تطرقنا في الفصل الأول إلى خصائص المصحف العلوي التي وردت في روايات الفريقين وأنهيناها إلى خمس خصائص، فلم نورد هناك مالم يرد في روايات أهل السنة حتى لو صرح به أحد علمائهم، فاقتصرنا هناك على خصوص ما ورد في روايات الفريقين وأيدناه بذكر كلمات علمائهما، وفي هذا الفصل سنذكر الخصائص التي ذكرت في روايات الشيعة ولم ترد في روايات أهل السنة حتى لو صرح بها أحد علمائهم، وإليكم الخصائص التي اختصت مصادر الشيعة بذكرها:
1- الاشتمال على التأويل:
ذكرت بعض الروايات الواردة في مصادر الإمامية أن مصحف الإمام علي(ع) كان يشتمل على التأويل، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
1- ما جاء في رواية سليم بن قيس الهلالي: (فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله)(1)، وجاء أيضاً فيها على لسان علي(ع): (إني لم أزل منذ قبض رسول الله(ص) مشغولاً بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد. فلم ينزل الله تعالى على رسول الله(ص) آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله(ص) وعلمني تأويلها)(2).
2- ما جاء في رواية الطبرسي في احتجاج الإمام علي(ع) على الزنديق: (ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل، والتنزيل)(3).
الآن وبعد أن عرفنا أن المصحف العلوي قد اشتمل على التأويل، لابأس أن نتعرف على معناه في اللغة والإصطلاح، لكي نشخص المعنى المراد من هذه الخصيصة.
أ- التأويل في اللغة: (التأويل من الأَوْل أي الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(4))(5)، و(هو من آل الشيء يؤول إلى كذا: أي رجع وصار إليه)(6). إذن التأويل في اللغة من الأول بمعنى الرجوع.
ب- التأويل في الإصطلاح: وقد يستعمل في علوم القرآن في معنيين، وهما:
1- المعنى الأول: هو بيان المراد من اللفظ حملاً له على خلاف ظاهره؛ ولذلك يقول ابن الأثير: (والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ)(7)، وهذا هو معنى التأويل عند المتأخرين، فقد خصوه بخصوص ما تقدم(8).
2- المعنى الثاني: بيان وتشخيص المعنى المراد من اللفظ واقعاً، ولا يختص بخصوص حمل اللفظ على خلاف معناه الظاهري(9)، وهذا هو المعنى المستخدم للتأويل في كلمات المتقدمين؛ ولذلك نحمل التأويل الوارد في روايات المصحف العلوي على هذا المعنى، يقول السيد الخوئي(ص) وهو في مقام بيان معنى التأويل الوارد في مصحف الإمام علي(ع) ورد شبهة تحريف القرآن الكريم:
(الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد. وأن هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل والتنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآناً، وإطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ، حملاً له على خلاف ظاهره، إلا أن هذين الاطلاقين من الاصطلاحات المحدثة، وليس لهما في اللغة عين ولا أثر ليحمل عليهما هذان اللفظان "التنزيل والتأويل" متى وردا في الروايات المأثورة عن أهل البيت(ع))(10).
إذن المراد من التأويل هو بيان مراد الله الواقعي من آيات القرآن الكريم، فيصبح معنى ما ورد من أن المصحف العلوي قد اشتمل على التنزيل والتأويل، أن الإمام علياً(ع) قد دوّن في مصحفه شرح وتفسير الآيات، والمراد بالتفسير بيان المعنى الظاهري للآية من خلال ملاحظة اللغة ولوازم الكلام والدلائل العقلية واللفظية، وهذا هو معنى التنزيل، كما أنه(ع) قد دوّن في مصحفه مراد الله الواقعي وشخصه فيما كتب من خلال بيان الحقائق التي وقعت أيام تنزيله ببيان المصاديق(11 ) وغير ذلك؛ فلذلك ذكر في مصحفه فضائح القوم واسماءهم.
إذن الخصيصة الأولى المختصة بمصادر الإمامية حول المصحف العلوي هي التأويل، والمراد بها أن الإمام علياً(ع) قد شخّص وبيّن في مصحفه مراد الله الواقعي.
2- بيان المحكم والمتشابه:
دلت بعض الروايات الواردة في مصادر الإمامية على أن مصحف الإمام علي(ع) قد اشتمل على المحكم والمتشابه، ومن الروايات الدالة على ذلك ما رواه الطبرسي في إحتجاج الإمام علي(ع) على الزنديق حيث قال: (ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملا على التأويل، والتنزيل. والمحكم، والمتشابه)(12)، فالرواية واضحة في إحتواء المصحف للمحكم والمتشابه، ولكن مالمراد بكل منهما أولاً؟ وما المقصود بإشتمال المصحف عليهما ثانياً؟... , وإليكم الجواب:
أ- معنى المحكم والمتشابه:
المحكم: مأخوذ من الإحكام، وهو الاتقان، يوصف به الكلام اذا كان ذا دلالة واضحة، بحيث لايحتمل وجوهاً من المعاني، ولا كان مظنةً للريب والتشكيك.
المتشابه: مأخوذ من التشابه، وهو مأخوذ من الشبه بمعنى التماثل، ويراد به اللفظ المحتمل لوجوه من المعاني(13).
إذن (فالمحكم) من الآيات ما يدل على مفهوم معين، لا نجد صعوبة أو تردداً في تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معين. و (المتشابه) ما يدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي(14).
ب- معنى اشتمال المصحف للمحكم والمتشابه:
يمكن أن نتصور عدة معاني لذلك، نوضحها فيما يلي:
الأول: إيراد المحكم والمتشابه: فالمراد بإشتمال المصحف العلوي لهما، أن الإمام علياً(ع) قد أتى بالآيات المحكمة والمتشابهة في مصحفه، لكن هذا المعنى لا يمكن قبوله؛ إذ أن المصحف المتداول أيضاً قد تضمن جميع آيات القرآن بمحكمها ومتشابهها، فلا توجد مزية وخصيصة للمصحف العلوي، والحال أن الرواية في مقام ذكر مزية له، فهو بلا شك قد كتب فيه الآيات المحكمة والمتشابهة، لكن الرواية ليست ناظرة إلى مجرد كتابتهما فيه على ما هو الظاهر منها، فالمعنى الأول لا يمكن الإلتزام به.
الثاني: ترتيب المحكم والمتشابه: فالمراد أن الإمام علياً(ع) قد رتب المصحف العلوي على أساس منطقي، بحيث أنه قد ذكر الآيات المتشابهة أولاً، ثم ذكر الآيات المحكمة ثانياً؛ ل