كثيراً ما يتساءل النّاس: هل عالم بعد الموت يشبه هذا العالم، أم أنَّهما مختلفان؟ ماذا عن الثواب والعقاب والقوانين السائدة فيه هل هي مثل ما في هذه الدنيا؟
نقول في الجواب: إن هناك شواهد كثيرة تدل على أنَّ العالم الآخر يختلف كثيراً عن هذا العالم، بحيث إنَّ ما نعرفه عن العالم الآخر يجعله يبدو لنا كالشّبح الذي نراه من بعيد.
يحسن بنا أنْ نعود الى مثال "الجنين" الذي ضربناه من قبل، فبالقدر الذي يوجد من بعد بين "عالم الجنين" وهذا العالم يكون البعد بين عالمنا هذا والعالم الآخر، أو أكثر.
إن هناك شواهد كثيرة تدل على أنَّ العالم الآخر يختلف كثيراً عن هذا العالم، بحيث إنَّ ما نعرفه عن العالم الآخر يجعله يبدو لنا كالشّبح الذي نراه من بعيد.
فلو كان للجنين في الرحم عقل، وأراد أنْ يكون له تصور صحيح عن العالم الخارجي بالنسبة له، عن السماء والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والغابات والبحار، لاستحال عليه ذلك. فالجنين الذي لا يتعدى عالمه رحم امه المحدود، لا تعني الشمس والقمر والبحر والامواج والرياح والنسائم والزهور ومختلف مظاهر الجمال في عالمه الخارجي أي مفهوم محدد بالنسبة له. إن قاموسه اللغوي لايتعدى بضع كلمات، ولو أنَّ أحداً شاء أنْ يكلمه من خارج رحم اُمّه بالفرض لما فهم منه كلاماً.
فاختلاف عالمنا المحدود هذا مع العالم الواسع الآخر يكون بهذه النسبة أو أكثر. وعليه، فليس بامكاننا أن نحمل أي تصور عمّا هناك من نعم ونقم وجنة ونار وغير ذلك.
وقد جاء في حديث شريف عن الجنّة: "فِيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولاخطر على قلب بشر".
وقد جاء هذا المعنى نفسه في القرآن الكريم، إذ يقول: ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمْا كَانُو يَعْمَلُون )(السجدة:17)
كما إنَّ النظم السائدة هناك مختلفة عما في هذا العالم أيضاً فمثلاً، الشهود على أعمال الانسان وأفعاله هم اعضاؤه، يده ورجله وجلده وحتى الارض التي ارتكب العمل عليها. يقول القرآن:( اليَومَ نَخْتِمُ عَلَى أفْوَاهِهِم وَتُكَلِّمُنَا أيْدِيْهِم وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).(يس:65).
وقال تعالى: ( قَالُوا لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنا قَالُوا أنْطَقَنَا اللهُ الّذي أنْطَقَ كُلَّ شَيء )(فصلت:21).
كان تصور هذه المسائل غير متيسر في الماضي، ولكن بعد تقدم العلوم وامكان تسجيل المشاهد والاصوات لم يعد هناك ما يدعو الى العجب. على كال حال، على الرغم من أنَّنا ما نزال غير قادرين على أنْ نرى من شؤون العالم الآخر سوى مايشبه الشبح البعيد، ولكن الذي ندريه هو أنَّ العقاب والثواب في العالم الآخر يشملان الجوانب الرّوحانية والجسمانية، وذلك لأنَّ المعاد يشمل كلا الجسم والرّوح يقول القرآن:( وَبَشِّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُم جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ .... وَلَهُم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُم فِيها خالِدُونَ )(البقرة:25).
وفيما يتعلق بالمثوبات المعنوية يقول القرآن:( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ )(التوبة:72).
نعم، إنَّ إدراك أهل الجنّة أنَّ الله تعالى راض عنهم وأنَّ خالقهم قد تقبلهم يخلق فيهم احساساً بالفرح والبهجة واللذة لا يمكن أنَّ يقارن به شيء. كما أنَّ أهل النار يحسّون بالاضافة الى العذاب الجسماني بغضب الله ورفضه لهم، وهو أشد من كل عذاب.
تجسد الأعمال
يستفاد من كثير من الآيات القرآنية أنَّ أعمالنا يوم القيامة تتجسد حيّة في صور مختلفة وتصاحبنا، وأنَّ واحداً من أنواع العقاب والثواب المهمة هو هذا التجسد نفسه. فالظلم يتجسد بصورة سحابة سوداء تحيط بالظالم، كما جاء في حديث شريف: "الظّلم هو الظّلمات يوم القيامة".
وجاء في القرآن الحكيم:( إنَّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم ناراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيْرا )(النساء:10).
( يَومَ تَرَى المُؤمِنينَ وَالمُؤمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَينَ أيْدِيِهِم...)(الحديد:12).
( الّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاّ كَمَا يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ...)(البقرة:275).
( وَلا يَحْسَبَنَّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُم سَيُطَّوقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَومَ القِيَامَةِ ..)(آل عمران:180).
وهكذا سائر الأعمال الأخرى تتجسد بما يناسبها.
إنَّنا نعلم اليوم أنَّ العلم يقول: المادة لا تفني، وإنَّما هي تتغير من مادة الى طاقة.
فالافعال والاعمال التي لا تخرج عن هاتين الحالتين، تبقى خالدة أبداً.
إنَّ في القرآن الكريم آية صغيرة عن يوم القيامة تهزُّ الانسان هزاً: ( وَوَجَدوا ما عَمِلُوا حاضِرا )(الكهف:49).
والحقيقة أنَّ كل ما يصيبهم إنّما هو بسبب أعمالهم، ولذلك يضيف الى قوله: (...وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَد )(الكهف:49).
وفي موضع آخر من القرآن نقرأ عن يوم القيامة: ( يَومَئِذ يَصْدُرُ النَّاسُ أشْتَاتاً لِيُرَوا أعْمَالَهُم فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ).(الزلزلة:6ـ 8).
لاحظ أنَّ الكلام يدور حول "رؤية" الاعمال.
وإذا قلنا إنَّ أعمالنا في هذه الدنيا، صغيرها وكبيرها وحسنها وسيئها ستبقى مخفوظة ولا تفني، وستكون معنا يوم القيامة، فإنَّ ذلك لابدّ أنْ يكون انذاراً لنا جميعاً لكي نتجنب الأعمال السيئة، ونعمل الصالحات أكثر.
من العجيب إنَّ هناك اليوم أجهزة قد اخترعوها تستطيع أنْ تجسد لنا جانباً من هذا الموضوع في هذه الدنيا. يقول أحد العلماء المعاصرين:
"لقد أمكن استعادة الامواج الصوتية التي صدرت قبل ألفي سنة من العمال المصريين الذين كانوا يشتغلون بعمل الفخار، بحيث يمكن سماعها، ففي الاجهزة اليدوية الخاصة بذلك. وفي اثناء صنعها انتقلت الامواج الصوتية من أيدى العمال الى تلك الأواني. واليوم استطاع العلماء أن يعيدوا الحياة الى تلك الأمواج بحيث إنَّنا نسمعها بآذاننا".
على أي حال إنَّ كثيراً من الاسئلة تدور حول مسألة المعاد والخلود وعقاب المسيئين وثواب المحسنين الواردة في القرآن المجيد، يمكن أنْ يجاب عليها بأخذ عملية "تجسيد الاعمال" بنظر الاعتبار، وذلك باعتبار أنْ كل عمل حسن أو سيء يترك أثره في أرواحنا، وأنَّ ذلك الأثر باق معنا لا يفارقنا.
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي