أضحت مسألة الانتظار مسألة مهمة لدى المدارس الإسلامية جميعاً ، فالمدارس الإسلامية ـ عدا الإمامية ـ تنظر إلى مسألة الانتظار على أنها حالة سلبية يعيشها الفرد ، فهي حالة سكون وانطواء على النفس، بل هي حالة تجميد الطاقات بحجة انتظار الموعود، وهذه النظرة وليدة تراكمات ظروف معرفية خاصة، إضافة إلى حالة عدم الوعي والقصور في فلسفة الغيبة المهدوية المباركة.
فالظروف السياسية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلفت لديها حالة عكوف على رؤية مهدوية خاصة تبتعد عن واقع الأحاديث التي رواها الفريقان ، فالأحاديث تؤكد على وجوب ظهور المهدي، ومن ثم فإنّ الشواهد تؤكد كذلك على إمكانية حياته وبقائه لمدة طويلة ، والإقرار بوجود المسيح عليه السلام الذي سيكون ظهيراً للمهدي في نهضته وادخاره لهذه المهمة الإلهية ، والتسليم للخضر بحياته وبقائه لهذه السنين المتطاولة يوجب قبول أطروحة المهدي وكونه حياً يعيش بين أوساط الأمة حتى يأذن الله له بالظهور.
كل هذه المسائل تطرح على الذهنية الإسلامية العامة وينتظر منها الإجابة عن سبب إمكانية قبول بقاء عيسى حياً والتردد في إمكانية بقاء الإمام المهدي حياً كذلك ، أليس مهمة السيدين واحدة وهي إقامة الدولة المهدوية الكبرى ؟ أليس التسليم بأن بقاء عيسى عليه السلام مذخوراً لمهمة الإمام المهدي عليه السلام؟ ما الفرق بين الحالتين! خصوصاً أنهما يشتركان في هدف واحد؟
هذه التساؤلات لها إجاباتها ارتكازاً في غضون العقلية السنّية وإمكانية قبولها كأمر منطقي تفرضه براهينها ودلائلها، فلماذا يتخلف المنطق السني عن قبول مثل هذه المسلّمات على المستوى العملي إذن؟
وللإجابة على ذلك فإنّ الإحاطة بالسير التأريخي وانسيابية المعلومة التأريخية في خضم هذه المباحث يعطي الإجابة الجديدة في هذا المجال.
وبما أن البحث مبني على الاختصار فلا يمكننا بعد ذلك الغور في أعماق المعطيات التأريخية التي لابد أن تشارك في تكوين فكرة أولية ـ على الأقل ـ في هذا المجال.
ومع هذا فسوف لا نغفل عن التعرض إلى شيء مقتضب يساهم في بحثنا هذا.
من المعلوم أن الظروف التأريخية التي زامنت فترة الغيبة أضفت واقعاً آخر على فلسفة الغيبة، إلاّ أنه واقع يتعلق بمصلحة الأنظمة السياسية وليس في ذات الغيبة وحقيقتها، لأن المشتركات يبن الفريقين يقرها الحاكم السياسي وغيره ويعترف بها كأمر واقع لا يمكن رفضه، إلا أنه يسعى إلى إلغاء القضية المهدوية، أو على الأقل التقليل من شأنها ، لذا سعى جاهداً في إخفاء معالم هذه المسألة، وتعامل معها على أساس أمني حذر ، وفكري يضمن مصالحه كذلك.
من هنا حاولت الأنظمة الأموية والعباسية التعامل مع الدعاوى المهدوية الكاذبة بكل جدية ، فالنظام الأموي سعى إلى إيجاد علاقة ما مع عمر بن عبد العزيز ومع الأحاديث المهدوية وادعى أن عمر بن عبد العزيز هو المهدي الذي ملأها عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وركزت جهودها على تصوير عدالته وتقواه وزهده، وبموته فقد مات المهدي وانتهى دوره بعد ذلك، وهكذا أثبتت مدوناتهم التأريخية قصص ودعاوى عدالة عمر بن عبد العزيز، إلا أنها لا تلقى اهتماما على مستوى الأمة التي قرأت أحاديث المهدي بكل وعي وتيقنت من حتمية ظهوره وإقامة دولته الإلهية ليملأها عدلاً وقسطاً .
أما النظام العباسي فقد أضفى على حركة محمد النفس الزكية دعوى المهدوية وادعى أن محمد النفس الزكية هو المهدي المنتظر، وادعى ذلك إبان حركته، وحاول تحريف أحاديث المهدي وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أن المهدي اسمه اسمي، وبدل: كنيته كنيتي، ذيّل الحديث هكذا: واسم أبيه اسم أبي، أي صار الحديث المروي بين الفريقين المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي.
في حين عند متابعة حركة النفس الزكية لم تجد دليلاً واضحاً يساعد على هذه الدعوى، وأن محمداً لم يدع المهدوية كما صورته وسائل النظام العباسي وأثبته في ذهنية بعضهم.
وبهذا تعامل النظام العباسي مع حركة المهدي على أنها حركة محمد النفس الزكية الذي قتل في واقعة دير الجماجم، وبهذا حاولت إنهاء مسألة المهدي وإغلاق ملف المهدوية من أذهان الأمة، وتعاملت معها على أنها مسألة تأريخية انتهت في حينها . إلا أن ذلك لم يقنع الأمة وهي أمام هذا السيل من الأحاديث الصحيحة في مسألة الظهور، نعم أمكن إقناع العقلية السلفية بهذه المحاولات غير الجادة على المستوى العلمي ومستوى الواقع العملي.
بل حتى أن النظام أخفى عدم قناعته بهذه المحاولات الفاشلة وأظهر قلقله حيال المسألة المهدوية، بعدما تعامل مع الإمام الحسن العسكري عليه السلام على أنه المولود منه المهدي فعلاً ، لذا فبعد شهادته عليه السلام ألقي القبض على نسائه للبحث عن الوليد الموعود أو الحمل الجديد، اعترافاً منهم بحتمية ظهور المهدي عليه السلام.
وبذلك فإنّ ما أقدم عليه النظام الأموي والحكم العباسي كذلك هو محاولة إلغاء المسألة المهدوية من أذهان العامة وكونها قضية تأريخية انتهت بانتهاء ظروفها.
لذا لم تعد لمسألة الانتظار أهمية على مستوى المذاهب الإسلامية الأخرى، ولم تتعامل معها بجدية، كونها قضية تأريخية.
وبذلك فإنّ مسألة الانتظار صارت من "مختصات" الفكر الإمامي الذي تعامل مع الإمام المهدي عليه السلام على أساس الروايات الصحاح التي أقرها الفريقان، وصار الانتظار واقعاً عملياً يتعامل معه أتباع أهل البيت عليهم السلام.
ما هو الانتظار
الانتظار بمفهومه الذي تؤكده الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام هو حالة ترقب يصاحبه عمل يمارسه المنتظر لاستقبال اليوم الموعود ، وهذا العمل يجمعه مصطلح واحد ليكون من أظهر مصاديقه وهو التقوى ، فالانتظار إذن هو عمل المنتظر بتقوى عملية يحققها واقعه المعاش.
من هنا أمكننا أن نجد مفاهيم متعددة تحقق هذه التقوى على مستواها العملي، وهذا يعني أن الانتظار هو آلية لبناء الفرد وتكامله، وكذا بناء المجتمع المتكامل حينئذٍ.
وبذلك سيكون الانتظار منهجية للبناء الحضاري المنشود الذي لم تحققه أية فلسفة وضعية أو عقيدة دينية خارجة عن إطار ولاء أهل البيت عليهم السلام والانتساب إليهم.
منهجية البناء الحضاري لجماعة الانتظار
إذا كانت الحضارة هي مجموع ثقافات الأفراد للمجتمع الواحد ومن ثم هي حصيلة ثقافات ذلك المجتمع، وإذا كانت الثقافة بمعناها الأعم هي السلوك "الراقي" الذي يتحقق بطاعته لله تعالى وذلك من خلال انتهاج التعاليم الشرعية المأمور بها الفرد، وهذه بمجموعها تسمى التقوى التي من خلالها تتحقق سمة الالتزام الشرعي لذلك الفرد، ومعلوم أن هذه التقوى التي حث عليها الأئمة الأطهار عليهم السلام إحدى أهم آليات الانتظار.
ففي الكافي بسنده عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر يا بن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي أياكم؟ قال فقال: نعم، قال: فقلت: فأني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين، قال : هات حاجتك، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله تعالى به أنت وأهل بيتك لأدين الله تعالى به، قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله تعالى به، شهادة أن لا اله إلّا الله، وأنّ محمداً رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من أعدائنا، والتسليم لأمرنا ، وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع.(1)
على أن أئمة أهل البيت عليهم السلام حددوا تكليف أتباعهم وما يجب أن يعملوه إبان غيبة إمامهم، وما هي حدود مسؤولية كل واحدٍ منهم اتجاه نفسه واتجاه الآخرين، أي تحديد التكافل الاجتماعي الذي من خلاله يتاح للمكلف أن يتكامل وللمجتمع الإسلامي أن يرقى إلى درجة الكمال والبناء.
روى المجلسي بسندٍ صحيح عن جابر قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ونحن جماعة بعدما قضينا نسكنا فودعناه وقلنا له: أوصنا يا ابن رسول الله، فقال: ليعين قلوبكم ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه ، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فإن وجدتموه في القرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ، فإذا كنتم كما أوصيناكم ولم تعدوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً ، ومن أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين ، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً.(2)
والرواية بذلك تحدد المعالم العامة للسلوكية الشيعية إبان الغيبة ووظيفة المكلف عند الانتظار، فقد حدد الإمام عليه السلام سلوكية المكلف على المستوى العملي وعلى المستوى العلمي ـ الفكري كذلك0
الاستقرار النفسي لجماعة الانتظار:
لعل أهم ما يميز أتباع أهل البيت عليهم السلام المتطلعون لانتظار اليوم الموعود هو حالة الاستقرار النفسي الذي يميزهم عن غيرهم.
وهذا الاستقرار ناشئ من حالة الاطمئنان المنبعثة من التطلع إلى مستقبل مشرق ترتسم صورته في ذهنية المنتظِر ـ بالكسرـ من خلال فلسفة الانتظار التي يدين بها إلى الله تعالى ، فحالات الإحباط الناشئة من ظروف سياسية تحيط بأتباع أهل البيت عليهم السلام لم تعد ذات أثر على مستقبل وجودهم، بل وحتى على ما يتطلع إليه هؤلاء الأتباع من بناء هيكلتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك ، وهذا راجع إلى ما تحمله فلسفة الانتظار من آمال تعقدها النفسية الشيعية على قيام دولة المنتظَر ـ بالفتح ـ فعلى المستوى الفردي يشعر الفرد وهو يعيش حالة الانتظار بالأمل الكبير في تحقق أهدافه تحت ظل الدولة المهدوية المباركة.
فالإحباطات النفسية لأسباب متعددة يمكن للفرد أن يتفاداها بما يعقده من آمال على تلك الدولة القادمة التي تبسط العدل والسلام في ربوع هذه الأرض المقهورة، فإذا لم يتحقق هدفه عاجلاً فإنّ مستقبله في الآجل سينجزه ذلك الإمام الموعود ، وبذلك فإنّ هذا الفرد سيكون في حالة أمل دائم وترقب متفاءل يصنع من خلاله غده السعيد ، وبذلك فإنّ الاستقرار النفسي الذي يعيشه المنتظِر هو إحدى خصوصياته، وهذا الاستقرار سيكون سبباً في الإبداع ومن ثم التكامل الذاتي.
أما على المستوى الجماعي فإنّ جماعة الانتظار تطمح إلى تحقيق برامجها في ضوء الآمال المعقودة على ترقب الدولة المهدوية ، وهذه الجماعة تستشعر معايشة قائدها معها في كل الأحوال، وتقطع أن نجاح ما تصبو إليه يكون مرهوناً بتسديد هذا القائد الإلهي ورضاه، وهو مصداق قوله تعالى: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(3) ، قال الصادق عليه السلام : والمؤمنون هم الأئمة،(4) وهذا ما يناسبه سياق الآية.
ومن غريب ما فسرته بعض المذاهب الإسلامية أن المقصود من قوله تعالى : "و المؤمنون " هم جماعة المؤمنين، وهذا من غريب ما وقع به هؤلاء دفعاً لمحذور الاعتراف بمقامات الأئمة الأطهار عليهم السلام التي يقررها القرآن الكريم وتقتضيه شؤون خلافة الله في أرضه ـ في بحث ليس هنا محل ذكره ـ، على أن الخطاب في الأمة للمؤمنين، فكيف يكون بعد ذلك قول الحكيم حكيماً حينما يكون المخاطب المكلف هو نفس الشاهد على عمله؟! وما إلى غير ذلك من خروقات الرؤية السياسية التي تتدخل في التفسير القرآني والحديث النبوي من أجل "استحصال " حالات التأييد لمواقفها المناهضة لأهل البيت عليهم السلام .
وعلى كل حال فإن نجاح جماعة الانتظار يكمن في تفاؤلها الطموح بقيام دولة الحق والعدل، وهي تسعى دائماً إلى صياغة أعمالها على أساس ذلك ، لذا فهي في حيوية دائمة غير مشلولة نتيجة الإحباطات السياسية المحيطة بجماعة الانتظار ، فضلاً عن أن هذه الجماعة تحقق نجاحها في خضم تحديات تواجهها دائماً.
وعلى هذا فأي نجاح مهما تكون درجته سيكون له معناه في ظل هذه التحديات وهو مكسب مهم وقضية خطيرة في ظل ذلك.
ومقابل هذا فإن أي تعثر في عمل هذه الجماعات سوف لن يسلمها إلى اليأس والتردد طالما هناك البديل الذي يحققه قيام الدولة المهدوية المباركة.
وعلى هذا الأساس فإن جماعة الانتظار تعيش دائماً طموحاتها الواقعية، متحدية بذلك الصعاب والإحباطات التي تواجهها في ظل ظروف تتكالب على هذه الجماعة سعياً لإنهائها وتصفيتها.
هذه الحالة من التفاؤل التي تعيشها جماعة الانتظار تبعث على الأمل في تحقيق برامجها وبناء حضارتها والسعي من أجل التكامل في كل الميادين.
من هنا علمنا دواعي العمل الدائم الحثيث لجماعة الانتظار، وأسباب نجاحها على كل الأصعدة بالرغم من كل ماعانته وتعانيه من ظروف قاهرة يصعب معها الإبداع، فضلاً عن البقاء، لولا ذلك الأمل الذي يحدو جماعة الانتظار.
وعلمنا في الوقت نفسه إمكانية تأسيس حضارة تعيش طموحاتها هذه الجماعة في ظل فلسفة الانتظار.
إلى جانب ذلك، يعيش الفرد البعيد عن حالة الانتظار حالات التوجس من الفشل وهاجس الخوف على مستقبله المجهول ، فأية قضية يواجهها هذا الفرد تودي بكل طموحاته وتشل قدراته، فهو يحاول أن يحقق مكسبه عاجلاً لغياب حوافز البديل فيما لو أخفق على صعيد عمله، فإن خسارته هذه ستكون فادحة فيما إذا هو أحس بعدم تعويضها بالبديل.
والانتظار حالة أملٍ وطيد يعيشه المنتظِر ـ بالكسرـ فإذا غابت عن الإنسان هذه الرؤية فلابد أن تحيط ذاته هواجس الخوف، وبذلك سيكون مهزوماً دائماً، غير جدير بإمكانية مواجهة الصعاب والمحن التي تعصف به في كل حين من خلال ظروف عالميةِ متقلبة وإقليمية غير مستقرة، وبذلك فلم يكن مثل هذا الفرد جديراً في بناء حضارة أو السعي لتكامل ذاته وبناء شخصيته.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصوصيات حضارة الانتظار:
على أن ما يميز جماعة الانتظار هو حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه الحالة تساعد على تمتين أواصر العلاقة بين أعضاء هذه الجماعة، إذ هي تشير إلى حالة الشعور بالمسؤولية دائماً اتجاه ذات الفرد ومن ثم اتجاه مجتمعه.
فملاحقة حالات الخرق للمجتمع الملتزم تتكفل إصلاحه قابلية أفراد المجتمع على متابعة المنكر المرتكب من قبل الأفراد أو الجماعات، لتقف بوجه الخطر الناشئ عن هذا الخرق المرتكب ، والمحافظة على حدود الشريعة بالتذكير الدائم والرقابة المستمرة لعدم تجاوز حيثيات الالتزام الديني.
ومن جهته يسعى هذا المجتمع بكل شرائحه وفصائله إلى تميتن العلاقة بينه وبين إقامة الواجبات الدينية، وكذلك المستحبات التي يرغب الشارع في مزاولتها من قبل المكلفين.
فإذا تمت هذه الحالات واستطاع المجتمع من المداومة عليها ورعاية حقوقها، أمكن لهذا المجتمع من بناء شخصيته الحضارية المتميزة بالأمن والسلام، وذلك بتجنب المنكر المنهي عنه من قبل أفراده، إضافة للعدل والمعروف بكل مصاديقه لعناية أفراد المجتمع بإتيانه والأمر به.
وهكذا سوف تكون لحضارة جماعة الانتظار حضورها الدائم وشخصيتها المتميزة.
فقد حث أئمة أهل البيت عليهم السلام شيعتهم على التزام هذه الفريضة وكونها إحدى ميزاتهم التي تركها غيرهم ولم يتحلوا بها، ثم بيّنوا ما لهذه الفريضة من آثار وضعية فضلاً عن إسقاط التكليف بالعمل بها وعدم العقوبة عند إتيانها.
عن أبي جعفر عليه السلام قال: يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهم قوم مراؤون... إلى أن قال: ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عز وجل عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار ، والصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض ، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر ... الحديث.(5)
والحديث يبين أسس البناء الحضاري عند مراعاة الفريضة، فبها تقام الفرائض أي يشيّد مجتمع إسلامي تكون معالمه أحكام الشريعة، ويطبق من خلال ذلك النظام الإسلامي الذي يطمح إليه الجميع.
كما أنّ قوله عليه السلام: " وتأمن المذاهب" فإن استتباب الأمن والسلام مرهون بتطبيق هذه الفريضة.
وقوله عليه السلام : وتحل المكاسب، فإنّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم تشييد البنية الاقتصادية وهيكلة النظام المعاشي، وذلك من خلال استتباب الأمن وإمكانية تنشيط دور القطاعات العاملة والرساميل التي يمتلكها أصحابها.
وقوله عليه السلام :" وترد المظالم " فإن الحقوق المدنية تتحقق في ظل نظام أمني مستقر، وبغياب ذلك لا يمكن القيام بأية مهمة من شأنها تحقيق ضمانة النظام الإنساني.
وقوله عليه السلام : و" تعمر الأرض " فإن الإصلاح الاقتصادي يمكن القيام به عندما يتعاهد ذلك نظام يحفظ الحقوق ويشجّع على استثمارات اقتصادية تتكفل بنظام اقتصادي رشيد، وإعمار الأرض لا يقتصر على استصلاحها زراعياً أو معدنياً ، فلعل ذلك إشارة إلى إصلاح الأرض وما عليها من نظام سكاني يلازم صلاحية الأرض لاحتواء التجمعات البشرية حينئذ ٍ.
وقوله عليه السلام : و" ينتصف من الأعداء" فإن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يستتب الأمن بسببهما يمكن من خلال ذلك إيجاد قوة دفاعية ترد كيد الأعداء ، أو هجومية تعين جماعة الانتظار على حفظ حقوقهم والحصول على مكاسبهم المشروعة اتجاه القوى الأخرى.
وقوله عليه السلام: " ويستقيم الأمر" فهو محصلة هذه الجهات التي يمكن تحققها في ظل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
كما أن اللهجة التي يستخدمها الأئمة عليهم السلام في مراعاة هذه الفريضة والوجوب بإتيانها لهجة تتعدى أسلوب الحث والترغيب إلى أسلوب الإنذار والتهديد، وحلول اللعنة التي يحذّر الإمام عليه السلام أتباعه منها بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أسلوب يشدده الأئمة عليهم السلام في استتباب هذه الفريضة بين جماعة الانتظار.
فعن محمد بن مسلم قال: كتب أبو عبد الله عليه السلام إلى الشيعة: ليعطفن ذوو السن منكم والنهى على ذوي الجهل وطلاب الرئاسة، أو لتصيبنّكم لعنتي أجمعين.(6)
على أن من مهام التغيير هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك سبب في بناء حضاري وتكامل ذاتي.
فعن الحسن عن أبيه عن جده قال: كان يقال: لايحل لعين مؤمنة ترى الله يعصخصوصية العزة والكرامة ورفض الذل والهوان:
وإذا كانت جماعة الانتظار ترتبط بقيادتها المعصومة التي ستحقق لها آمالها ببسط العدل والسلام بقيام دولتها الموعودة، فإن لهذا الشعور الدائم آثاره في سلوكية هذه الجماعة، فهي تستشعر الأمل بتحقيق طموحاتها، وعندها فلا داعي للركون إلى الغير أو الشعور بحاجة الغير فهي في غنىً دائم عن الأخرين، لأنها ترتبط بقيادة تسحق بظهورها كل ظلم وطغيان.
وهذه الدواعي لدى جماعة الانتظار تدفعها إلى الإحساس بالنجاح والظفر على مدى مستقبل أطروحة الانتظار التي تحقق معها قيام دولة الحق، وهذه الدواعي تعزز لدى الأفراد منهم العزة والكرامة ورفض الذل والهوان بالركون إلى الأخرين. إذن فالانتظار يدعو إلى الأمل الدائم وتحقيق النصر والنجاح على كل المستويات. وهذا هو سبب استقلالية جماعة الانتظار وعدم لجوئها إلى غيرها، حيث تقررت شخصيتها من خلال ممارسة أسلوب الاعتماد على النفس من دون الخضوع إلى أطروحات الأخرين علمياً أو عملياً.
___________________________
[1] منتخب الأثر: 498.
[2] بحار الأنوار: 52/ 122.
[3] التوبة (9) : 105.
[4] تفسير العياشي: 2/ 109.
[5] إكمال الدين وإتمام النعمة:2/ 584 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.
[6] إكمال الدين وإتمام النعمة:2/ 584 باب ما روي في ثواب المنتظر للفرج.