خطط الإمام الصادق (عليه السّلام) لإنقاذ الشيعة
(النهي عن المغالاة وتأليه العباد)
اتخذ الإمام الصادق (عليه السّلام) خطوات هامة ليحول دون انحراف الشيعة وسقوطها، وتمثلت الخطوة الأولى في منع تلامذته وأتباعه من المغالاة في حقّ الأئمة. وفكرة التأليه أو المغالاة في حقّ الإمام تسرّبت إلى الشيعة من وقت سابق على عهد الصادق (عليه السّلام)، وكان البعض يرى بأنّ في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر (عليهم السلام) وأئمة الشيعة عنصراً ملكوتياً يميزهم عن سائر البشر تمييزاً جوهرياً، وبعبارة أخرى، كانوا يرون في الأئمة عنصرين أو وجودين، الوجود البشري والوجود الإلهي، وقالوا بأنّ النبيّ والأئمة يختلفون عن سائر البشر. وكان جعفر الصادق (عليه السّلام) يدحض هذه الفكرة ويعارضها منذ ما بدأ بالإفادة والتدريس، وكفر القائلين بها مؤكداً: (إنّ جدي وآبائي خلقوا كغيرهم من الناس، وأنّ القرآن يقول عن رسوله): (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). وكان الصادق (عليه السّلام) يرى بأنّ هذه العقيدة خطيرة، وأنّها تعارض فكرة التوحيد في الإسلام، وأنّها ستقضي في آخر الأمر إلى انقسام الشيعة على نفسها وضعفها وزوالها. ولعله كان يعرف ما أصاب المسيحية من شقاق وفتن بسبب فكرة تأليه المسيح، وأنّها انقسمت على نفسها وأصبحت عشرين مذهباً أو كنيسة، وكانت الأرثوذكسية أوّل مذهب مسيحي أسس لنفسه كنيسة في أنطاكية، وانقسمت الأرثوذكسية فيما بعد على نفسها إلى مذاهب وكنائس أخرى، فتأسست كنيسة في أورشليم (القدس) وأخرى في الإسكندرية، وتزعمت كلّ منهما مذاهب وكنائس أخرى. كانت أنطاكية في القرن الثاني الميلادي عاصمة المسيحية تتبعها إحدى عشرة مملكة من مصر إلى إيران، وكان مائة وخمسون أسقفاً ينتمون إلى أنطاكية يبشرون بالمسيحية في المنطقة، وكانت ظاهرة الخلاف قد دبت بين الأساقفة بسبب اختلاف القول والرأي في مدى مرتبة الإلوهية عند السيد المسيح (عليه السّلام). كان الصادق (عليه السّلام) علامة عصره وخبير دهره، وكان على إلمام تام بالإضافة إلى العلوم التي تداولت في مدرسته، بتاريخ المسيحية ومبادئها ومواطن الخلاف بين أتباعها، واليوم، وفي عصرنا هذا، لا يسع أحداً بمفرده الوقوف على تاريخ جميع المذاهب المسيحية، فهي كعلم الطب الذي توسع وتشعب حتى لم يعد في وسع طبيب واحد أن يلمّ في عصره بجميع شعب الطبّ ويتخصص فيها. ولكن يبدو في عصر الصادق (عليه السّلام) أنّ الاضطلاع بمعرفة تاريخ المسيحية كان أيسر، لأنّها لم تكن قد تفرّقت وتشعبت بصورتها الحالية، وليس ثمة ريب في أنّ الصادق (عليه السّلام) كان من القلائل، إن لم يكن وحيد عصره، الذي ألمّ إلماماً تاماً بالمسيحية، تاريخها ومذاهبها، ومن هنا اجتهد في منع الشيعة من التورّط فيما تورّطت فيه المسيحية من حيث مغالاتها في خصوص المسيح حتى لا تقع فريسة لانقسامات خطيرة تنتهي بالقضاء عليها في آخر الأمر. فوقف بجدّ وحزم، وتصدّى لمن كان يغالي في حقّ الإمام أو الرسول، ونفى نفياً باتاً أن يكون في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام عنصر إلهي، وكان يقول أنّ الرسول والأئمة من ولد بشر مثل غيرهم، وإنّما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتميز عن الخلق بأنّ الله اختاره ليكون حاملاً للوحي ومبلغاً الرسالة، والأئمة أوصياؤه، وهم عباد لله مخلصون، ومن قال بوجود عنصر إلهي في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمة واعتقد بذلك، فكأنّه قد أشرك مع الله إلهاً آخر، فهو مشرك ونجس، فإنّ كان كلامه هذا هو اعتقاد وإيمان بذلك، وجب نهيه وردعه حتى لا ينحرف أحد أو يقع خلاف بين المسلمين.
النهي عن المجابهة والخلاف والعزلة عن الناس:
هناك أمراً آخر أيضاً دفع بالإمام الصادق (عليه السّلام) إلى اتخاذ موقف واضح حازم للحيلولة دون سقوط الشيعة وزوالها، ألا وهو موضوع العزلة عن المجتمع أو حياة الرهبانية، وقد ظهر لدى المسلمين منذ القرن الثاني الهجري ميل إلى الاعتكاف عن الدنيا والزهد في ملذاتها، وظهرت فرق كثيرة عند المسلمين يدعو بعضها إلى الرهبانية، وترك الدنيا، وكانوا يختلفون حول ما الذي يتعين على العارف أو الزاهد أن يفعله، فمنهم من قال أنّ الصلاة هي أفضل عبادة للمعتكف، ومنهم من قال بالصوم لما فيه من حرمان النفس عما تشتهيه، ومنهم من رأى للمعتكف أو المتعبد أن يفكر في الله، ومنهم من قال (الذكر) أي أن يذكر الله. ولم تهتمّ الفرق الصوفية التي حبذت الاعتكاف والزهد بأمور المعيشة الخاصة بأتباعها. والشيعة بدورها اندفعت في هذا الاتجاه، أي الزهد أو الاعتكاف، وكان من أهمّ الأسباب في هذا عداء الحكام للأئمة وأتباعهم وشيعتهم وملاحقتهم لهم. وكان موقف الصادق (عليه السّلام) من هذه الظاهرة واضحاً وحازماً، إذ نهى عن العزلة وترك الحياة الاجتماعية نهياً باتاً، كما نهى كذلك عن تأليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمة (عليه السّلام) أو الشطط في تقديرهم. وكان بنو أمية ومن بعدهم العباسيون يتطيرون من حركات الشيعة وتطلعاتهم، فجنحت الدولة إلى تحبيذ انزوائهم واعتكافهم اعتقاداً منها بأنّ انطوائهم على ذواتهم يمنع الناس من الاتصال بهم، فيخفت صوتهم وتنسى دعوتهم. وكان الصادق (عليه السّلام) يرى هذه المخاطر جميعاً، بل لقد رأى بنفسه كيف عاداه الأمويون هم والعباسيون من بعدهم الذين ساروا على نفس النهج، بل أشده وكان يردد: (لا رهبانية في الإسلام). وهو نفسه كان يعمل في مزرعة له بالمدينة وكان جاهداً في منع هذا التيار تفادياً لانهيار الشيعة وزوالها. ومن العادات المسيحية الأخرى التي انتقلت إلى المسلمين الرهبانية والنسك، أي اعتزال الدنيا بعيداً عن الجماعة والأسرة، وذهب بعض المسلمين إلى حدّ الامتناع عن الزواج وعن الملذات المشروعة اقتداءً بالرهبان، قائلين إنّ هذا ادعى إلى التزكية وطاعة الله. وكان أوّل اتصال تمّ بين المسلمين والمسيحيين هو اتصالهم بأتباع المذهب الأرثوذكسي، لا الكاثوليكي ولا سواه. فلما اتصلوا بالمذاهب الأخرى، ولا سيما الكثلكة، وجدوا أنّ القساوسة من كاثوليك يأبون الزواج، سواء عملوا في الكنيسة أو اختاروا الرهبنة والإقامة في الأديرة والصوامع، في حين أنّ قساوسة الأرثوذكس في أنطاكية كانوا يجيزون الزواج. وظهرت هذه العادة عند بعض الزهاد والمنشقين من المسلمين، فنهاهم الصادق (عليه السّلام) عنها، وأمر أتباعه وتلامذته بإتباع السنة الإسلامية في الزواج، قائلاً :إنّ الامتناع عن الزواج ينافي سنة الله التي خلق الناس عليها، كما أنّه يضرّ بالمسلم معنوياً وجسدياً، ثمّ إنّ العزلة والزهد في حياة الجماعة تنتهي بإقلال عدد المسلمين، في حين أنّ الكفار يتزايد عددهم يوماً بعد يوم بسبب تزاوجهم، فعلى المسلم أن يتزوج، وأن يستزيد من الأولاد ليكثر عدد المسلمين. و نهى الصادق (عليه السّلام) عن العزلة والزهد، فكان مصير هذه العادة الزوال بعدما شاع أمرها بين المسلمين، وإن كانت قد عاودت الظهور في القرنين الثالث والرابع الهجريين عند بعض العرفاء والصوفية، وأسماء المرموقين منهم معروفة مشهورة. وإلى القرن التاسع عشر الميلادي لم يكن أحد يعرف الحكمة الصحية الكامنة وراء نهي الإمام الصادق (عليه السّلام) عن العزلة والزهد، إذ كان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت أنّ النهي مقصود لدفع الأضرار المعنوية للعزلة، أو لأنّها تخالف الشريعة الإسلامية، أمّا الجانب الصحي لنهي الإمام فقد كان خافياً، حتى أثبت الطبّ الحديث في القرن التاسع عشر أنّ الامتناع عن الزواج يؤدّي إلى خلل شديد في الجهاز العصبي للإنسان رجلاً كان أو امرأة كما يسبب مضاعفات أخرى في الغدد الداخلية وفي وظائف الجوارح والأعضاء.