* د. رضا نجاد
لا يحمل وجود تفاهم كامل واستقرار دائم في حياة المرأة وزوجها. فكيف نقرّ بوجود مئات الاختلافات الجسمية والنفسية ولا نتوقع حصول خلاف بينهما، وما أن يلاحظ الرجل أدنى عمل من المرأة يتنافى مع رغبته، أو بمجرد أن ترى المرأة عملاً من الزوج لا ينسجم مع نفسيتها، يتوقع كل منهما أن يعرب الآخر عن توبته، ويعد بالقضاء على التناقضات وأسباب الخلاف.
بما أن الإنسان ليس كسائر الحيوانات التي قد تختلف عن بعضها في الكميات وتتلاقى في الكيفيات، فمن الطبيعي أن كل إنسانين يوجد بينهما اختلاف من السماء إلى الأرض. واختيار الزوجة يقع عادة ضمن هذه الفاصلة من الاختلاف، وكثيراً ما يحصل ضمن هذا السياق أن يكون الرجل مثابراً وتكون الزوجة كسولة. أو يكون الرجل متخلفاً عقلياً بينما تكون امرأته ذكية. في حين أن العربة القديمة يجب أن يجرها حصان قوي، والحصان الضعيف يجب أن تربط عليه عربة خفيفة وسهلة، وأن يتخذ الرئيس لحماية المرؤوسين، ويكون الآخرون كمرؤوسين ويعملوا على صيانة الرئيس. ويبدو أن رأي علماء الفيزياء في ما يخص خلقة المادة يصدق على خلقة غير المادة أيضاً. فهؤلاء العلماء يقولون إن خلق المادة تعيش حالة استواء، إذ أن المرتفعات والمنخفضات والزيادات والنواقص والحرارة والبرودة تؤثر في بعضها الآخر، وتوجد حالة من التعادل والتوازن تجعلها تسير على وتيرة واحدة نحو التوحيد. وهكذا الحال بالنسبة للرجل والمرأة فهما حينما يقترنان بعقد الزواج لابد وأن توجد بينهما اختلافات، ويجب أن تتداخل وتذوب نصف الاختلافات الموجودة لدى كل واحد منهما على الآخر: (من نطفة أمشاج نبتليه) الإنسان/ 2. والكائن الذي يأخذ على عاتقه مهمة تقليل مدى الاختلافات بين الموجودين السابقين هو الجيل الجديد.
يتلخص الاختلاف الأساسي بين الرجل والمرأة بالصراع بين الفكر والعاطفة، فالرجل يعيش بالأمل والتفكير، والمرأة تعيش بالأمل والعاطفة. ولهذا السبب لابد أن يدخل الرجل والمرأة في معترك الصراع المحتدم على الدوام بين العقل والأخلاق. ونحن نعلم بأن الاختلافات غالباً ما تنجم عنها أزمات. وإذا كان أحد طرفي البادية حاراً والآخر بارداً فلابد أن تقع عاصفة. وإذا كان أحد قطاعي المجتمع جائعاً والآخر متخوفاً فلابد أن تقع بينهم أزمة حادة. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى الرجل والمرأة اللذين يمثلان جنسين مختلفين وتوجد بينهما اختلافات كيفية وكمية كفيلة بإحداث أزمة ظهور الجيل الجديد وهو ما يفضي إلى دفع ثمن حياة الأجيال اللاحقة. وهذه هي الأزمة التي تسوق رجال ونساء المستقبل على مسار التوحيد نحو الله: (وإلى الله المصير)، (إلى ربنا لمنقلبون)، (إليه راجعون). وهذه هي العاصفة التي تستجلب سحاب الرحمة، أو كما يعبر عنه علماء النفس بقولهم: إن الغضب السطحي، والهواجس الطفيفة والمشاجرات اللفظية بمثابة الرعد والبرق الذي يستجلب المطر ويقود إلى ازدهار شجرة الحياة، على اعتبار أن المطر يأتي من بعد البرق والصاعقة، وبعد نزول المطر يسود الفرح والسرور.
إن الشخص الذي يختار شريكة حياته على هدى التعاليم الإلهية ويبني صرح حياته على أساس تعاليم الإسلام، تكون عوامل التضاد في حياته كسائر عوامل التضاد الموجودة في سائر مناحي الوجود الزاخرة بالسلب والإيجاب، والحرارة والبرودة، والمرض والصحة، والموت والحياة.
عُرضت عليَّ في ما سبق أسئلة كثيرة حول الترفيه، وبينت حينها بأن الإنسان يجب أن يعيش لحظات من الهم ودقائق من السرور بحيث لا يُفضي أي منهما إلى حصول توتر في الأعصاب، لأن مجموع توترات الأعصاب تساوي الموت. ولو أردنا إعطاء تعريف للتوتر هنا لقلنا بأن لنظام الجسم سعة معدودة على التطابق، وكل ما يأتي أكثر أو أقل من ذلك، أي أن يكون خارجاً عن حالة التطابق يؤدي إلى إيجاد التوتر. نقول على سبيل المثال بأن الإنسان لو نبت مسمار بيده يكون رد الفعل عبارة عن ألم وقفزة من المكان يرافقه تحشد كريات الدم البيضاء حول موضع الجرح لمقاومة البكتريا المعتدية إضافة إلى نشاط عملية تخثر الدم واستلئام الجرح، وكذلك إذا تلقى الشخص صفعة فإنها تجابه بردود فعل معينة من قبل الجسم، وكل حادثة مؤلمة أو سارة تلم بالشخص تستتبع وراءها ردود فعل، والحالة التي تقف وراءها تسمى توتراً. وقد حدد الدكتور توماس هيلمن العالم النفسي في جامعة واشنطن الطبية درجات متفاوتة لوقائع الحياة من حيث الشدة والضعف في التوتر ويقول بأن الزوجة الصالحة إذا ماتت يكون التوتر 100، وعند الطلاق 73، والزواج 50، والحصول على شهادة البكلوريوس 47، والانتقال إلى دار جديدة 20، وما إلى ذلك، وكلها تسبب الشيخوخة. إلا أن ما يأتي وراء التطابق هو الشيخوخة المبكرة. ويرى الدكتور المذكورة أن الشخص إذا ألمت به سنوياً أكثر من 200 درجة من التوتر فمعنى ذلك أنها تفوق سعة التطابق وتؤدي إلى إصابة الشخص بمرض. وأما التوتر الطفيف الذي يطبع الحياة المتحضرة فيجب أن نعيشه. بيد أن المدنية التي يريدها الإسلام لا تبيح شيئاً مما يضر الجسم أو الروح، وإذا كان الشيء مكروهاً فمن الأفضل أن لا يكون له وجود أساساً، وإذا كان شيء ما واجباً فلابد من الإتيان به، وإن كان وجوده أفضل من عدمه فهو مستحب. ومن هنا نلاحظ أن الإسلام فيه تطابق بين الحياة والإنسان، أي أنه دين ينسجم مع الفطرة. أما التوترات الطفيفة فهي بمثابة محفزات للحياة ولا يمكن للمرء اجتنابها، والسبيل الوحيد للتخلص منها هو عدم العمل إطلاقاً، وهذا هو أسوأ أنواع التوتر. لأن أساس خلق الإنسان قائم على العمل وتقلب الظروف والأحوال. ولكن الضغوط والتوترات مهما كانت لا توجد قلقاً لدى المؤمن الذي ينظر إلى الأمور من زاوية (ألا بذكر الله تطئمن القلوب)، وهو لا يصنع التوترات والضغوط من عند نفسه ويوجهها نحو الحياة، وإنما تأتي من الحياة صوب الكائن الحي.
إذا علمنا أن الفقر مفسدة فإن الثراء هو الآخر مفسدة أيضاً. لأن الثراء يعني وجود فائض والفقر يعني وجد شيء خاو وشيء أقل من الحد المطلوب. ومعنى هذا أن المشاجرات التي تقع بين الزوج والزوجة وما يصاحبها من تراشق لفظي يعتبر بمثابة ملح للحياة. وكل مَن يتعدى منهما طوره نحو الإسراف فهو شيطان يثير التوتر الحاد في الحياة ويقود إلى ضياع ذريته. وهذا ما سنشره لاحقاً في موضوع تربية الأولاد.
لو توقف التضاد والاختلاف أثناء مرحلة النشوب فلابد أن يحصل على أثره التمكين ونزول مطر الرحمة. وإلا فلو تواصل تأجيج نار الاختلاف من قبل المرأة أو من قبل الرجل بسبب نزعته التفوقية، فإن الصراع تتسع دائرته، وفي حالة تكرار ذلك تحل نار النكبة بدلاً من نزول مطر الرحمة. على الرجل أن يفكر على نحو منطقي وعقلاني ويذعن بحتمية وجود اختلافات ذوقية وفكرية ونفسية بين شابين من جنسين مختلفين ومن عائلتين مختلفتين، ويؤمن بإمكانية حل جميع أسباب التضاد. ومن الطبيعي أن مهمة تقصي جذور الخلاف وجوانب التضاد تقع على عاتق الرجل، وبعد ذلك يوعي المرأة إلى أن الغاية من حياتهما هي تحقيق حياة أفضل والوصول نحو النهاية على نحو أمثل. وعلى المرأة أيضاً حينما ترى الرجل مرهقاً أن تنظر إليه لا بصفته زوجاً وأباً لأطفالها وإنما بصفته نساناً متعباً من معاناة الحياة، ثم تأخذ على عاتقها تهدئة الأمور وتضييق شقة الاختلاف. وإذا كانت نار الانتقام متأججة في قلب تلك المرأة عليها في تلك اللحظة التي يكون فيها متعباً وغاضباً أن لا توسع دائرة الخلاف ولا تنال من زوجها أمام أقاربها لأن ذلك يترك في قلبه جروحاً عميقة. وكذلك على الرجل أن لا يسيء القول في زوجته أمام أقاربه. وإذا كانت المرأة قادرة على توفير الراحة لزوجها بشكل يزيل عنه التعب يكون لها نصف أجر الشهيد. وهذا المعنى جاء في رواية منقولة عن الإمام الصادق (ع) قال فيها: ((جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: إن لي زوجة إذا دخلت تلقتني وإذا خرجت شيعتني وإذا رأتني مهموماً قالت لي: ما يهمك؟ إن كنت تهتم لرزقك فقد تكفل لك به غيرك، وإن كنت تهتم لأمر آخرتك فزادك الله هماً. فقال رسول الله (ص): إن لله عمالاً وهذه من عماله لها نصف أجر الشهيد)).
قد يخطر على بال القارئ أن كل هذا الأجر الجزيل والثواب الجميل الذي جعله الإسلام للمرأة لقاء أعمال صغيرة إنما هو ثواب رمزي يراد منه التشجيع، ومن غير المعقول أن تحصل على كل هذا الأجر في مقابل غسل إناء واحد ووضعه في مكانه. بينما ذكرنا في ما سبق بأن رسول الله (ص) عندما قسّم التمر الذي كلّفه الشاب في وصيته بتقسيمه بعد مماته، وبقيت تمرة واحدة يابسة منه قال: ((لو أن هذا الشاب قسّم التمر بنفسه لكان خيراً له))، على اعتبار أن الناس كانوا إذا شاهدوا الرسول أو الإمام يعمل خيراً يعتبرون ذلك من واجبه، ولكنهم إذا رأوا شاباً آخر ينفق ففي عمله ذاك حجة عليهم ودعوة لهم لعمل الخير. والأهم من كل ذلك هو أن الإنفاق يغرس في الناس روح الطاعة وينمي لديهم الرغبة في البذل والعطاء وتنتقل هذه الخصلة منهم إلى ذريتهم جيلاً بعد جيل. إذاً فالعمل الصالح وإن كان يبدو في الظاهر قليلاً ولكنه ينتقل وراثياً من جيل إلى جيل وتنجم عنه فضائل كبرى. أي أنه ليس شيئاً رمزياً، وإنما حقيقة تأخذ في الاتساع ولا تنتهي إلا بانتهاء العالم.