عربي
Saturday 6th of July 2024
0
نفر 0

الانسانية عند الصادق عليه السلام

الانسانية عند الصادق عليه السلام

«كان الناس اُمّة واحدة فبعث اللَّه النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّاالذين اُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم »(1).
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام حين سأله سائل عن البشر : « أَفَضُلّالاً كانوا قبل النبيّين أم على هدى ؟ فأجاب عليه السلام : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة اللَّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللَّه ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم اللَّه . أما تسمع بقول إبراهيم لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من الضالّين »(2) .
إنّ لهذه الآية الكريمة معطيات علميّة كثيرة في الحقل التاريخي ، وكلّما تعمّق الباحث الإسلامي في دراستها انتهى إلى مفاهيم ثريّة يستطيع في مفهومها أن يحدّد نظرة الإسلام إلى المجتمع والتاريخ وإلى الأديان والنبوّات . ولا نريد في‌ دراسة سريعة تتطلّب شيئاً من التبسيط والاختصار كهذه الدراسة أن نستوعب المدلول الاجتماعي الكامل للآية .
وإنّما نتناول جانباً واحداً عالجت فيه الآية نقطة أساسيّة في البحث التاريخي تتّصل بفجر التاريخ ومطلع الحياة الاجتماعيّة ، في قوله تعالى : «كان الناس اُمّة واحدة ».
وعلى ضوء ما جاء عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام في تفسير هذا الجانب القرآني من الآية نستطيع أن نحدّد المفهوم الإسلامي عن مطلع الإنسانيّة وحياتها الاجتماعيّة الاُولى .
فالإنسانيّة كانت اُمّة واحدة ثمّ اختلفت ، فما هي هذه الوحدة التي اكتنفت البشريّة في عهدها الأوّل ؟ وما هي طبيعتها ؟ وكيف تفتّتت ؟ وما هي العوامل في نشوئها وزوالها ؟
إنّ البشريّة كانت اُمّة واحدة في معيشتها وحياتها ، ولم تنزل الشرائع الإلهيّة إلّا بعد أن تفسّخت هذه الوحدة ودبّ الخلاف في مختلف مرافق الحياة الإنسانيّة . فإرسال الأنبياء بالكتب والشرائع كان مرحلة متأخّرة عن ذلك الدور الذي عاشت فيه البشريّة اُمّة واحدة ، فماذا كانت تعني تلك الوحدة ؟
إنّها ليست وحدة الهداية والحقّ ، إذ لو كان البشر اُمّة واحدة مجتمعة على الحقّ والهداية ، لما كان ضروريّاً بعد ذلك إرسال الأنبياء الذي نشأ عنه الاختلاف والتفرّق كما يدلّ عليه قوله : « وما اختلف فيه إلّاالذين اُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم ». فلماذا الرسالات والمرسلون إذا كانت شريعة الحقّ هي الشريعة الاجتماعيّة للبشر ؟ !
كما أ نّه لا يستقيم - مع الآية - أن نفترض تلك الوحدة البشريّة الاُولى وحدة ضلال وبغي ، لأنّ المفهوم من الآية الكريمة أنّ الاختلاف القائم على أساس البغي والضلال إنّما حصل بعد إرسال الأنبياء وإنزال الكتب .
ومن ناحية اُخرى : إذا لاحظنا الآية الكريمة نجد أ نّها تبرّر إرسال الأنبياء وإنزال الكتب بوجود اختلاف يجب أن يعالج عن طريق الرسالة السماويّة ، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى : «وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ». وهذا الاختلاف الذي اُرسل الأنبياء لمعالجته غير الاختلاف الذي نتج عن ظهور النبوّات والأديان في حياة الإنسان .
والذي أشار إليه في الآية الكريمة بقوله تعالى : «وما اختلف فيه إلّاالذين اُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم ». وهذه نقطة جديرة بالدرس أيضاً ، إذ قد تبدو الآية على شي‌ء من الغرابة ، لأنّها ذكرت أنّ الناس كانوا قبل إرسال الأنبياء وإنزال الكتب اُمّة واحدة ، فمن أين وجد هذا الاختلاف الذي اُنزل الكتاب وبعث النبيّون لمعالجته ؟
والجواب المقبول عن هذا السؤال هو أن تكون الوحدة التي مرّت بها البشريّة هي بنفسها سبباً للاختلاف ، مثاراً للتفرّق ، فما هي تلك الوحدة التي تكون بطبيعتها مؤدّية إلى الاختلاف والتفرّق ؟
ونحن إذا عرفنا هذه الوحدة نستطيع أن نفهم السبب في تفريع بعث النبيّين وإنزال الكتاب على تلك الوحدة ، فإنّ تفريع ذلك على الوحدة إنّما هو بوصفها سبباً للاختلاف .
وتذوب المشكلة إذا عرفنا أنّ تلك الوحدة التي مرّت بها البشريّة في مطلع الحياة الاجتماعيّة هي الوحدة الفطريّة ، لا وحدة الضلال ولا وحدة الهدى
كما يدلّ على ذلك ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق حين سأله سائل عن البشر : « أفضلّالاً كانوا قبل النبيّين أم على هدى ؟ فأجاب : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة اللَّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللَّه ، ولم يكونوا ليهتدوا حتّى‌ يهديهم اللَّه ، أما تسمع بقول إبراهيم : «لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من ـ الضالّين »(3)؟ » .
فالمجتمع الإنساني - وفقاً لما تقرّره الآية في ضوء هذا الحديث - كان مجتمعاً فطريّاً ، وكانت الوحدة التي تشمله هي وحدة الفطرة المشتركة بين كلّ الأفراد ، بمعنى أنّ الفطرة هي التي كانت توجّه السلوك الإنساني العامّ ، وعلى أساسها قامت الحياة الاجتماعيّة ، ثمّ على أساسها أيضاً تصدّعت هذه الحياة ودبّ فيها الخلاف والنزاع ، الأمر الذي عولج ببعث النبيّين وإنزال الكتب .
والسؤال الآن هو : كيف قام المجتمع على أساس الفطرة ؟ وكيف أدّت الفطرة إلى الاختلاف والتفرّق ؟
تاريخ البشريّة يبرهن على أنّ مدارك النوع الإنساني - بوصفه نوعاً - لم‌ تعطَ له دفعةً واحدة ، وإنّما تنمو وتتكامل مداركه خلال التجربة التى تخوضها الإنسانيّة عبر آلاف السنين ، ومن الطبيعي أن نتصوّر الإنسانيّة في بداية شوطها التجريبي وهي لا تملك من المعرفة والخبرة إلّاالمقدار الذي توحي به فطرتها الخاصّة ، في حدود نظرتها الضيّقة إلى الحياة والكون ، فالذي يتحكّم في سلوك الإنسان في هذه الحالة الفطرة التي تحدّد له دوافعه وتصوّراته البدائيّة .
ومن الواضح أنّ حبّ الإنسان لنفسه الثابت في صميم فطرته هو القوّة الموجّهة الأساسيّة في حياة الإنسان ، وهذه القوّة هي التي تهدي الإنسان إلى استخدام الطبيعة لمصالحه والانتفاع بكلّ ما حوله ، ومن هنا ينبثق التفكير الاجتماعي عند الإنسان ، لأنّ الإنسان يجد أنّ بإمكانه الانتفاع بأخيه الإنسان أيضاً ، كما ينتفع بالحيوان والنبات والجماد . ولمّا كان هذا الشعور متبادلاً بين أفراد الإنسان ، فيتكوّن المجتمع الإنساني على أساس هذا الشعور النابع من الفطرة ، وبذلك يكون المجتمع فطريّاً .
ومن الطبيعي أن يستمرّ المجتمع الفطري على هذا الأساس مدّة من الزمان تسوده الوحدة ، لأنّ البشر في تلك المرحلة الفطريّة لا يملكون من المعارف والتجارب في شؤون الحياة ووسائلها وطرقها إلّاالشي‌ء المحدود الذي لا يتجاوز الفطريّات وبعض المكتسبات البدائيّة ، الأمر الذي كان يجعل الإنسان يتغذّى من أعشاب الأرض ونباتها ، ويتسلّح بالأحجار والصخور ، ويلوذ بالكهوف والمغارات ، ويصطاد أنواعاً متعدّدة من الحيوانات . والمجتمعات الفطريّة التي لا تتجاوز هذه الحدود لا يظهر فيها الاختلاف ، لبساطة آمالها وبدائيّة همومها ومفاهيمها ومحدوديّة وسائلها ومجالاتها .
ولكن بعد أن تستمرّ الإنسانيّة وتواصل تجاربها ، يتفتّح وعيها التأمّلي والعملي وتتّسع مجالاتها الحياتيّة وتنمو آمالها وتتعقّد آلامها ، فتخرج بذلك عن الحالة الاُولى ، وتصبح نفس القوّة الفطريّة التي كانت توحي إلى الناس بالاجتماع والتعاون - وهي حبّ الذات - سبباً في إثارة النزاع والصراع ، لأنّ الناس عبر اجتماعهم الفطري سوف يختلفون في تجاربهم وإدراكاتهم ، ويتفاوتون في مواهبهم وقواهم ، وكلّ ذلك يجعل غريزة حبّ الذات تدفع الإنسان إلى صرف إمكاناته التي يمتاز بها على الأفراد الآخرين في سبيل مصالحه الخاصّة ، وفي النهاية تدفعه إلى استخدام الأفراد الآخرين لتحقيق تلك المصالح .
وهنا يصبح من الضروري قيام حكومة تحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه ، وتقف في وجه الاتّجاه الجديد إلى الصراع والنزاع ، ولا يمكن أن تنبثق هذه الحكومة الهادية من نفس المجتمع الإنساني ، لأنّ مصدر المشكلة لا يمكن أن يضع لها الحلّ .
وهكذا يجي‌ء دور حكومة الأنبياء بوصفها العلاج الوحيد للمشكلة .
ونخلص من ذلك إلى أنّ الإنسانيّة مرّت في فجر حياتها الاجتماعيّة بدور المجتمع الفطري القائم على أساس الفطرة وهدايتها . وخلال تجربتها الاجتماعيّة هذه تكامل وعيها ونمت خبرتها ، فأصبحت الفطرة عاجزة عن ضمان الكيان الاجتماعي والحفاظ عليه ، بل عادت سبباً لتصديعه وخلق ألوان الصراع هنا وهناك ، وعند ذلك انتقلت الإنسانيّة من دور المجتمع الفطري إلى دور المجتمع الموجّه الذي يقوده الأنبياء عليهم السلام . (4)
المصادر :
1- البقرة : 213
2- تفسير العيّاشي 1 : 104
3- الأنعام : 77
4- نشر في مجلّة ( الأضواء ) ، السنة الاُولى ، العدد ( 20 - 21 ) ، باسم ( باحث )

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أولاد السيدة زينب (ع)
في خصوصيات زيارته التي هي اعظم الوسائل الحسينية
التربية على الحرية
زيارة عاشوراء
يا ليتَنا كنّا مَعكم
الدول المسلمة تستعد لاستقبال شهر رمضان
الانسانية عند الصادق عليه السلام
رفع الشُبُهات في تعدد الزوجات للنبي الأكرم محمد ...
العزاء وسر خلود عاشوراء
شعر الإمام الحسين

 
user comment