إنَّ أهل النَّار في عذاب دائم، لا راحة ولا نوم، بل من عذاب إلى عذاب، وهم يتمنون الموت فلا يموتون! قد اسودَّت وجوههم، وأُعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، بدِّلت وجوههم بالسواد، وضربوا بمقامع من حديد، عليها ملائكة غلاظ شداد، فحزنُهم دائم فلا يفرحون، ومقامهم دائم فلا يبرحون "يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ"(المائدة:37) "كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ"(النساء:56) "يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ"(الرحمن:44) "إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ" (الهمزة:9-8)، وهم ينادون الله ويدعونه ليخفف عنهم هذا العذاب فيأتيهم الجواب: "اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ"(المؤمنون:108).
رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال:"وأمَّا أهل المعصية فخلِّدوا في النار، وأوثق منهم الأقدام، وغلَّ منهم الأيدي إلى الأعناق، وألبس أجسادهم سرابيل القطران، وقطِّعت لهم منها مقطِّعات من النَّار، وهم في عذاب قد اشتدَّ حرُّه، ونار قد اطبق على أهلها، فلا يفتح عنهم أبداً ولا يدخل عليهم ريح أبداًَ، ولا ينقضي منهم عمر أبداً، العذاب إبتداءً شديد، والعقاب أبداً جديد، لا الدار زائلة فتفنى، ولا آجال القوم تقضى، ثمّ حكى نداء أهل النَّار، فقال: "وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ"(الزخرف:77)، قال: أي نموت، فيقول " إِنَّكُم مَّاكِثُونَ"1"2.
خصائص عذاب النَّار
وقد قارن أمير المؤمنين علي عليها السلام بين عذاب الدنيا وبلائها وبين عذاب النَّار، ليتبين عظيم الفرق بينهما لمن سمع فوعى، فيتجنَّب كل ما يؤدِّي به إلى عذابها وهوانها:"يا رَبِّ وَأنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا وَعُقُوباتِها وَما يَجْري فيها مِنَ الْمَكارِهِ عَلى أهْلِها، عَلى أنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ قَليلٌ مَكْثُهُ، يَسيرٌ بَقاؤُهُ، قَصيرٌ مُدَّتُهُ فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخرة وَجَليلِ (حُلُولِ) وُقُوعِ المَكارِهِ فيها وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَيَدُومُ مَقامُهُ وَلا يُخَفَّفُ عَنْ أهله لأنَّهُ لا يَكُونُ إلاّ عَنْ غَضَبِكَ وَاْنتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّمـاواتُ وَالأرضُ يا سَيِّدِي فَكَيْفَ بي وَأَنَا عَبْدُكَ الضَّعيـفُ الـذَّليـلُ الْحَقيـرُ الْمِسْكيـنُ الْمُسْتَكينُ"3.
طعام أهل النَّار وشرابهم
إنَّ أهل النار يأكلون ويشربون تماماً كأهل الجنَّة، ولهم ألوان خاصة من الأطعمة والأشربة، ولكنَّها كلّها لا تغني من جوعٍ، ولا تروي من ظمأ.
وأحد تلك الأطعمة (الزقوم)، وهي شجرة عظيمة مهيبة تنبت في قعر جهنَّم ولها ثمر، قال تعالى "إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ"(الدخان:43-46). وهي كمَا وصفها المولى عزَّ وجلَّ في كتابه "طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ"(الصافات:65).
وهي اسم لعشب مرٍّ كريهِ الرائحة له أوراقٌ صغيرة، وهو عشب عصارته شديدة المرارة وحادة الطعم إذا لامس الجسم تورم.
أما الضريع فهو كالزقوم، يقطع الأحشاء من شدة حرارته، ولا يتجرَّعه المجرمون من فرط مرارته. وأما الغسَّاق كما قوله تعالى: "هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ"(ص:57).
قيل: الغسَّاق: القيح الغليظ المنتن.
وأما الأشربة الوارد ذكرها في القرآن الكريم، فمنها (الحميم)، ومعنى كلمة (الحميم) هو الماء المغلي، أمّا كلمة (آن) فهي تعني (بالغ) وهي صفة للحميم، فماء جهنَّم يصل إلى أقصى درجات السخونة والغليان بحيث أنَّ حرارته تقطع لحم وجه الإنسان، يقول تعالى: "وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا"(الكهف:29).
كما أنَّه يقطع الأمعاء "كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ"(محمد:15). أمَّا (الغسلين) الذي ذكرته الآية الشريفة: "فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ"(الحاقة:35-37). الـمـعـروف بين المفسِّرين وأصحاب اللغة أنَّه دم يشبه الماء يخرج من أبدان أصحاب النَّار، وبما أنَّه يـشبه الماء الذي يغسل فيه الانسان، سمي بـ (الغسلين).
وشرابهم فيها ماء صديد، قال تعالى "وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ"(إبراهيم:15-16)، (دم وقيح) يتجرَّعه ( يشربه غصبا) ولا يكاد يسيغه.
رحلة الآخرة, إعداد ونشر جمعية المعارف الثقافية
--------------------------------------------------
الهوامش:
1- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة ج 8 ص 292
2- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة ج 8 ص 292.
3- من دعاء كميل بن زياد.