علم الباحثون من مدقّقي الفلاسفة : أنّ في مآتمنا المختصّة بأهل البيت (عليهم السّلام) أسراراً شريفة(1) ، تعود على الاُمّة بصلاح آخرتها ودنياها ، اُنبّهك إليها بذكر بعضها ، و اُوكل الباقي إلى فطنتك ، فمنها : إنّها جامعة إسلاميّة ورابطة إماميّة باسم النّبي وآله (صلّى الله عليه وآله) ، ينبعث عنها الاعتصام بحبل الله عزّ وجلّ والتمسك بثقلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وفيها من اجتماع القلوب على أداء أجر الرسالة بمودّة القربى ، وترادف العزائم على إحياء أمر أهل البيت (عليهم السّلام) ما ليس في غيرها .
وحسبك في رجحانها ما يتسنّى بها للحكيم من إلقاء المواعظ والنّصائح ، وإيقاف المجتمعين على الشؤون الإسلاميّة والاُمور الإماميّة ولو إجمالاً ، وبذلك يكون أمل العاملي نفس أمل إخوانه في العراق وفارس والبحرين والهند وغيرها من بلاد الاسلام .
ولا تنسَ ما يتهيّأ للمجتمعين فيها من الاطّلاع على شؤونهم ، والبحث عن شؤون إخوانهم النائبين عنهم ، وما يتيّسر لهم حينئذ من تبادل الآراء فيما يعود عليهم بالنّفع ، ويجعلهم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً ، أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو أنَّت له سائر الأعضاء ، وبذلك يكونون مستقيمين في السّير على خطّة واحدة يسعون فيها وراء كلّ ما يرمون إليه .
ومنها : إنّ هذه المآتم دعوة إلى الدِّين بأحسن صورة وألطف اُسلوب ، بل هي أعلا صرخة للإسلام توقظ الغافل من سباته ، وتنبّه الجاهل من سكراته ، بما تشربه في قلوب المجتمعين ، وتنفّثه في آذان المستمعين ، وتبثّه في العالم وتصوّره قالباً لجميع بني آدم ، من أعلام الرسالة ، و آيات الإسلام ، وأدلّة الدِّين ، وحجج المسلمين ، والسّيرة النبويّة ، والخصائص العلويّة ، ومصائب أهل البيت في سبيل الله ، وصبرهم على الأذى في إعلاء كلمة الله .
فاُولوا النظر والتحقيق يعلمون أنّ خطباء هذه المآتم كلّهم دعاة إلى الدِّين من حيث لم يقصدوا ذلك ، بل لا مبشّر بالإسلام على التحقيق سواهم ، وأنت تعلم أنّ الموظّفين لهذا العمل الشريف لا يقصّرون في أنحاء البسيطة عن الاُلوف المؤلّفة ، فلَو بذل المسلمون شطر أموالهم ليوظفوا دعاة إلى دينهم بعدد أولئك الخطباء ما تيسّر ذلك لهم ، ولو تيسّر فلا يتيسّر من يستمع الدعوة على ممرّ الدهور استماع النّاس لما يتلى في هذه المآتم بكلّ رغبة و إقبال .
ومنها : ماقد أثبته العيان وشهد به الحس والوجدان من بثّ روح المعارف بسبب هذه المآتم ، ونشر أطراف من العلوم ببركتها ، إذ هي ـ بشرط كونها على اُصولها ـ أرقى مدرسة للعوام ، يستضيئون فيها بأنوار الحكم من جوامع الكلم ، ويلتقطون منها درر السّير ، ويقفون بها على أنواع العبر ، ويتلقّون فيها من الحديث والتفسير والفقه ما يلزمهم حمله ولا يسعهم جهله ، بل هي المدرسة الوحيدة للعوام في جميع بلاد الإسلام .
وقد تفنّن خطباؤها في ما يصدعون به أولاً على أعوادها ، ثمّ يتخلّصون منه إلى ذكر المصيبة وتلاوة الفاجعة .
فمنهم من يشنف المسامع ويشرف الجوامع بالحكم النبوية والمواعظ العلوية ، أو يتلو أولاً من كلام أئمة أهل البيت ما يقرب المستمعين إلى الله ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه.
ومنهم من يتلو أولاً من سيرة النّبي (صلى الله عليه وآله) وتاريخ أوصيائه (عليهم السّلام) ما يبعث المستمعين على مودّتهم ويضطرّهم إلى بذل الجهد في طاعتهم .
ومنهم مَن ينبّه الأفكار أوّلاً إلى فضل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومقام أوصيائه (عليهم السّلام) بما يسرده من الأحاديث الصحيحة والآيات المحكمة الصريحة .
ومنهم مَن يتلو أوّلاً من الأحكام الشرعيّة والعقائد الدينيّة ما تعمّ به البلوى للمكلّفين ولا مندوحة عن معرفته لأحد من العالمين .
هذه سيرتهم المستمرّة أيّام حياتهم ، فهل ترى بجدّك للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها ؟ لا ، وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها وحكمة الأوصياء الذين أرشدوا أوليائهم إليها .
ومنها: الارتقاء في الخطابة والعروج إلى منتهى البراعة ، كما يشهد به الوجدان ، ولا نحتاج فيه إلى برهان .
ومنها : العزاء عن كلّ مصيبة ، والسلوة لكلّ فادحة ، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم ، وتنسى القوارع بتلاوة قوارعهم ، كما قيل في رثائهم (عليه السّلام) :
أنست رزيّتكم رزايانا التي سلفت وهوّنت الرزايا الآتية
ومنها : إنعاش أهل الفاقة وإثلاج أكباد حرّا من أهل المسكنة على الدوام ، بما ينفق في هذه المآتم من الأموال في سبيل الله عزّ وجلّ ، وما يبذل فيها لأهل المسغبة وغيرهم ، و أنت تعلم أنّه لا وسيلة لقرّاء تلك المآتم في التعيّش غالباً إلاّ هذه الوظيفة ، وهم من الرجال والنّساء ـ بقطع النّظر عمّن يقومون بنفقته ـ اُلوف مؤلّفة يعيشون ببركة أهل البيت ويتنعّمون بيمن مآتمهم (عليهم السّلام) .
ومنها : إنّ المصلحة التي استشهد الحسين بأبي و اُمّي ! في سبيلها وسفك دمه الزكي تلقاءها ، تستوجب استمرار هذه المآتم ، وتقتضي دوامها إلى يوم القيامة .
وبيان ذلك : إنّ المنافقين حيث دفعوا أهل البيت (عليهم السّلام) عن مقامهم ، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ظهروا للنّاس بمظاهر النيابة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأظهروا التأييد لدينه والخدمة لشريعته ، فوقع الالتباس واغترّ بهم أكثر النّاس ، ولمّا ملكوا من الاُمّة أزمّتها واستسلمت لهم برمّتها ، حرّموا ـ والنّاس في سِنة عن سوء مقاصدهم ـ من حلال الله ما شاؤوا ، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا ، وعاثوا في الدِّين وحكموا في القاسطين ، فسمّلوا أعين أولياء الله ، وقطّعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وصلبوهم على جذوع النّخل ، ونفَوهم عن عقر ديارهم ، حتّى تفرّقوا أيدي سبا ، ولَعنوا أمير المؤمنين (عليه السّلام) وكنّوا به عن أخيه الصادق الأمين (صلّى الله عليه وآله) .
فلَو دامت تلك الأحوال ، وهم أولياء السّلطة المطلقة والرئاسة الروحانيّة ، لما أبقوا للإسلام عيناً ولا أثراً ، لكن ثأر الحسين (عليه السّلام) فادياً دين الله عزّ وجلّ بنفسه وأحبّائه حتّى وردوا حياض المنايا، ولسان حاله يقول :
إن كان دين محمّد لم يستقم إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني
فاستنقذ الدين من أيدي الظالمين، وانكشف الغطاء بوقوع تلك الرزايا عن نفاق القوم، حتى تجلت عداوتهم لله عز وجل وظهر انتقامهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه ، ولم يقنعوا بذبح الأطفال من أشباله أحياء وقد غارت أعينهم من شدّة العطش ، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الأرض من شيبة الحمد حتّى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل ، وحملوا رؤوسهم على أطراف الأسنّة ، وتركوا أشلاءهم الموزّعة عاريةً بالعراء مباحةً لوحوش الأرض وطير السّماء .
ثمّ أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلبات ، وطافوا البلاد بهنّ سبايا ، كأنّهن من كوافر البربر ، حتّى أدخلوهنّ تارة على ابن مرجانة ، واُخرى على ابن آكلة الأكباد ، وأوقفوهنّ على درج الجامع في دمشق حيث تباع جواري السبي . فلم تبقَ بعدها وقفة من عداوتهم لله ، ولا ريبة بنفاقهم في دين الإسلام .
ما كان ليزيد أن يرتكب ما ارتكب لولا ما مهّده سلفه وعَلِمَ حينئذ أهلُ البحث والتنقيب من اُولي الألباب أنّ هذه اُمور دُبّرت بليل ، و أنّها عن عهد السّلف بها إلى خلفه ، وما كانت ارتجالاً من يزيد ، وما المسبّب لَو لَم ينجح السّبب .
ثمّ لَم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّى لكلّ مَن نظر نظراً فلسفيّاً في فجائع الطفّ وخطوب أهل البيت (عليهم السّلام) ، أو بحث بحثاً مدققاً عن أساس تلك القوارع وأسباب هاتيك الفظائع .
وقد علم أهلُ التدقيق من أولي البصائر أنّه ما كان لهذا الفاجر أنْ يرتكب من أهل البيت (عليهم السّلام) ما ارتكب ، لَولا ما مهّده سلفه من هدم سورهم وإطفاء نورهم وحمله النّاسَ على رقابهم وفعله الشنيع يوم بابهم .
لولا ما بذله الحسين (ع) لأمسى الإسلام خبراً من الأخبار وتالله لَولا ما بذله الحسين (عليه السّلام) في سبيل إحياء الدِّين من نفسه الزكيّة ونفوس أحبّائه بتلك الكيفيّة ، لأمسى الإسلام خبراً من الأخبار السّالفة(2)، وأضحى المسلمون اُمّة من الاُمم التالفة .
إذ لَو بقي المنافقون على ماكانوا عليه من الظهور للعامّة بالنيابة عن رسول الله والنّصح لدينه (صلّى الله عليه وآله) وهم أولياء السّلطة المطلقة والإرادة المقدّسة ، لغرسوا من شجرة النّفاق ما أرادوا ، وبثّوا من روح الزندقة ما شاؤوا ، وفعلوا بالدِّين ما توجبه عداواتهم له ، وارتكبوا من الشريعة كلّ أمر يقتضيه نفاقهم .
لولا ما تحمّله الحسين (ع) ما قامت لأهل البيت (عليهم السّلام) قائمة و أمّا ـ وشيبة الحسين (ع) المخضوبة بدمه الطاهر ـ لولا ما تحمّله (سلام الله عليه) في سبيل الله ، ما قامت لأهل البيت (عليهم السّلام) ـ وهم حجج الله ـ قائمة . ولا عرفهم ـ وهم أولوا الأمر ـ ممّن تأخّر عنهم أحد . لكنّه بأبي و أمي ! فضح المنافقين ، وأسقطهم من أنظار العالمين ، واستلفت الأبصار بمصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) ، واضطرّ النّاس بحلول هذه القارعة إلى البحث عن أساسها ، وحملهم على التنقيب عن أسبابها ، والفحص عن جذرها وبذرها ، واستنهض الهمم إلى حفظ مقام أهل البيت (عليهم السّلام) وحرّك الحميّة على الانتصار لهم ؛ لأنّ الطبيعة البشريّة والجبلة الانسانية تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من الضالمين .
فاندفع المسلمون إلى موالاة أهل البيت (عليهم السّلام) حتّى كأنّهم قد دخلوا ـ بعد فاجعة الطفّ ـ في دَور جديد ، وظهرت الروحانيّة الإسلاميّة بأجلى مظاهرها ، وسطع نور أهل البيت (عليهم السّلام) بعد أنْ كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين ، وانتبه النّاس إلى نصوص الكتاب والسنّة فيهم (عليهم السّلام) ، فهدى الله بها من هدى لدينه ، وضلّ عنها من عمى عن سبيله .
عِلم الإمام الحسين (ع) بما سيجري في كربلاء
وكان الحسين ، بأبي واُمّي ! على يقين من ترتّب هذه الآثار الشريفة على قتله ، وانتهاب رحله ، وذبح أطفاله وسبي عياله ، بل لَم يجد طريقاً لإرشاد الخلق إلى الأئمّة بالحقّ واستنقاذ الدِّين من أئمّة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم وعلا في نفوس العامّة أمرهم ـ إلاّ الإستسلام لتلك الرزايا والصبر على هاتيك البلايا .
وما قصد كربلاء إلاّ لتحمّل ذلك البلاء عهد معهود عن أخيه عن أبيه عن جدّه عن الله عزّ وجلّ .
ويرشدك إلى ذلك ـ مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله وقرائن أفعاله ، فإنّها نصّ فيما قلناه .
وحسبك منها جوابه لاُمّ سلمة إذ قالت له ، كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما : يا بُني ، لا تحزن بخروجك إلى العراق ، فإنّي سمعت جدّك (صلّى الله عليه وآله) يقول :
(( يُقتل ولدي الحسين بأرضِ العراقِ في أرضٍ يقال لَها كربلاء )) . فقال لها : (( يا اُمّاه ، وأنا والله أعلَمُ ذلكَ ، وإنّي مقتولٌ لا محالة ، وليسَ لي منه بدّ ، وقد شاء اللهُ عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً ، ويرى حرمي مُشرّدين ، وأطفالي مَذبوحين ))(3) .
وجوابه لأخيه عمر ، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد : حدّثني أخوك أبو محمّد عن أبيه ، ثمّ بكى حتّى علا شهيقه ، فضمّه الحسين (ع) إليه وقال ، كما في الملهوف وغيره : (( حدّثك أني مقتول ؟ )) قال : حوشيت يابن رسول الله ، فقال : (( بحقِّ أبيكَ ، بِقتلي خبّرك ؟ )) قال : نعم ، فلَو بايعت . فقال (عليه السّلام) : (( حدّثني أبي : أنّ رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) أخبرَه بِقتله وقتلي ، وأنّ تربتي تكون بِقربِ تربتِهِ . أتظنّ أنّك علمتَ ما لَم أعلم ؟ ))(4) .
والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه (صلّى الله عليه وآله) ، حين ذهب ليودّعه ، وقول النّبي (ص) له فيها ، كما في أمالي الصدوق وغيره : (( بأبي أنت ! كأنّي أراكَ مرمّلاً بدمِك بَينَ عصابةٍ مِن هذهِ الاُمّة يرجونَ شفاعتي ، مالهم عند اللهِ مِن خَلاق ))(5) .
وكتابه إلى بني هاشم لمّا فصل من المدينة ، وقوله فيه ، كما في الملهوف نقلاً عن رسائل ثقة الإسلام : (( أمّا بعد ، فإنّ مَن لَحِق بي منكم استشهد ومَن تخلّف لَم يبلغ الفتح ))(6 ) . وخطبته ليلة خروجه من مكّة ، وقوله فيها ، كما في الملهوف وغيره : (( كأنّي بأوصالي تُقطّعُها عَسلان الفلَوات بَينَ النّواويس وكربلاء )) إلى أنْ قال :
(( ألا ومَن كان باذلاً فينا مهجته موطّئاً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى ))(7). وقوله ، كما في الملهوف وغيره : (( لَولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل ، لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكنّي أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلاّ ولدي علي ))(8) .
وجوابه لأخيه محمّد بن الحنفيّة ، إذ قال له ، كما في الملهوف وغيره : يا أخي ، ألم تعدني النّظر فيما سألتك ؟ قال (ع) : (( بلى ، ولكن أتاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدما فارقتك ، فقال : يا حسين اخرج ، فإنّ الله قد شاء أنْ يراك قتيلاً )) . فقال ابن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هذه النّسوة وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟ فقال له : (( قال لي : إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا ))(9) .
وجوابه لابن عبّاس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالإمساك ، فقال (ع) لهما ، كما في الملهوف وغيره : (( إنّ رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه )) . فخرج ابن عبّاس وهو يقول : وآ حسيناه !(10) .
وجوابه لعبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع ، فأبى وقال لهما ، كما في تاريخي ابن جرير و ابن الأثير وغيرهما : (( رأيتُ رؤيا ، رأيتُ فيها رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) واُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له ))(11)
وقوله في كلام له مع ابن الزبير ، كما في تاريخَي ابن جرير وابن الاثير وغيرهما : (( وأيم اللهِ ، لَو كنتُ في حجر هامةٍ من هذه الهوام ، لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتَهم ، و واللهِ ليعتُدنّ عليَّ كما اعتدت اليهودُ في السّبتِ ))(12) .
وقوله في مقام آخر ، كما في كامل ابن الأثير وغيره : (( واللهِ لا يَدَعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط اللهُ عليهم مَن يذلّهم ، حتّى يكونوا أذلّ من فَرْم المرأة ))(13) ( يعني : من خرقة الحيض )
وقوله لأبي هرّة ، كما في تاريخ ابن جرير وغيره : (( وأيمَ اللهِ لتقتلني الفئةُ الباغيةُ )) .
و رؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل ، كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال حين انتبه : (( إنّا للهِ وإنّا له راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين )) . قال : ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً ، قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : يا أبتاه جعلتُ فداك ممَّ حمدت الله واسترجعت ؟ فقال : (( يا بُني ، خَفقتُ بِرأسي خَفقةً ، فعنّ لي فارسٌ فقال : القَوم يَسيرون والمَنايا تَسير إلَيهم ، فَعلِمتُ أنّها أنفسَنا نُعيت إلَينا )) . فقال : يا أبت ، لا أراك الله سوءاً ،
ألسنا على الحق ؟ قال (ع) : (( بَلى والذي إليهِ مرجعُ العِبادِ )) . قال : يا أبت ، إذاً لا نبالي نموت مُحقّين ، فقال (ع) له : (( جزاكَ اللهُ مِن وَلَدٍ خيرَ ما جزى ولداً عن والدِه ))(14) .
وقوله لمّا اُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي ، كما في تاريخ الطبري وغيره : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً)(15)(16) .
إلى غير ذلك من أقواله الصريحة بأنّه كان على يقين ممّا انتهى إليه حاله ، وأنّه ما خرج إلاّ ليبذل في سبيل الله نفسه وجميع ما ملكته يده ، ويضحّي في إحياء دين الله : أولاده و إخوته و أبناء أخيه وبني عمومته ، وخاصّة أوليائه ، والعقائل الطاهرات من نسائه .
إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفا إلاّ إذا دمه في نصره سفكا
ومـا سـمعنا عـليلاً لا عـلاج iiله إلاّ بـنـفس مـداويـه إذ iiهـلـكا
بـقتله فـاح لـلاسلام طيب iiهدى فـكـلّما ذكـرته الـمسلمون iiذكـا
وصـان ستر الهدى عن كلّ iiخائنة سـتر الـفواطم يوم الطف إذ هتكا
نـفسي الـفداء لـفاد شـرع iiوالده بـنـفـسه وبـأهـليه iiومـامـلكا
قـد آثـر الـدين أن يحيى فقحمها حيث استقام القنا الخطي واشتبكا(17)
على أنّ الأمر الذي انتهى إليه حاله كان من الوضوح بمثابة لَم تخفَ على أحد ، وقد نهاه عن ذلك الوجه ـ جهلاً بمقاصده السامية ـ كثير من النّاس ، وأشفقوا عليه وأنذروه بلؤم بني اُميّة وغدر أهل العراق :
فقال له أخوه محمّد بن الحنفيّة ، كما في الملهوف وغيره : يا أخي إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفتُ أنْ يكون حالك كحال مَن مضى ، فإنْ رأيت أن تقيم فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه ... فإنْ خفتَ فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ، فإنّك أمنع النّاس به ولا يقدر عليك أحد . فردّه الحسين (عليه السّلام) برأفة ورفق ، وقال : (( أنظرُ فيما قلتَ ))(18) .
وأتاه ابن عبّاس فقال : يابن عم ، قد أرجف النّاس أنّك سائر إلى العراق ، فبيِّن لي ما أنت صانع ؟ قال (ع) : (( إنّي قد أجمعت المسير في أحد يومَي هذين إن شاء الله تعالى )) . فقال له ابن عبّاس ، كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : فإنّي اُعيذك بالله من ذلك ، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم ؟ فإنْ كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم ، و إن كانوا إنّما دَعَوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبي بلادهم ، فإنّهم إنّما دَعوك إلى الحرب والقتال ، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك ، فيكونوا أشدّ النّاس عليك ، فردّه الحسين (عليه السّلام) ردّ رحمة وحنان فقال له :(( أستخير الله وأنظر ما يكون ))(19) .
فخرج ابن عبّاس ، ثمّ جاءه مرّة اُخرى فقال له ، كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : يابن عم ، إنّي أتصبّر ولا أصبر ، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إنّ أهل العراق قوم غُدُر فلا تقربنّهم ، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم ، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تخرج فسِر إلى اليمن ، فإنّ بها حصوناً وشعاباً ، وهي أرض طويلة عريضة ، ولأبيك بها شيعة ، وأنت عن النّاس في عزلة ، فتكتُب إلى النّاس وترسل وتبث دعاتك ، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية ، فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( يابن عم ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصحٌ مُشفِق ، ولكن قد أزمعتُ وأجمعتُ على المَسير ))(20) .
ودخل عليه عمر بن عبد الرحمن المخزومي فقال له ، كما في تاريخَي الطبري وابن الأثير وغيرهما : إنّي مُشفِق عليك ، إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه ، ومعهم بيوت الأموال ، و إنّما النّاس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصرَه ، فقال له الحسين (ع) : (( جزاك الله خيراً يابن عم ، فقد والله علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ، ومهما يُقض من أمر يكن (21)
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بعد خروجه من مكّة ، كما في تاريخَي الطبري و ابن الأثير وغيرهما : أمّا بعد ، فإنّي أسألك بالله لِما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فإنّي مشفق
عليك من هذا الوجه أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، و إنْ هلكتَ اليوم طُفىء نور الأرض ، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجّل بالسّير ، فإنّي في أثر كتابي ، والسّلام .
وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد ، وهو عامل يزيد يومئذ بمكّة فقال له : اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه ، وتمنّيه فيه البرّ والصلة واسأله الرجوع ، ففعل عمرو ذلك و أرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر ، فلحقاه وقرّءا عليه الكتاب وجهداً أن يرجع ، فلَم يفعل(22) .
وقال له عبد الله بن مطيع ـ إذ إجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ ، كما في تاريخ الطبري وغيره : اُذكّرك الله يابن رسول الله وحرمةَ الإسلام أنْ تنهتك ، اُنشدك الله في حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، اُنشدك الله في حرمة العرب ،
فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنّك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً ، والله إنّها لحرمة الإسلام تنتهك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ، ولا تعرَّض لبني اُميّة . قال : فأبى إلاّ أنْ يمضي(23) ، إنجازاً لمقاصده السّامية .
ولقيَه أحد بني عكرمة ببطن العقبة ، كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له : اُنشدك الله لما انصرفتَ ، فو الله لا تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف ، فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لَو كانوا كفَوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدِمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل . قال : فقال (ع) له : (( يا عبدَ اللهِ ، إنّه ليس يخفى عليّ ، الرأيُ ما رأيتَ ، ولكنّ الله لا يُغْلَب على أمرِهِ ))(24) .
ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسيّة ، كما في تاريخ الطبري وغيره ، فقال له : إرجع ، فإنّي لَم أدَع لك خيراً أرجوه .
وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصفاح ، كما في تاريخ الطبري وغيره ، فقال له : قلوب النّاس معك وسيوفهم مع بني اُميّة(25) .
وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع، إشفاقاً عليه من لؤم بني اُميّة وغدر أهل العراق ، وما كان ليخفى عليه ماظهر لأغلب النّاس ، لكنّه وهؤلاء كما قيل : أنت بواد والعذول بوادي .
ما نزل ، بأبي واُمّي ! منزلاً ولا ارتحل منه ، كما في الإرشاد وغيره ، إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله .
وقال يوماً : (( مِن هَوانِ الدُّنيا على اللهِ إنّ رأس يَحيى بن زكرّيا اُهدِيَ إلى بَغيٍ مِن بَغايا بَني إسرائيل )) .
فهل تراه أراد بهذا غير الإشارة إلى أنّ سبيله في هذا الوجه إنّما هو سبيل يحيى (عليه السّلام) ؟
وأخبره الأسديّان وهو نازل في الثعلبيّة ، كما في تاريخ الطبري وغيره ، بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، وأنّهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق بلا نكير(26) .
فهل يمكن بعد هذا أنْ يبقى له أمل بنصرة أهل الكوفة ، أو طمع في شيء من خيرهم ؟! والله ما جاءهم إلاّ يائساً منهم ، عالماً بكلّ ما كان منهم عليه .
وقد كتب ، وهو نازل بزبالة ، كتاباً قُرىء بأمره على النّاس وفيه :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّه قد أتانا خبر فظيع ، قُتل مسلمُ بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبدُ اللهِ بن بُقطر ، وقد خذلتنا شيعتُنا ، فمَن أحبّ منكم الانصرافَ فَلينصَرف ، ليس عليه منّا ذِمام )) .
قال محمّد بن جرير الطبري في تاريخ الاُمم والملوك :
فتفرّق النّاس عنه تفرّقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً ، حتّى بَقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة . قال : وإنّما فعل ذلك ؛ لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب ؛ لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون .
قال : وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ مَن يريد مواساته والموت معه(27) .
وذكر أهل الأخبار : إنّ الطرمّاح بن عدي لمّا اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له ، كما في تاريخ الطبري وغيره : والله إنّي لانظر فما أرى معك أحداً ، ولَو لَم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ( يعني : الحرّ وأصحابه ـ لكان كفى بهم ، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من النّاس مالَم ترَ عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم ؟ فقيل :
اجتمعوا ليعرضوا ثمّ يسرحوا إلى حرب الحسين (ع) ، فاُنشدك الله إن قدرتَ على أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت ، فإنْ أردت أنْ تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبيّن لك ما أنت صانع ، فسر حتّى اُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى ( أجأ ) ، امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحمير ومن النّعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر ، والله ما دخل علينا فيه ذل قط ، فأسير معك حتّى أنزلك القرية ، ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى من طيّئ ، فو الله لا يأتي عليك عشرة أيام حتّى تأتيك طيئ رجالاً و ركباناً ، ثمّ أقم فينا مابدا لك ، فإنْ هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يدَيك بأسيافهم ، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عين تطرف . فقال (ع) له : (( جزاكَ اللهُ وقومَك خيراً ))(28) . وأبى أن ينصرف عن مقصده .
وأنت تعلم أنّه لَو كان له رغبة في غلبة أو مَيل إلى سلطان ، لكان لكلام الطرمّاح وقع في نفسه (عليه السّلام) ، ولظهر منه المَيل إلى ما عرضه عليه ، لكنّه بأبي واُمّي ! أبى إلاّ الفوز بالشهادة ، والموت في إحياء دين الإسلام
وقد صرّح بذلك فيما تمثل به ، إذ قال له الحرّ : أذكّرك الله في نفسك فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلن ، فقال (عليه السّلام) ، كما في تاريخ الطبري وغيره :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا مـا نـوى حـقاً وجـاهد مسلماً
وآسـى الـرجال الصالحين iiبنفسه وفـارق مـثبوراً يغُشّ ويُرغما(29)
وحسبك في إثبات علمه من أوّل الأمر بما انتهى إليه حاله ما سمعته من ؛ إخبار النّبي (صلّى الله عليه وآله) بقتله في شاطىء الفرات بموضع يقال له كربلاء ، وبكائه عليه ، ونداء أمير المؤمنين (عليه السّلام) لمّا حاذى نينوى وهو منصرف إلى صفين : (( صَبراً أبا عبدِ اللهِ ، صبراً أبا عبدِ اللهِ بشاطىء الفراتِ )) . وقوله (ع) إذ مرّ بكربلاء : (( ها هنا مناخُ رِكابِهم ، وها هنا مَوضعُ رحالِهم ، وها هنا مِهراق دمائِهم )) . وقول الحسين (عليه السّلام) لأخيه عمر : (( حدّثَني أبي أنّ رسولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) أخبرهُ بقتلِه وقتلي ، وأنّ تُربتي تَكونَ بقربِ تربتِهِ )) . وقول الحسن للحسين (عليهما السّلام) ، كما في أمالي الصدوق وغيره ، من جملة كلام كان بينهما : (( ولكنَّ لا يوم كيومِكَ يا أبا عبدِ اللهِ ، يزدلفُ إليكَ ثلاثون ألف رجل ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك ، فعندها يحلّ الله ببني اُميّة اللعنة )) .
إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ قُتل الحسين (عليه السّلام) كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، بل صريح أخبارنا أنّ ذلك ممّا اُوحي إلى الأنبياء السّابقين(30) ، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم (عليهم السّلام) .
ويظهر من بعض الأخبار أنّ قتل الحسين (ع) كان معروفاً عند جملة من الصحابة والتابعين ، حتّى أنّهم لَيعلمون أنّ قاتله عمر بن سعد .
وحسبك ما نقله ابن الأثير ، حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله ، عن عبد الله بن شريك ، قال : أدرك أصحاب الأردية المعلمة و أصحاب البرانس السّود من أصحاب السّواري ، إذ مرّ بهم عمر بن سعد ، قالوا : هذا قاتل الحسين ، وذلك قبل أنْ يقتله .
قال : وقال ابن سيرين : قال علي (ع) لعمر بن سعد : (( كيفَ أنتَ إذا قُمتَ مقاماً تخيّر فيهِ بينَ الجنّةِ والنّارِ ، فتختار النّارَ ))(31) .
أترى الحسين (عليه السّلام) كان جاهلاً بما عليه أصحاب السّواري ؟ كلاّ ، والله ما علم أصحاب البرانس السّود ذلك إلاّ منه ، أو من أخيه ، أو من جدّه ، أو من أبيه .
وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إذ لم نجد مَن وفّاه حقّه وخرج من عهدة التكليف بإيضاحه ، والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة ، وتقرير شواهدها وأدلّتها ، على وجه تركن النّفس إليه ، ولا يجد المُنصف بدّاً من البناء عليه ، بل لا أظنّ أحداً يقف على ما تلوناه ثمّ يرتاب فيما قرّرناه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
________________________________________
(1) نبَّهكَ إلى بعضها حكيما الغربيين وفيلسوفا المستشرقين: الدكتور جوزف الفرنساوي في كتابه : ( الإسلام والمسلمون ) ، والمسيو ماربين الالماني في كتابه ( السّياسة الإسلاميّة ) .
وقد ترجمت جريدة ( حبل المتين ) الفارسيّة في 82 من أعداد سنة 17 فصلَين من ذينك الكتابين النّفيسين ، يحتويان على أسرار شهادة الحسين (ع) وفلسفة مأتمه ( عليه السّلام ) ، فكان لهما دوي في العالم الإسلامي ، وأخذا في الشرق دوراً مهمّاً ، وترجما بالتركيّة والهنديّة ، وعرّبهما العلاّمة الباحث السيّد صدر الدين الموسوي نجل آية الله السيّد إسماعيل الصدر ، فنشرت مجلّة ( العلم ) أحد الفصلَين ، ومجلّة العرفان نشرت الآخر .
وإليك ماذكره الدكتور جوزف تحت عنوان ( الشيعة وترقياتها المحيرة للعقول ) ، قال من جملة كلام له طويل : لَم تكن هذه الفرقة ( يعني الشيعة ) ظاهرة في القرون الاُولى الاسلاميّة كأختها ، ويمكن أنْ تنسَب قلّتهم إلى سببين ؛ أحدهما: أنّ الرئاسة والحكومة التي هي سبب ازدياد تابعي المذهب كانت بيد الفرقة الاُخرى . والسّبب الآخر : هو القتل والغارات التي كانت تتوالى عليهم .
ونظراً لحفظ نفوس الشيعة حكم أحد أئمّتهم في أوائل القرن الثاني عليهم بالتقيّة ، فزادت في قوّتهم ؛ لعدم تمكن العدوّ القوي الشكيمة من قتلهم والإغارة عليهم ، بعد أنْ لَم يكونوا ظاهرين ، وصاروا يعقدون المجالس سرّاً ويبكون على مصائب الحسين ، واستحكمت هذه العاطفة في قلوبهم على وجه لَم يمضِ زمان قليل إلاّ وارتقوا ، حتّى صار منهم الخلفاء والسّلاطين والوزراء ، وهؤلاء بين مَن أخفى مذهبه وتشيّعه ، وبين مَن أظهره .
وبعد أمير تيمور ، حيث رجعت السّلطنة في إيران إلى الصفويّة ، صارت إيران مركز فرقة الشيعة ، وبمقتضى تخمين بعض سوّاح فرنسا أنّ الشيعة فعلاً : سُدس المسلمين أو سُبعهم .
( الإحصائيّات الآن تنبئنا بأن الشيعة تتراوح نسبتهم بين الربع والثلث من عدد المسلمين )
ونظراً إلى هذا الترقّي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل ، من دون جبر وإكراه ، يمكن أن يقال : إنّهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن أو قرنين .
والسّبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كلّ واحد منهم داعياً إلى مذهبه ، ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد أو الاثنان من الشيعة إلاّ ويقيمان فيه عزاء الحسين ، ويبذلان في هذا السبيل الآموال الكثيرة .
فقد رأيتُ في ( نزل ما رسل ) شيعياً عربياً من أهالي البحرين يقيم مأتم الحسين وهو منفرد ، ويرقى المنبر ويقرأ في كتاب ويبكي ، ثم يقسّم ما أحضره من الطعام على الفقراء .
هذه الطائفة تبذل الأموال في هذا السّبيل على وجهَين : فبعضهم يبذلها من خالص أمواله في كلّ سنة بقدر استطاعته ، وصرفيّات هذا القسم تزيد على ملايين فرنك .
وبعضهم يعيّن أوقافاً لهذا المشروع لخصوص هذه الطائفة ، وهذا القسم أضعاف الأوّل .
ويمكن أن يقال : إنّ جميع فرق الإسلام من حيث المجموع لا يبذلون في سبيل تأييد مذهبهم بمقدار ما تبذله هذه الفرقة في سبيل ترقيات مذهبها ، وموقوفات هذه الفرقة ضعفا أوقاف سائر المسلمين ، أو ثلاثة أضعافها .
كلّ واحد من هذه الفرقة هو في الحقيقة داع إلى مذهبه من حيث يخفى على سائر المسلمين ، بل إنّ الشيعة أنفسهم لا يدركون هذه الفائدة المترتبة على عملهم ، وليس في نظرهم إلاّ الثواب الاُخروي .
ولكن حيث أنّ كل من عمل في هذا العالم لابدّ وأن يكون له أثر طبيعي في العالم الاجتماعي ، قصده الفاعل أو لم يقصده ، لم تحرم هذه الفرقة فوائد هذا العمل الطبيعيّة في هذا العالم .
ومن المعلوم أن مذهباً دعاته خمسون أو ستّون مليوناً لابدّ وأن يرتقي أربابه على وجه التدريج إلى ما يليق بشأنهم ، حتّى أنّ الرؤساء الروحانيين من هذه الفرقة وسلاطينها ووزرائها لم يخرجوا عن صفة كونهم دعاة ، وسعي الفقراء والضعفاء في محافظة إقامة عزاء الحسين من حيث انتفاعهم من هذا الباب أكثر من الأعيان والأكابر ؛ لأنّهم يرون في ذلك خير الدُّنيا والآخرة ؛ لهذا ترى جماعة كثيرين من عقلاء هذه الفرقة قد تركوا سائر أشغالهم المعاشيّة وتفرّغوا لهذا العمل ، وهم يكابدون المشاق في تحرّي العبارات الرائفة والجمل الواضحة عند إلقاء فضائل رؤساء دينهم ومصائب أهل البيت على المنابر في المجالس العموميّة ، ولأجل هذه المشقات التي اختارتها هذه الجماعة فاق خطباء هذه الفرقة على خطباء جميع فرق المسلمين . وحيث أنّ تكرار الأمر الواحد يوجب اشمئزاز القلوب ومللها وعدم التأثير ، تسعى هذه الجماعة في ذكر تمام المسائل الإسلامية الراجعة إلى مذهبهم بهذا العنوان على المنابر ، حتّى آل الامر إلى عوام الشيعة بفضل هؤلاء الخطباء أن أصبحوا أعرف بمسائل مذهبهم من معرفة كلّ فرقة من فرق المسلمين بمذهبها ، كما أنّ اكتساب الشيعة واحترافهم بهذه الوسيلة وسائر الوسائل الراجعة إليها أيضاً أكثر من سائر المسلمين .
ولَو نظرنا اليوم في أقطار العالم ، نرى أنّ الأفراد التّي هي أولى بالمعرفة والعلم والصنعة والثروة إنّما توجد بين الشيعة ، والدعوة التي قام بها الشيعة إلى مذهبهم أو سائر الفرق الإسلاميّة غير محدودة ، بل أنّ آحاد وأفراد الطائفة دعاة ، ما دخلوا بين اُمّة إلاّ وسرى هذا الأثر في قلوبها ، وليس العدد الذي نراه اليوم في الهند من الشيعة إلاّ هو أثر إقامة هذه المآتم .
الشيعة لم تؤيّد دينها بقوّة ولا سيف ، حتّى في زمن الصفويّة ، بل أنّهم بلغوا هذه الدرجة من الترقّي المحيّر للعقول بقوة الكلام والدعوة التي أثرها أمضى من السّيف .
ولقد بلغ اهتمام هذه الفرقة في أداء مراسم مذهبها مبلغاً عظيماً ، حتّى جعلت ثلثي المسلمين من أتباع سيرتها ، بل اشترك معها كثير من الهنود والمجوس وسائر المذاهب .
ومن المعلوم أنّ بعد مُضيّ قرن ووصل هذه الأعمال بالإرث إلى أبناء اُولئك الطوائف يذعنون بها ويصدقون هذا المذهب .
وبما أنّ فرقة الشيعة تعتقد بأنّ جميع المطالب والمقاصد موكول نجاحها إلى أكابر مذهبهم ، وهم يفزعون إليهم في قضاء الحوائج ، ويستمدّون منهم عند الشدائد ، سرت هذه الروح أيضاً إلى سائر الفِرق التي اشتركت معهم في تلك الأعمال والأفعال ، ومن المعلوم أنّ بمجرّد قضاء حاجتهم وبلوغ آمالهم تزداد عقيدتهم بهذا المذهب رسوخاً .
من هذه القرائن والأسباب يمكننا أنْ نقول : لا يمضي على هذه الفرقة زمان قليل إلاّ وتفوق سائر المسلمين من حيث العدد ، وكانت هذه الفرقة قبل قرن أو قرنَين تلازم التقيّة ـ فيما عدا إيران ـ ؛ نظراً لقلّتهم ، وعدم قدرتهم على إظهار شعائر مذهبهم . ولكن من يوم استولت الدولة الغربية على الممالك الشرقيّة ومنحت جميع المذاهب الحريّة قامت هذه الفرقة تقيم شعائر مذهبها علناً في كلّ مكان ، واستفادوا من هذه الحريّة فائدة تامّة حتّى أنّهم تركوا التقيّة .
لهذه الأسباب المذكورة كانت هذه الفرقة أعرف من غيرها بمقتضيات العصر الحاضر ، وأكثر سعياً باكتساب المعاش وتحصيل المعارف ، لذلك ترى العمّال في هذه الفرقة أكثر ممّا تراه في سائر فرق المسلمين ؛ لاشتغال الغالب منهم المستلزم لمتابعة غير الغالب ، مضافاً إلى أنّ مثابرتهم على العمل ممّا توجب احتياج الغير إليهم ، كما أنّ اختلاطهم مع سائر الفِرق وصلاتهم الوداديّة مع غيرهم تلازم غالباً اشتراك الغير في مجالسهم ومحافلهم ، فيسمعون اُصول مذهبهم ، ويصغون إلى كلماتهم وعباراتهم ، وبتكرار ذلك يأنسون بطريقتهم ومذهبهم .
وهذا هو عمل الدعاة ، والأثر الذي يترتّب على هذه السيرة هو الأثر الذي يتطلّبه جميع ساسة الغرب في رقي دين المسيح مع تلك المصارف الباهظة .
ومن جملة الاُمور : السّياسة التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصيغة مذهبيّة منذ قرون وأوجبت جلب قلب البعيد والقريب هو : قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين ، وقد قرّر حكماء الهند التمثيل لأغراض ليس هذا موضع ذكرها وجعلوه من أجزاء عباداتهم ، فأخذته أورپا وأخرجته بمقتضى السّياسة بصورة التفرّج ، وصارت تمثّل الاُمور المهمّة السّياسيّة في دور التمثيل الخاصّة والعامّة ، وجلبت القلوب بسببه ، وأصابت بسهم غرضَين : تفريج النّفوس وجلب القلوب في الاُمور السياسيّة ، والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة وأظهرته بصيغة دينيّة ، ويمكن القول بأنّ الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود .
وكيف كان ، فالأثر الذي ينبغي أنْ يعود من التمثيل إلى قلوب الخواص والعوام قد عاد ، ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم وذكر المصائب الواردة على أكابر دينهم ، والمظالم التي وردت على الحسين ، مع تلك الأخبار الواردة في فضل البكاء على مصائب آل محمّد ، إذا انضمّت إلى تمثيل تلك المصائب ، تكون شديدة الأثر ، وتوجب رسوخ عقائد خواصّ هذه الفرقة وعوامها ، فوق ما يتصوّر .
وهذا هو السّبب الذي لَم يسمع من ابتداء ترقّي مذهب الشيعة إلى الآن أنْ ترك بعضهم دين الإسلام أو دخل في سائر الفرق الإسلاميّة .
هذه الفرقة تقيم التمثيل على أقسام مختلفة ، فتارة في مجالس خصوصيّة وأمكنة معيّنة ، وحيث أنّ الفرق الاُخرى قلّما تشترك معهم في المجالس ، اخترعوا تمثيلاً خاصّاً وصاروا يدورون به في الازقّة والطرقات وبين جميع الفرق ، فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد ، عين الأثر الذي يحصل من التمثيل ، ولَم يزل هذا العمل يزداد إليه توجّه الأنظار من الخاصّ والعام حتّى قلّد الشيعة فيه بعض الفِرق الإسلاميّة والهنود واشتركوا معهم في ذلك ، وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة ، كما أنّ سائر فِرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد .
ويغلب على الظن أنّ اُصول التمثيل بين الشيعة قد تداول في زمن الصفويّة الذين هم أوّل من نال السّلطنة بقوّة المذهب ، وأجاز العلماء والرؤساء الروحانيّون هذه الاُصول .
ومن جملة الاُمور التي أوجبت رقي هذه الفرقة وشهرتهم في كلّ مكان هو تعرّفهم، بمعنى أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفِرق من حيث الجاه والقوّة والشوكة والاعتبار بواسطة المجالس والمآتم والتشبيه واللطم والدوران وحمل الرايات والألوية في عزاء الحسين .
إنّ من المعلوم أنّ كل جمعيّة وجماعة تجلب إليها الأنظار والخواطر بدرجة ما ، مثلاً لو كان في بلد عشرة آلاف متفرقين ، وفي محل ألف نفس مجتمعة ، كانت شوكة الألف المجتمعين وأبّهتهم في أنظار الخاصّة والعامّة أكثر من العشرة آلاف المتفرّقين، مضافاً إلى أنّهم لَو اجتمع ألف نفس انضمّ إليهم من غيرهم مثل عددهم ، إمّا للتفرّج ، أو لأجل صداقة ورفاقة ، أو لأغراض اُخرى ، وبهذا الانضمام تزيد شوكة الألف وقوّتهم في الأنظار وتتضاعف .
(2) كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب ، وإليك ماذكره ( المسيو ماربين ) في كتابه ( السّياسة الإسلاميّة ) ـ بعين لفظ المعرِّب ـ قال من جملة كلام طويل : لا يشكّ صاحب الوجدان إذا دقّق النّظر في أوضاع ذلك العصر ، وكيفيّة نجاح بني اُميّة في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات النّاس وتزلزل المسلمين ، أنّ الحسين قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الإسلام ، وإنْ لم تقع تلك الواقعة ولَم تظهر تلك الحسيّات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين ، لَم يكن الإسلام على ماهو عليه الآن قطعاً ، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه ، حيث كان يومئذ حديث العهد .
عزم الحسين إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضدّ بني اُميّة من يوم توفّي والده ، فلمّا قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة ، وكان يظهر مقصده العالي ويبثّ روح الثورة في المراكز المهمّة الإسلاميّة كمكّة والعراق وأينما حلّ ، فازداد به نفرة قلوب المسلمين التي هي مُقدّمة الثورة على بني اُميّة ، ولَم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين ، وكان يعلم أنّ الثورة إذا أعلنت في جهه والحسين قائدها مع تنفّر المسلمين عموماً من حكومة بني اُميّة وميل القلوب وتوجّه الأنظار إلى الحسين ، عمّت جميع البلاد ، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم ، فعزم يزيد قبل كلّ شيء من يوم بُويع على قتل الحسين .
ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسيٍّ صدر من بني اُميّة ، الذي جعلهم نسياً منسيّاً ، ولَم يبقَ منهم أثر ولا خبر .
وأعظم الأدلّة على أنّ الحسين أقدم على قتل نفسه ، ولَم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة ، هو : أنّه مضافاً إلى ما كان عليه من العلم والسّياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني اُميّة ، كان يعلم أنّه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد لا يمكنه المقاومة والغلبة ، وكان يقول من يوم توفّي والده إنّه يُقتل ، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنّه يمضي إلى القتل ، وأظهر ذلك لأصحابه والذين اتّبعوه من باب إتمام الحجّة ، حتّى يتفرّق الذين التفّوا حوله طمعاً بالدُّنيا ، وطالما كان يقول : (( خُيِّر لي مَصرَعٌ أنا مُلاقيهِ )) .
ولَو لَم يكن قصده ذلك ولَم يكن عالماً عامداً ، لَجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده ، لا أنْ يفرّق الذين كانوا معه .
ولكن لمّا لَم يكن له قصد إلاّ القتل ، مُقدّمة لذلك المقصد العالي و إعلان الثورة المقدّسة ضد يزيد ، رأى أنّ خير الوسائل إلى ذلك الوحدة والمظلوميّة ، فإنّ أثر هكذا مصائب أشدّ و أكثر في القلوب .
من الظاهر أنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبيّة في قلوب المسلمين في ذلك الزمان ، لَو كان يطلب قوّةً واستعداداً لأمكنه أنْ يخرج إلى حرب يزيد جيشاً جراراً، ولكنّه لَو وضع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السّلطنة والإمارة ، ولَم يفز بالمظلوميّة التي أنتجت تلك الثورة العظيمة ، هذا هو الذي سبّب أن لا يبقي معه أحداً إلاّ الذين لا يمكن انفكاكهم عنه ، كأولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وجماعة من خواصّ أصحابه ، حتّى أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته ، ولكنّهم أبَوا عليه ذلك ، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة ، وقتلهم معه ممّا يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة .
نعم ، إن الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني اُميّة ، وإظهار عداوتهم لبني هاشم ، وسلك في ذلك كلّ طريق ؛ لِما كان يعلم من عداوة بني اُميّة له ولبني هاشم ، ويعرف أنّهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ، وذلك يؤيّد مقصده ، ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين ، سيّما العرب ، كما وقع ذلك حملهم معه وجاء بهم من المدينة .
نعم ، إنّ ظلم بني اُميّة وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمّد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه ، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني اُميّة في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين ، سيّما ذراري نبيّهم ؛ لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السّفر: (( إنّي أمضي إلى القتل )) .
ولمّا كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية ، لَم يألوا جهدهم في منعه ، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم : (( شاءَ اللهُ ذلكَ ، وجدّي أمَرني بِهِ )) . فقالوا : إنْ كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النّسوة والأطفال ؟ فقال : (( إنّ اللهَ شاءَ انْ يراهنّ سَبايا )) . ولمّا كان بينهم رئيساً روحانيّاً لم يكن لهم بدّ عن السّكوت .
وممّا يدلّ على أنّه لَم يكن له غرض إلاّ ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ، ولَم يتحمّل تلك المصائب لسلطنة وإمارة ، ولَم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية ، كما يصوّره بعض المؤرّخين من أنّه قال لبعض ذوي النّباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية : (( إنّ بَعدَ قتلي وظهورَ تلكَ المصائِب المُحزِنة يبعثُ اللهُ رجالاً ـ يعرفون الحقَّ مِن الباطلِ ـ يزورون قبورَنا ، ويبكونَ على مصابِنا ، ويأخذون بثأرِنا مِن أعدائِنا ، واُولئكَ جماعة ينشرون دينَ اللهِ وشريعةَ جدّي ، وأنا وجدّي نُحِبّهم ، وهم يُحشرونَ مَعنا يومَ القيامةِ )) .
ولَو تأمّل المتأمّل في كلام الحسين (ع) وحركاته ، يرى أنّه لَم يترك طريقاً من السّياسة إلاّ سلكه في إظهار شنائع بني اُميّة وعداوتهم القلبيّة لبني هاشم ومظلوميّة نفسه ، وهذا ممّا يدلّ على حسن سياسته وقوّة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره ، حتّى أنّه في آخر ساعات حياته عمل عملاً حيّر عقول الفلاسفة ، ولَم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات ، وهو قصّة الرضيع ، لمّا كان يعلم أنّ بني اُميّة لا يرحمون له صغيراً ، رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة على يده أمام القوم ، وطلب منهم أن يأتوه شربةً من الماء ، فلَم يجيبوه إلاّ بالسّهم .
ويغلب على الظنّ أنّ غرض الحسين (ع) من هذا العمل تفهيم العالم بشدّة عداوة بني اُميّة لبني هاشم ، وأنّها إلى أي درجة بلغت ، ولا يظنّ أحد أنّ يزيد كان مجبوراً على تلك الإقدامات الفجيعة لأجل الدفاع عن نفسه ؛ لأنّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفيّة ليس هو إلاّ توحّش وعداوة سبعيّة منافية لقواعد كلّ دِين و شريعة و يمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني اُميّة ورفع السّتار عن قبائح أعمالهم ونيّاتهم الفاسدة بين العالم ، سيّما المسلمين، و أنّهم يخالفون الإسلام في حركاتهم ، بل يسعَون بعصبيّة جاهليّه إلى اضمحلال آل محمّد وجعلهم أيدي سبا .
ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين ، مضافاً إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشكّ فيها اثنان ، لَّم يرتكب أمراً يوجب مجبوريّة بني اُميّة للدفاع ، حتّى أنّه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر ، لَم يسع في تسخير البلاد الإسلاميّة وضمّها إليه ، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد ، إلى ان حاصروه في واد غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائيّة ، أو تظهر منه ثورة ضدّ بني اُميّة .
لَم يقل الحسين يوماً سأكون ملكاً أو سلطاناً وأصبح صاحب سلطة ، نعم كان يبثّ روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني اُميّة واضمحلال الدِّين إن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميّته وهو مسرور .
ولمّا حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجّة بأنّهم لَو تركوه لرحل بعياله وأطفاله ، وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الإظهار الدال على سلامة نفس الحسين (ع) في قلوب المسلمين غاية التأثير .
قُتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات ، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء ، كما وقع مكرراً في بني إسرائيل ، وقصّة يحيى من أعظم الحوادث التأريخيّة ، ومعاملة اليهود مع المسيح لَم يرَ نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع .
(3) بحار الأنوار 44 / 331 .
(4) الملهوف / 99 ـ 100 ، وتكملة الحديث : (( وإنّه لا أعطي الدنيّةَ مِن نَفسي أبداً ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية مالقيت ذرّيتها من اُمّته ، ولا يدخل الجنّة أحدٌ آذاها في ذرّيتها )) .
(5) أمالي الصدوق / 150 المجلس الثلاثون . وراجع البحار 44 / 313 .
(6) الملهوف / 129 .
(7) الملهوف / 126 ـ 127 .
(8) الملهوف / 126 .
(9) الملهوف / 128 .
(10) الملهوف / 101 .
(11) تاريخ الطبري 5 / 388 ، الكامل في التاريخ 4 / 40 ـ 41 .
(12) تاريخ الطبري 5 / 385 ، الكامل في التاريخ 4 / 38 .
(13) الكامل في التاريخ 5 / 39 ، وراجع تاريخ الطبري 5 / 394 .
(14) تاريخ الطبري 5 / 407 ـ 408 .
(15) سورة الأحزاب / 23 .
(16) تاريخ الطبري 5 / 405 .
(17) هذه الأبيات من قصيدة للشريف الفاضل السيّد جعفر الحلي ، يرثي بها جدّه (عليه السّلام) . ( المؤلّف ) .
(18) الملهوف: 127 ـ 128.
(19) تاريخ الطبري 5 / 383، الكامل في التاريخ 4 / 37.
(20) تاريخ الطبري 5 / 383 ـ 384 ، الكامل في التاريخ 4 / 38 ـ 39 .
(21) تاريخ الطبري 5 / 382، الكامل في التاريخ 4 / 37.
(22) تاريخ الطبري 5 / 388، الكامل في التاريخ 4 / 40.
(23) تاريخ الطبري 5 / 395.
(24) تاريخ الطبري 5 / 399.
(25) تاريخ الطبري 5 / 386.
(26) تاريخ الطبري 5 / 397.
(27) تاريخ الطبري 5 / 398 ـ 399.
(28) تاريخ الطبري 5 / 406 ، وتكملة الحديث : (( إنّه قد كانَ بيننا وبين هؤلاءِ القومِ قولٌ لسنا نقدر معهُ على الانصراف ، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الاُمور في عاقبه )) .
(29) تاريخ الطبري 5 / 404
(30) راجع: بحار الأنوار 44 / 223 ـ 249 الباب 30.
(31) الكامل في التاريخ 4 / 242.