استدل القاضي على ثبوت الاحباط بوجه عقلي فقال: "قد ثبت أنّ الثواب والعقاب يستحقان على طريق الدوام، فلا يخلو المكلّف إما أن يستحق الثواب فيثاب، أو يستحق العقاب فيعاقب، أو لا يستحق الثواب ولا العقاب، فلا يثاب ولا يعاقب، أو يستحق الثواب والعقاب، فيثاب ويعاقب دفعة واحدة، أو يؤثر الأكثر في الأقل على ما نقوله.
ولا يجوز أن لا يستحق الثواب ولا العقاب، فإن ذلك خلاف ما اتفقت عليه الأُمة ولا أن يستحق الثواب والعقاب معا فيكون مثاباً ومعاقباً دفعة واحدة، لأن ذلك مستحيل، والمستحيل مما لا يستحق. فلا يصح إلا ما ذكرناه من أنّ الأقل يسقط بالأكثر. وهذا هو الّذي يقوله الشيخان أبو علي وأبوهاشم ولا يختلفان فيه، وإنّما الخلاف بينهما في كيفية ذلك1.
يلاحظ عليه: إنّه مبني على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدوام، وهو مبني على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النار، وبما أنّ الأساس باطل، فيبطل ما بني عليه، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب. وعلى ذلك فالحصر غير حاصر، وانّ هنا شقا سادساً ترك في كلامه، وهو أنّه يستحق الثواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة، بل يعاقب مدة ثم يخرج من النار فيثاب بالجنة على ما عليه جمهور المسلمين.
وقد نقل القاضي عبد الجبار، وجهاً عقلياً آخر للإحباط عن الشيخ أبي علي وأجاب عنه، فلاحظ(شرح الأُصول الخمسة، ص 630 ـ 631 وحاصل هذا الدليل انّ المكلّف، بارتكاب الكبيرة تخرج نفسه من صلاحية استحقاق الثواب وهو كماترى دعوى بلا دليل اذ لا دليل على أنّ كل معصية لها هذا الشأن، وليست كل معصية كالكفر والارتداد والنفاق).
تحليل لمسألة الإحباط
وها هنا تحليل آخر للمسألة وهو أنّ في الثواب والعقاب أقوال
1- الثواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأُمور الوضعية الجعلية كجعل الأُجرة للعامل، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.
2- الثواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الانسان حسب الملكات التّي اكتسبها في هذه الدنيا، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة، السكون والهدوء إلا بفعل ما يناسبها.
3- الثواب والعقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة وتجلّيه فيها بوجوده الأُخروي من دون أن يكون للنفس دور في تلك الحياة، في تحلّي هذه الأعمال بتلك الصور، بل هي من ملازمات وجود الانسان المحشور.
فلو قلنا بالوجه الأوّل، كان لما نقلناه من نفاة الحبط (من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية) وجه حسن، لأن الامور الوضعية، رفعها ووضعها، وتبسيطها، وتضييقها، بيد المقنّن والمشرّع. وعندئذ يُجمع بين حكم العقل، بلزوم الوفاء بالوعد، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة، كما سيوافيك.
وقد عرفت حاصل الجمع، وهو أن إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الانسان الثواب، بل لم يكن مستحقاً من رأس، لعدم تحقق شرط الثواب. وأما مصحح تسميته بالإحباط فقد عرفته أيضاً، وهو أن ظاهر العمل كان يحكي عن الثواب وكان جزء علة له.
ولو قلنا بالوجه الثاني، وحاصله أن الملكات الحسنة والسيئة التّي تعدّ فعليات للنفس، تحصل بسبب الحسنات والسيّئات التّي كانت تصدر من النفس. فاذا قامت بفعل الحسنات، تحصل فيها صورة معنوية، مقتضية لخلق الثواب. كما أنّه إذا صدر منها سيئة، تقوم بها صورة معنوية تصلح لأن تكون مبدأً لخلق العقاب. وبما أنّ الانسان في معرض التحول والتغيير من حيث الملكات النفسانية، حسب ما يفعل من الحسنات والسيئات، فانّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النفس وتبدُّلها الى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدنيوية.
نعم، تقف الحركة ويبطل التحول عند موافاة الموت، فعند ذلك تثبت لها الصور بلا تغيير أصلا.
فلو قلنا بهذا الوجه، كان الاحباط على وفق القاعدة، لأنّ الجزاء في الآخرة، اذا كان فعل النفس وإيجادها، فهو يتبع الصورة الأخيرة للنفس، التّي اكتسبتها قبل الموت. فإن كانت صورة معنوية مناسبة للثواب فالنفس منعّمة في الثواب من دون مقابلة بالعقاب، لأن الصورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى واذا انعكست الصورة، انعكس الحكم.
وأما لو قلنا بالوجه الثالث، وهو تجسّم الاعمال وتمثلها في الآخرة بالوجود المماثل لها، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة اذ لا معنى للإبطال، في النشأة الأُخرى.
غير أن الكلام كلّه في انحصار الثواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين، وقد عرفت في الجزء الأول أنّ المتشرع لا يتجرأ على القول بذلك2.
الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
-----------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- شرح الأُصول الخمسة، ص 625. وترك تعليل الوجه الأول (وهو ان يستحق الثواب فقط) والثاني (وهو أن يستحق العقاب فقط)، لوضوحه.
2- لاحظ الالهيات، ج 1، ص 299.