ان امرءا لا يتمتع بحقوقه، تسقط عنه الواجبات.
انها معادلة بسطة جدا، الا انها في نفس الوقت مهمة وخطيرة، وهي تضع حدا للجدال المستمر الذي يدور حول السؤال المهم، ايهما اولا، الحقوق ام الواجبات؟.
لقد ثبتت كل الشرائع السماوية والكثير من القوانين واللوائح الارضية هذه الحقيقة، فاخذ بها الغرب فتطور، ولم ياخذ بها الشرق فتاخر وتقهقر وتراجع.
وهي معادلة تتماشى وفطرة الانسان، بشرط ان لا يكابر المرء او يجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وهي تنطبق على الانسان ــ االفرد كما تنطبق على الانسان ــ المجتمع، كما انها تنطبق على الصغير وعلى الكبير، في السلطة كان ام خارجها، لماذا؟.
لان الحقوق هي حجر الزاوية في الحياة، وهي الادوات التي بها ينهض المرء ويفكر ويتطور ويتقدم ويبدع وينتج، كما انه بها يشعر بآدميته وبانتمائه الحقيقي، واذا تمتع بها آثر طاعة النظام العام ولم يتمرد، وان مثل من سحق الاخرون حقوقه كمثل السجين الذي حكم عليه بالاعدام، فانهارت قواه وعزائمه، بانتظار ساعة الموت.
والحقوق هي، بمعنى آخر، الحدود التي ترسم العلاقة بين الناس، من اجل ان لا يتجاوزها احد او يعتدي عليها آخر، فاذا حصل ذلك ارتبكت العلاقة وتحطمت وتاليا انهارت، وهذا هو الذي يحصل اليوم في بلادنا العربية والاسلامية، فالاب يتجاوز حدود علاقته بالام، والابناء يتجاوزون حدود علاقاتهم بالاباء، والحاكم يتجاوز حدود علاقاته مع الرعية، والرعية تتجاوز حدودها مع الحاكم، وصاحب العمل يتجاوز حدوده مع العامل والعكس هو الصحيح، ولذلك ارتبكت العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولم نعد نميز حدودنا من حدود غيرنا، فاختلط الحابل بالنابل كما يقول المثل المعروف.
وكل ذلك سببه اننا نجهل حقوقنا ولا نعرف اين تقف حدود حقوق غيرنا، ولذلك تداخلت الحقوق بعضها مع البعض الاخر، وما يؤسف له فان الحاكم، كونه ظالما، سكت عن الحديث عن الحقوق ليستغل جهل الناس بها فيسهل عليه امر التسلط عليهم.
اما في الغرب، الولايات المتحدة مثلا، فانك لا تدخل في دائرة ولا تتعامل مع احد قبل ان يعرفك او تطلع على حقوقك، من اجل ان تعرف ما هو المطلوب منك وماذا تنتظر من الطرف الاخر، لا فرق طبيبا كان ام محاميا ام مؤسسة حكومية ام اي شئ آخر، فانك تطلع اولا على حقوقك قبل ان تتعامل مع الطرف الاخر، وستجد عند مدخل اية مؤسسة لائحة مثبتة او منشورا في متناول يد العامة ثبتت فيها حقوق الزبون بالكامل، ولذلك لم تختلط الحقوق ولم يتجاوز احد على حق او حدود احد، واذا حصل ذلك فان من حقك كذلك ان تخاصم المعتدي كائنا من كان.
ارايتم كيف ندقق في حدود ملعب كرة القدم مثلا، فيقف مساعدان للحكم يراقبان الحدود لئلا يتجاوز عليها احد الفريقين، فيما ترى الحكم يركض يمنة ويسرة وكانه يبحث عن شئ ثمين اضاعه، ليراقب اي تجاوز قد يبدر من احد الطرفين.
وهكذا في كل لعبة، فهناك حقوق وحدود لا يجوز لاحد ان يتجاوزها والا تعرض للعقوبة بشكل او بآخر.
واذا كان هذا صحيحا، وهو صحيح والا فسدت اللعبة، فلماذا لا نفعل الشئ نفسه في حياتنا الاجتماعية؟ لماذا لا نراقب، على الاقل ذاتيا، حدود علاقاتنا بعضنا مع البعض الاخر؟ لماذا لا نعير اهتماما اذا تجاوز احدنا على حقوق الاخر، ايا كان هذا الاخر؟ لماذا لا تراقب الدولة حدود العلاقات بين الحاكم والمحكوم؟ لماذا لا نرفع صوتنا بالاعتراض اذا راينا حاكما ظالما يتجاوز حدوده فيقتل ويذبح ويسرق من اجل البقاء في السلطة متسلطا على رقاب الناس من غير اذن منهم او تفويض؟.
والمشكلة تبدا عندما يضيع الانسان حقوقه قبل ان يضيعها الاخرون، الحاكم الظالم مثلا، وهو الامر الذي يستغله الظالمون من اجل تضليله فلم يعد يميز بين ما هو حق له وبين ما هو مكرمة من (الرئيس القائد والضرورة) فمثلا عندما لا يعرف الانسان ان من حقوقه المبرمة هو حق الحياة، تراه اذا اعتقله الحاكم الظالم ثم اطلق سراحه بعفو تسميه دعايته المضللة بالمكرمة، فيعتقد الانسان بان الحاكم وهبه الحياة من جديد، في الوقت الذي كان بامكانه ان يقتله ويقضي على حياته، فالحاكم، اذن، هو صاحب الفضل وهو واهب الحياة الجديدة له، وهكذا في الكثير من الحقوق التي تتغير مفاهيمها في عقل الانسان ووعيه وادراكه.
اتذكر مرة كنت اتحدث مع والد احد الطلبة (السعوديين) المبتعثين للدراسة في الولايات المتحدة، وكان يحاول ان يمتدح آل سعود كونهم، وعلى راسهم الملك، اصحاب الفضل عليه وعلى عائلته وابنه الذي بعثوه الى هنا للدراسة، فقلت له، بانهم لم يفعلوا اكثر من انهم صرفوا بعض حقوق ابنك على دراسته هنا، فاجابني بقوله: الا انهم اصحاب الفضل الاكبر عليه لانهم كان بامكانهم ان لا يبعثوه الى هنا للدراسة، وهم عندما فعلوا ذلك فانما تكرموا عليه بالمال الذي به سيدرس، فاجبته، ولكن المال الذي تصرفه دولة آل سعود على ابنك وامثاله ليس من جيبهم الخاص ولا هو مال ابيهم ورثوه عنه ليتفضلوا به على ابنك، فاجابني بالقول: بلى فلا زال آل سعود هم الحاكمين في بلادنا فان كل شئ يعود اليهم، ولو لم يكن الملك كريما لما فكر او قرر في ان يصرف على ابني وامثاله للدراسة في الولايات المتحدة.
بهذه العقلية التي توارثها الابناء عن الاباء، بات الحاكم هو المالك المطلق للبلاد والمال والشعب والخيرات ولكل شئ فوق الارض او تحتها، فان شاء تكرم على الشعب ببعض الفتات، واذا لم يفعل ذلك يظل هو المالك الاول والاخير، وما على الشعب الا ان ينتظر مستجديا عطايا الحاكم.
ان مثل هذا المفهوم ازاء الحقوق هي التي حولت شعوبنا الى قطيع من الاغنام يسوقها الحاكم حيث يشاء وانى يشاء، فاذا تكرم ذبحها على الطريقة الاسلامية لياكلها، او ان يخنقها او يرميها من عل او يبعث بذئابه لتنطحها فتموت، كما هو حال من تقتله سلطات الحاكم الظالم يوميا، وبحجج واعذار واهية لها اول وليس لها آخر.
اما امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، والذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده في محراب مسجد الكوفة في الواحد والعشرين من شهر رمضان المبارك عام ۴۰ للهجرة، فانه رسم معالم جديدة لمفهوم الحقوق والواجبات، بداها بنفسه كحاكم اعلى للبلاد، ولذلك كانت مفاهيمه عملية بعيدا عن التنظير على الرغم من ان الكثيرين يعتبرونها بعيدة عن الواقع ولا يمكن الالتزام بها، فيما فهمها الغرب بشكل سليم فعمل بها ودعا الى العمل بها، كما فعلت الامم المتحدة في تقريرها السنوي للتنمية والصادر في العام ۲۰۰۱، عندما دعت البلاد النامية الى التعلم من عهد الامام عليه السلام الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر، كمنهج حقيقي وعملي يساعد في تحقيق التنمية وعلى مختلف الاصعدة السياسية والتعليمية والصحية والادارية وغيرها، الا ان الهزيمة الذاتية والعقلية الطائفية التي يعيشها (العرب والمسلمون) بشكل عام هي التي تحول بينهم وبين الاخذ بنهج الامام عليه السلام من اجل الانعتاق من حالة التخلف التي يعيشونها، والسعي من اجل تحقيق التنمية التي يتطلع اليها كل عاقل.
انه كان يبذل كل ما في وسعه لايضاح حقوق الناس وواجباتهم، كما انه كان يوضح حقوق الحاكم وواجباته، فلم يشا الامام عليه السلام ان يغش الناس او يضللهم، فيتحدث عن حقوق الحاكم وواجبات الرعية، ابدا، وانما كان يتحدث بعدل لئلا يغفل امرئ عن حقوقه، او يغفل آخر عن واجبات الحاكم، فيظن ان له الفضل عليه اذا ما التزم بواجباته، ظنا منه بانها حقوقه ان شاء التزم بها وان شاء غض الطرف عنها، ابدا، ولذلك فان اول ما بادر اليه الامام عند توليه الخلافة وقف خطيبا ليرسم معالم الحقوق والواجبات لكلا الطرفين الحاكم والمحكوم، فقال:
ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم.
انه يحدد اولا حقوق الرعية ثم يعرج بعدها على حقوق الراعي، لان الحاكم الذي لا يضمن حقوق الناس ليس له اي حق، فحقوقه على الرعية تتجلى بعد ان يضمن لهم حقوقهم، اي بعد ان يلتزم بواجباته.
بل انه عليه السلام ثبت حقيقة في غاية الاهمية، وهي، ان الحقوق متساوية بين الراعي والرعية، فقال {ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم} وهذه المعادلة تحقق العدالة بلا طغيان او تجبر او تذلل.
لذلك نراه كذلك عندما عين الاشتر واليا على مصر كتب اليه يقول في صدر عهده له محددا واجباته ازاء الرعية اولا {جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح اهلها، وعمارة بلادها} فتحقيق الامن والرفاهية الاقتصادية للناس كافة بلا تمييز، واعمار البلاد، واجبات على الحاكم تحقيقها قبل ان يطالب الناس بواجباتهم، فحقوقهم قبل واجباتهم.
وبقراءة متانية في نهج الامام عليه السلام، سنلحظ بانه يعتبر ان الحقوق هي حجر الزاوية في تحقيق التنمية، وهو قسمها الى عدة اقسام، منها:
اولا؛ الحقوق السياسية.
ثانيا؛ الحقوق الاقتصادية.
ثالثا؛ الحقوق الاجتماعية.
وان القاسم المشترك بين هذه الحقوق ليس الدين او المذهب او الاثنية او الولاء للحاكم او العشيرة مثلا، ابدا، وانما هو (الانسانية) ولذلك سميت بحقوق الانسان، ولم تسم بحقوق العرب مثلا او المسلمين او المتدينين او اللادينيين، ابدا، وانما هي حقوق الانسان بما هو انسان بغض النظر عن جنسه ودينه وعرقه ومذهبه وولائه وزيه واصله وفصله.
ولذلك فهي ضد التمييز بكل اشكاله، كما انها للكل بلا تمييز، والى ذلك يشير امير المؤمنين عليه السلام بقوله {ان الناس عندنا في الحق اسوة}.
هذا اولا، وثانيا: فان الى جانب هذه الحقوق العامة والمشتركة بين الجميع كناس، هناك حقوق اضافية لكل انسان تعتمد المهنة مثلا او الجنس او العمر و الموقع والمسؤولية، فالطفل له حقوق اضافية كونه طفلا، والام كذلك والاب والزوجة والزوج والمعلم والطالب والحاكم والمحكوم والعامل ورب العمل وهكذا، وبعودة متانية للسفر العظيم الذي ورثناه من سيد الساجدين عليه السلام الامام علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) والمسمى برسالة الحقوق، سنطلع على اكثر من خمسين حقا عاما وخاصا، وهي منظومة متكاملة ترسم الحدود بشكل دقيق وواضح في آن.
اما ثالثا: فان من اهم هذه الحقوق هي الحقوق السياسية، والتي وصفها الامام عليه السلام بقوله {واعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل} وهي الحدود التي ترسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتي تشكل بمجموعها النظام الذي يحقق الالفة والانسجام في الدولة، فاذا التزم الجانبين بهذه الحقوق التزم المجتمع بكل الحقوق الاخرى، اما اذا سحق الحاكم حقوق رعيته ولم يراع حدود علاقاته مع الناس وتجاوز على حقوق المواطنين فميز بينهم وقدم بعضهم وأخر آخرون بهوى او ميل، لم يعد الناس يعيرون اهتماما ببقية الحقوق، فتفسد البلاد ويصيبها الخراب الاجتماعي.
رابعا واخيرا: ان ما هو واجب على الاخرين، هو حق من حقوقك، فمثلا، اذا كان من واجب الحاكم ايجاد فرص العمل في الدولة، فذلك يعني ان من حقك على الدولة ان تجد لك فرص عمل مناسبة، واذا كان من واجب الولد احترام الوالدين فان ذلك يعني ان الاحترام حق من حقوق الوالدين، ولذلك فان الحديث عن الواجبات من جانب، هو في حقيقة الامر حقوق من جانب آخر.
تعالوا معي لنتحدث بشئ من التفصيل عن هذه المستويات الثلاثة من الحقوق، في مسعى منا للتعرف اكثر على تفاصيل هذه الحقوق، علنا ناخذ بها او ببعضها فنحقق بها التنمية التي طال انتظارها بعد ان اضعنا البوصلة ولم نعد نعرف كيف نمشي اليها.
وسابحث في ابرز هذه الحقوق، وهي كالتالي:
اولا؛ ان من حق الانسان ان يتمتع بحياة كريمة في بلاده، ولا يمكن ان تتحقق مثل هذه الحياة في ظل الطبقية الاجتماعية التي اساسها الطبقية الاقتصادية ابدا، لان الطبقية تعني التمايز في الحياة بدرجة كبيرة جدا، فترى في المجتمع متخما يبذر ماله يمينا ويسارا على التوافه، فيما ترى آخر لا يجد قوت يومه الا في المزابل، فاية حياة كريمة هذه؟.
ان الدولة هي المسؤولة مباشرة عن ردم هذه الطبقية ما استطاعت الى ذلك سبيلا، ولا يمكن لها ذلك اذا كان الحاكم متخما، لان الشبعان لا يحس باذى الجائع ابدا، ولذلك فان من حق المواطن على الحاكم ان لا يراه متخما، ليطمئن على شعوره بالمسؤولية تجاهه، فلو كان الحاكم يعيش عيشة اوسط الناس لشعر بمعاناة شعبه، وبالتالي عمل على تغيير الواقع وتصحيح الخلل، اما اذا كان يتميز عنهم بالماكل والملبس والمركب، فكيف سيشعر بحاجة الناس؟ وكيف سيعمل من اجل اقرار الحياة الكريمة لعامتهم؟.
اذا كان الحاكم يمتلك القصور والفلل في شرق الارض وغربها، كما هو حال امراء اسرة آل سعود الفاسدة، فكيف يا ترى سيستشعر بحاجة شعبه؟ ولا نقول بحاجة المسلمين وهم الذين يعتبرون انفسهم حماة الدين وساسة المسلمين؟ لذلك انتشر الفقر في بلاد الحرمين والبطالة، وهي البلاد التي يقدر دخلها اليومي من عائدات البترول فقط باكثر من مليار دولار؟.
انظروا ماذا يقول امير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد:
ان الله تعالى فرض على ائمة العدل ان يقدروا انفسهم بضعفة الناس، كيلا لا يتبيغ بالفقير فقره.
ويقول عليه السلام في نص آخر:
الا وان لكل ماموم اماما، يقتدي به ويستضئ بنور علمه، الا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمرية، ومن طعمه بقرصيه، الا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا اعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من ارضها شبرا، ولا اخذت منه الا كقوت اتان دبرة، ولهي في عيني اوهى واهون من عفصة مقرة.
ثم يضيف عليه السلام:
{ولو شئت لاهتديت الطريق، الى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، او ابيت مبطانا وحولي بطون غرثى، واكباد حرى، او اكون كما قال القائل}:
وحسبك داءا ان تبيت ببطنة وحولك اكباد تحن الى القد
ااقنع من نفسي بان يقال: هذا امير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، او المرسلة شغلها تقممها، تكترش من اعلافها، وتلهو عما يراد بها.
وهو عليه السلام ثبت هذا المعنى في عهده الى الاشتر لما ولاه مصر بقوله {واياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة} اي ان من حق الرعية على الحاكم ان لا يتجاوز على المال العام، وان لا يحتكر الفرص لزبانيته واهله وعشيرته ومحازبيه ويحرم الناس منها، بغير عدل وبغير دليل دستوري او ديني او عقلي او منطقي.
ان من حق الرعية ان ترى اهتمام الحاكم بحياته، وبما تعانيه بسبب الحاجة، وان من حقها ان تحس بمشاعره تجاهها، ولا يمكن ذلك اذا اقام الحاكم في برجه العاجي لا يعرف عن معاناة الناس شيئا، على طريقة تلك الملكة التي سالت عن سبب تظاهر شعبها ضد الحكومة، فقيل لها بانهم يتظاهرون ضدها لانهم لا يجدون خبزا ياكلونه ويسدون به رمقهم، فقالت: لياكلوا كعكا، اذن.
اذن، فان من حق الرعية على الراعي ان يتحسس آلامها ويعيش معاناته ويتذوق من مرارة فقرها، فاين حكام البلاد العربية والاسلامية اليوم من كل هذا؟ فبعد ان انطبق عليهم آخر قول الامام عليه السلام فتحولوا الى بهائم مربوطة الى شهواتها، ومرسلات تلهثن وراء مصالحها الدنيوية، لم يعد الحاكم يستحق ان يمكث في السلطة اكثر من هذا، ولا بد من ازاحته باية طريقة من الطرق، فالى متى يبقى مثل هؤلاء الحكام، خاصة الاسر الفاسدة الحاكمة في دول الخليج وعلى راسها اسرتي آل سعود وآل خليفة، في السلطة، ينهبون ويفسدون ويتقممون ويعتلفون بلا اي رادع، فيما يموت ثلث اطفال المسلمين من الجوع والمرض والخوف؟.
ان كل مواطن له الحق على الحاكم ان يضمن له الحياة الكريمة في ظل الامن وفرص العمل والتعليم والصحة وغير ذلك، بغض النظر عن دينه او اثنيته او خلفياته السياسية او الفكرية والثقافية، ولذلك فعندما وردت اخبار غارات جنود معاوية بن ابي سفيان على اطراف الدولة، ومنها الانبار، وقف الامام خطيبا ليقول:
وهذا اخو غامد وقد وردت خيله الانبار، وقد قتل حسان بن ثابت البكري، وازال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والاخرى المعاهدة، اي غير المسلمة لا فرق، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرأ مسلما مات بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.
ان تحقيق الامن الذي يفضي الى حياة كريمة، هو من حقوق المواطن على الحاكم، بلا تمييز بالمطلق، لدرجة ان الامام يعتبر ان من يموت من المسلمين كمدا لسماع مثل هذه الاخبار المؤسفة التي لحقت بغير المسلمين، شهيدا، لانه يستنكر عدوانا على حق من حقوق الرعية في ظل الحاكم العادل.
حتى قاتل الامام له حق الامن في ظل الدولة العادلة، فهو لم يجز، مثلا، التمثيل به بعد قتله، ولذلك اوصى عليه السلام اهله خيرا بقاتله المجرم، مع عظم الجريمة التي اقترفها بحق الاسلام والمسلمين وبحق الامام واهل بيته، فاوصاهم بقوله {انظروا اذا انا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل} وعندما سال المجرم قاتل امير المؤمنين عليه السلام الامام الحسن السبط عليه السلام: ما الذي امرك به ابوك؟ اجابه الحسن السبط عليه السلام بقوله {امرني الا اقتل غير قاتله، وان اشبع بطنك، وانعم وطاءك، فان عاش اقتص او عفى، وان مات الحقتك به} فقال المجرم: ان كان ابوك ليقول الحق ويقضي به في حال الغضب والرضى.
ان الجريمة، مهما عظمت، لا تمنح الحاكم يدا مبسوطة يفعل بالمجرم كيفما يشاء ابدا، فلكل امرئ حقوقا ولكل جريمة حدودا لا يجوز للحاكم العادل ان يتجاوزها، ولذلك اوصى امير الميمنين عليه السلام اهله بعد ضربة ابن ملجم بقوله {يا بني عبد المطلب، لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل امير المؤمنين، الا لا تقتلون بي الا قاتلي} فالجريمة مهما عظمت في السماوات والارض فان للقصاص من صاحبها حدود لا يجوز لاحد ان يتجاوزها بذريعة او باخرى، كما يفعل اليوم الطغاة فيمحون بلدة كاملة عن بكرة ابيها لان رصاصة انطلقت من سطح احد بيوتها استهدفت (القائد الضرورة) كما فعل الطاغية الذليل صدام حسين في مدينة الدجيل في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
ثانيا؛ ان من حق الانسان في بلاده ان يتفيأ بظلال الدولة العادلة لتدافع عنه، فيعيش هو وعائلته في امان، ويعمل بامان لا يسرقه احد، ويتعلم ابناءه بامان فلا يسرق احد منهم فرصة التعليم المناسب، ويتمتعون بفرص المستقبل بلا تمييز، ويتمتعون بالعناية الصحية بلا خوف.
ولذلك فان من واجب الحاكم ان يصون هذه الحقوق للمواطن، حتى اذا استدعى الامر الى اللجوء الى القوة اذا ما راى ان هناك من يسعى للتجاوز على حدود الاخرين بالقوة، او يحاول انتزاع حقوق الناس بالقهر والظلم والارهاب والعنف والابتزاز.
فعندما خرج الناكثون يجرون حرمة رسول الله (ص) معهم الى البصرة لقتال امير المؤمنين عليه السلام، خطب الامام قائلا:
{فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين الا رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم جره، لحل لي قتل ذلك الجيش كله، اذ حضروه فلم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد}.
ان من حق المواطن على الدولة ان تسن القوانين اللازمة والتشريعات المطلوبة لتحقيق الحياة الكريمة، والا لما بقي له اي مبرر لاحترام هذه الدولة او اطاعتها، فما بالك اذا كانت الدولة هي التي تسحق حقوقه وتعتدي على حدوده؟ فاي معنى يبقى لمثل هذه الدولة؟ واي مبرر يبقى لاحترام مثل هذا الحاكم الذي يعتبر ظالما بكل المقاييس؟.
انظروا الى ما يقوله امير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد:
{الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه}.
ويقول عليه السلام {وايم الله لابقرن الباطل حتى اخرج الحق من خاصرته}.
ويقول عليه السلام {وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه، ولاقودن الظالم بخزامته، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها}.
هذا يعني ان علة وجود الحاكم على راس السلطة هو ان يصون حقوق المواطن، ايا كان، فينتصف له اذا ظلمه احد، وينتزع له حقه ممن يغتصبه، اما اذا كان الحاكم هو الظالم وهو الذي يتجاوز على حقوق المواطن، فليس له في رقاب الناس لا بيعة ولا طاعة ولا التزام ابدا، لان الحقوق اولا، اليس كذلك؟.
هذا هو الامام امير المؤمنين عليه بن ابي طالب، ثم يتساءل البعض، لماذا نقموا منه؟ انهم نقموا عدله بين الناس ومساواته بين الرعية بلا تمييز على اساس العشيرة او الانتماء او الدين او الاثنية او الاسبقية في الجهاد او اي شئ آخر، الناس في حكومة الامام سواسية كاسنان المشط على حد قول رسول الله (ص) الذي قال {الناس سواسية كاسنان المشط} و {لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى} والتي تعني بمعناها الانساني الحضاري، حسن العمل والاداء بما يحقق الصالح العام والحياة الحرة الكريمة.
فسلام على الامام امير المؤمنين عليه السلام يوم ولد في جوف الكعبة المشرفة، بيت الله تعالى، وسلام عليه يوم آمن برسول الله تعالى، وهو اول المؤمنين، وسلام عليه يوم بات في فراش رسول الله (ص) ليهاجر الى المدينة المنورة فشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، وسلام عليه يوم ان قاتل بين يدي رسول الله (ص) دفاعا عن الرسالة وعن الرسول، وسلام عليكم يوم ان قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وسلام عليه يوم ان رسم منهاج العدل والحق والعلم فقال، ولم يقل غيره ابدا {سلوني قبل ان تفقدوني} وهو الذي قال بحقه رسول الله (ص) {انا مدينة العلم وعلي بابها} وسلام عليه يوم استشهد في محراب الصلاة على يد اشقى الاشقياء، وسلام عليه يوم يبعث حيا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.