ عمل له ).
وعن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: ( إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله ـ عزّ وجلّ ـ: اجعلوها في سجّين إنّه ليس إيّاي أراد به ).
وفي حديث آخر: ( تصعد الحَفَظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطؤون الحجب كلّها حتى يقوموا بين يدي الله فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء، فيقول الله تعالى: أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إنّه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي).
وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (إنّ المرائي يُنادى يوم القيامة: يا فاجر، يا غادر، يا مرائي، ضلّ عملك وبطل أجرك، اِذهب فخذ أجرك ممّن كنتَ تعمل له).
وقال الصادق ـ عليه السلام ـ: (ما على العبد إذا عرفه الله ألاّ يعرفه الناس ؟ إنّه من عمل للناس كان ثوابه على النّاس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله، وإنّ كلّ رياء شرك).
قال الله عزّ وجلّ: (
أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريءٌ فهو للذي أشرك ).
و قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: ( إنّ الله تعالى لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرّة من رياء).
وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (يا بن مسعود، إذا عملت عملاً من البرّ وأنت تريد بذلك غير الله فلا ترجُ بذلك منه ثواباً، فإنّه يقول: (
فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ، (11).
وعن شدّاد بن أوس، قال: رأيت النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يبكي، فقلتُ: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: ( إنّي تخوّفت على أُمتّي الشرك، أمَا إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنّهم يراؤون بأعمالهم).
و عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: ( يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى فيقول: يا ربّ صلّيت ابتغاء وجهك. فيقال له: بل صلّيت ليقال: ما أحسنَ صلاة فلان، اذهبوا به إلى النار).
و لكلّ شيءٍ علامة، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: ( أمّا المرائي فأربع : يحرص في العمل لله إذا كان عنده أحد، ويكسل إذا كان وحده، ويحرص في كلّ أمره على المحمدة، ويحسن سمته بجهده ).
و قال الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ: ( الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل ). قال الراوي وما الإبقاء على العمل ؟ قال: ( يَصلُ الرجل بصلة، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً).
قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في وصف المؤمن: (لا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً). وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: (كلّ حسنة لا يراد بها وجه الله تعالى فعليها قبح الرياء وثمرها قبح الجزاء).
وقال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: (ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعا فأفضلها ما كان سرّاً، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به) ، (12). فالرياء حرام والمرائي عند الله سبحانه ممقوت ومغضوب عليه، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا.
هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء، وبيان حدودهما، وما يترتب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة.
وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء، وأنّ القلبَ منشؤهما ومحطّهما، فأنّه العالم بالله وهو العامل لله، والساعي والمخلص والمتقرّب إليه، وهو الكاشف بما عند الله ولديه، وإنّما الجوارح أتباع له وخَدَم، وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة، وهو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو المخاطب وهو المطالب، وهو المثاب والمعاقب، فيفلح الإنسان إذا زكّاه، ويشقى ويخيب إذا دَنّسَهُ ودسّاه، وهو المطيع لله بالحقيقة، وإنّما التي تظهر على الجوارح الظاهرية من العبادات أنواره، فهو سلطان البدن، وهو العاصي المتمرّد على الله، وإنّما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره، وبظلمانيّته ونورانيّته تتجلّى المحاسن الظاهرية ومساويها، فإنّ كلّ إناء بما فيه ينضح، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربّه، فتارة يهوي إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلاً، وأخرى يصعد إلى أعلى عليّين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين.
و من لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه، فهو ممّن قال الله تعالى فيه: (
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ، (13). فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس السالكين، فلا تغفل. فلابدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله وحركاته وسكناته حتى يلقى الله وليس في قلبه سواه، وذلك هو القلب السليم الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
والمؤمن الحاجّ والمؤمنة الحاجة لابدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما، وفي حجّهما وعمرتهما، فانّ الحجَّ من فروع الدين ومن العبادات، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة متقرّباً بها إلى الله سبحانه وتعالى.والحجُّ من العبادات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة ذات المفاهيم القيّمة، روحياً وبدنياً، فرديّاً واجتماعيّاً، في جميع جوانب الحياة من العبادة، والاقتصاد والسياسة، والثقافة والحضارة، والأخوّة الإسلامية وغير ذلك.
ويكفي في شرافة الحجّ ومقامه الشامخ في الدين الإسلامي الحنيف أنّه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام، فهو من الأسس الأولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم، وتتجلّى في الحجِّ روح المحبّة والأخوّة والصفاء، وحكومة الروحانيّات على الماديّات. وكلّ مسلم متحمّس لدينه يرى في حجّه وعمرته أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأنّ هذا الدين القيّم لو تمسّك به أهلُه حقَّ التمسّك، وطبّقوه في كلّ زوايا حياتهم، لحكم العالم ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ولو كره المشركون. فإنّ الإنسان الضائع والبشرية التائهة تجد أُنشودتها وسعادتها في هذا الدين، فهو يتكفّل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة.
فالحجُّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه، وكرامة المسلمين وشرفهم، فليس لأُمّة وملّة من الأمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم، والمشهد السنوي الكبير، الحافل بالخيرات والبركات ؛ ليشهدوا منافع لهم ؛ ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم، وطوائفهم، وأشكالهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يتميّز غنيّهم عن فقيرهم ورئيسهم عن مرؤوسهم، وكلّ واحد منهم وقد اتّزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر ؛ ليلبيّ دعوة الله، التي يدوّي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى: (
وَأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) ، (14).
فالحجّ فلاح وصلاح، وقد أفلح من أقامه، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به، وإنّما ركّز القرآن الكريم، ورسولُ الله الأعظم ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وأهل بيته الأطهارـ عليهم السلام ـ على الحجِّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات ، والفضائل الأخلاقية، والخير والاحسان الاجتماعي، والثواب الأخروي، فإنّه من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين فيه، قال النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ: (
من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً ) ، (15).
فهو نقلة اجتماعية، ورحلة جماهيريّة يتّجه فيها الناس من كلّ صوب ومكان لأداء فريضة إلهيّة واجبة، في مكان مقدّس واحد هو أشرف بقاع الأرض : مكّة المكرّمة، وفي زمان واحد من الأشهر الحرم، ذي الحجّة المبارك؛ ليمارسوا شعائر موحدة، ومناسك دينيّة، وطقوساً خاصة، تجرّد الإنسان عن عالم الماديّات، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية إلى الرفيق الأعلى، فيكون قاب قوسين أو أدنى.
ولكنّ نوايا الناس مختلفة، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره وأستاره، فقد روي في خبر من طريق أهل البيت ـ عليهم السلام ـ: (
إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجِّ أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسُّمعة) ، (16). فليس كلّ من أدى فريضة الحجِّ نال الكمال وبلغ العُلى، بل بشرطها وشروطها والإخلاص أوّل شروطها.
قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ: (
الحجُّ حجّان: حجٌّ لله وحجٌّ للناس، فمن حجّ لله كان ثوابه على الله الجنّة، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة ) ، (17).
ولا يخفى أنّ من يدخل الجنة فهو من السعداء؛ لقوله تعالى: (
وَ أمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا...) ، (18)، فمن كان سعيداً في حجّه إنّما يخلص لله في مناسكه ويبتغي وجه الله في أعماله، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة، فإنّ الدنيا الدنيّة دار ممرّ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم، وفي الآخرة كلّ ينادي وانفساه، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه. فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير الله سبحانه، كما ورد في الخبر.
قال الإمام الصادق ـ عليهم السلام ـ: (
مَنْ حجّ يريد به الله ولا يريد به رياءً وسمعة غفر الله له البتّة ) ، (19) أي قطعاً. فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي: يا حاج فلان، يا حاجّة فلانة، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم، لم يصيبه من حجّه إلاّ التعب والنصب. والأعمال العبادية تبطل بالرياء، فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذٍ. فهل بعد هذا إلاّ الإخلاص في النوايا والعمل ؟!
وعن الإمام الصادق عليهم السلام ـ في حديث يذكر علامات ظهور المهدي عليهم السلام ـ: (... ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير الله... فكن على حذر واطلب من الله النجاة) ، (20).
ختامه مسك:
ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق ـ عليهم السلام ـ في أسرار الحجّ ودقائقه ، وعلوّ معانيه وسموّ مفاهيمه:
روي في (مصباح الشريعة) عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين ـ أنّه قال: ( إذا أردت الحجَّ فجرّد قلبك لله تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلّ حاجب، وفوِّض أمورك كلَّها إلى خالقك، وتوكلّ عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودعِ الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوقٍ تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك، وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالاً، فإنّ من ادّعى رضا الله، واعتمد على ما سواه، صيّره عليه وبالاً وعدوّاً؛ ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة، ولا لأحد إلاّ بعصمة الله وتوفيقه.
فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال والصبر، والشكر والشفقة، والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا، والخضوع والخشوع، وأحرم من كلّ شيءٍ يمنعك عن ذكر الله، ويحجبك عن طاعته، ولبِّ تلبية صادقة صافية، خالصة زاكية لله تعالى في دعوتك، متمسّكا بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبرّأ من حولك وقوّتك، وأُخرج من غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى منى ، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه.
واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند الله تعالى بوحدانيّته وتقرّب إليه، واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان الله وكنفه، وستره وكلاءته، من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودُر حول البيت محقّقا لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه، وإستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع ( ودع ) ما سواه بطواف الوداع، واصف الصفا، وكن بمرأى من الله نقيّاً أوصافك عند المروة، واستقم على شرط حّجتك هذه، ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك وأوجبته له إلى يوم القيامة.
واعلم بأنّ الله ـ تعالى ـ لم يفرض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى: (
وَ للهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ولا شرّع نبيّه سُنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه، إلاّ للاستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهى ) ، (21). انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه، واغتنموا الفرص يا ضيوف الرحمن، ويا حجّاج بيت الله الحرام، وإنّما يتقبّل الله من المتّقين المخلصين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
---------------------------------------------------------
الهوامش
(1) البينة: 5.
(2) المؤمنون: 14.
(3) الحجر: 29.
(4) القلم: 4.
(5) ص: 82 ـ 83.
(6) كنز العمال ح 5268، الدرّ المنثور 2: 237.
(7) الزمر: 11 ـ 12.
(8) الروايات نقلناها من ميزان الحكمة المجلد الثالث فراجع.
(9) الأنفال: 47.
(10) كنز العمال: ح 7485.
(11) الكهف: 105.
(12) نقلنا الروايات من ميزان الحكمة، 4: 22 فراجع.
(13) الحشر: 19.
(14) الحج: 27.
(15) تفسير ابن كثير 1: 386.
(16) المحجّة البيضاء 2: 189، وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، ورواه أبو عثمان الصابوني في كتاب المائتين بلفظ آخر كما في المغني.
(17) كتاب ميزان الحكمة 2: 276.
(18) هود: 108.
(19) ميزان الحكمة 2: 276.
(20) نفس المصدر السابق.
(21) المحجّة البيضاء 2: 207.