ـ تمهيد
إنّ البراهين التي أقيمت لإثبات وجود الله تعالى كثيرة، ولها أساليب مختلفة ومتنوعة، ولكن بشكل عامّ يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: البراهين التي تقام عن طريق مشاهدة الآثار والآيات الإلهية في العالم وفي الآفاق؛ مثل برهان النظم والعناية الذي يُطرح عن طريق مشاهدة الانسجام والتناسب بين الظواهر الموجودة، فيكتشف الهدف والتدبير الحكيم، فيتمّ إثبات المنظّم الحكيم والمدبّر العليم للعالم.
وهذه الفئة من البراهين مع كونها واضحة وسهلة التلقي، لكنها لا تقتلع جميع الشبهات والوساوس، إلاّ أنّها تنهض بدور إيقاظ الفطرة، وتحويل المعرفة الفطرية إلى مجال الوعي(1).
الفئة الثانية: البراهين التي تثبت وجود الخالق الغني وغير المحتاج من طريق احتياج العالم؛ مثل برهان الحدوث الذي يثبت الاحتياج الذاتي للظواهر الوجودية عن طريق كونها مسبوقة بالعدم، ثم يستعان بإبطال الدور والتسلسل لإثبات الخالق غير المحتاج. وأيضاً برهان الحركة الذي يثبت وجود الله تعالى بعنوان أنّه الموجد الأوّل للحركة في العالم، وذلك عن طريق احتياج الحركة إلى المحرّك واستحالة تسلسل المحرّكين إلى ما لا نهاية. وأيضاً البراهين التي تعتمد على كون النفوس والصور الجوهرية إبداعية، ولا يمكن أن تصدر من الفاعل الطبيعي والمادّي، فيثبت وجود العلّة المانحة للوجود وغير المحتاجة. وبراهين هذه الفئة بشكل عام تحتاج بشكل أو بآخر إلى مقدمات حسيّة وتجريبيّة(2).
الفئة الثالثة: هي البراهين الفلسفية الخالصة التي تتكون من مقدمات عقلية محضة؛ مثل برهان الإمكان وبرهان الصديقين, ولهذه الفئة من البراهين ميزات، أهمها :
أولاً: عدم احتياجها إلى المقدمات الحسية والتجريبيّة.
ثانياً: تتمتع بقيمة منطقية أعظم، ولذا فلا تكتنفها الشبهات والوساوس التي تكتنف براهين الفئات الأخرى.
ثالثاً: البراهين الأخرى تحتاج بشكل أو بآخر إلى مقدمات براهين هذه الفئة؛ فمثلاً عندما يتم إثبات المنظِّم والمدبِّر الحكيم أو المحدث أو المحرّك, فإنّه لابدّ من الاستعانة بمقدمات براهين الفئة الثالثة لإثبات غناه الذاتي وعدم احتياجه الذاتي وكونه واجب الوجود.
ومع ذلك فإنّ هذه الفئة تفتقد لمزيّة موجودة في بقية الفئات, وهي: أن براهينها تثبت موجوداً بعنوان واجب الوجود فحسب، وأما إثبات كونه ذا علم وقدرة وحكمة، وإنه ليس بجسم, وأنه مغاير للعالم المادي, فإنه يحتاج إلى براهين أُخرى وهذا بخلاف براهين الفئة الأولى والثانية(3). وسنكتفي هنا بذكر نماذج من براهين هذه الفئات بشكل أقل تعقيداً مما عليه في منابعها الأصلية، وأهم هذه البراهين هي:
1- برهان النظم.
2- برهان الحدوث.
3- برهان الحركة.
4- برهان الإمكان.
5- برهان ابن سينا.
6- برهان صدر الدين الشيرازي.
2ـ برهان النظم:
يتكون هذا البرهان من مقدمات أربع، يمكن تلخيصها بالشكل التالي:
المقدمة الأوّلى: الاعتراف بأصل الوجود العيني، وهو أمر لا يقبل التشكيك, ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا الأصل إلاّ إذا أنكر معه جميع بديهيّاته الوجدانيّة ومعلوماته الحضوريّة، ولم يعترف إطلاقاً بوجود أيّ موجود، حتى وجوده هو, وفكره وأحاديثه!!.
وبعبارة أخرى: هناك عالماً ملئ بالموجودات وراء الذهن الإنساني، محتفٍ بالظواهر الطبيعيّة، وإن ما يتصوره الإنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي، وهذه المقدمة قد أجمع عليها الإلهيون والماديّون رافضين كل فكرة قامت على نفي الواقعية ولجأت إلى المثالية، بمعنى نفي الحقائق الخارجية(4).
المقدمة الثانية: إنّّ عالم الطبيعة خاضع لنظام معين ومحدد، وإنّ كلّ ما في الكون لا ينفك عن النظم والسنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، وكلّما تطورت هذه العلوم خطا الإنسان خطوات أُخرى في معرفة الكون والقوانين الحاكمة عليه(5).
المقدمة الثالثة: أصل العلّية، والمراد به إن كلّ ما في الكون من سُنَن وقوانين لا ينفك عن علّة توجده، وإنّ تكوّن الشيء بلا مكون, وتحققه بلا علّة أمر محال لا يعترف به العقل والبرهان، وكذا الفطرة والوجدان. وعلى ذلك فكل ما في الكون خاضعاً لعلّة أوجدته وكونته(6).
المقدمة الرابعة: إن دلالة الأثر تتجلى بصورتين:
الصورة الأولى: وجود الأثر يدل على وجود المؤثر؛ كدلالة المعلول على علته، والآية على صاحبها. وهذه الدلالة لا يفترق فيها المادّي عن الإلهي(7).
الصورة الثانية: إنّ دلالة الأثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أخرى في طول الدلالة الأولى، وهي الكشف عن بعض خصوصيات المؤثر، وذلك كلّ بحسبه، كحكمته وتدبيره، وعقله, وعلمه, وشعوره وما شاكل؛ فمثلاً كتاب القانون المؤلف في الطب, كما أن له دلالة على وجود المؤثر والراقم والمؤلف، كذلك له دلالة أخرى هي الكشف عن خصوصيات المؤلف وانه خبير بأصول الطب وقوانينه، مطلع على الداء والدواء إلى غير ذلك(8) وبعد عرض هذه المقدمات يمكن صبّ البرهان بالشكل التالي:
إن العلم لم يزل يتقدم ويكشف عن الرموز والسنن الموجودة في عالم المادة والطبيعة، والعلوم كلّها بشتى أقسامها وأصنافها وتشعبها وتفرعها تهدف إلى أمر واحد, وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة، عالم منسجم تسود عليه أدق الأنظمة والضوابط..
وعندئذ نسأل عن المنظم الذي أوجده بهذا الشكل، فنقول: مَن هذا المنظم الذي أوجده ونظمه بهذا الشكل؟
وفي الجواب نقول: إمّا أنّ يكون هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادّة، عالماً قادراً واجداً للكمال والجمال، قام بإيجاد المادّة وتصويرها بأدق السنن وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته الـ (لا متناهية), أوجد العالم وأجرى فيه القوانين، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها، ومستغرقاً في تدوينها، وهذا المؤثر المنظم الموجد الجميل ذو العلم والقدرة هو الله تعالى، هذا هو القول الأول.
وإمّا أن نقول إنّ المادّة الصماء العمياء في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مرّ القرون والأجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أدهش العقول وأبهر العيون، وهذا هو القول الثاني.
إذا عرضنا هذا الجواب على ما ذكرنا في المقدمة الرابعة في دلالة الأثر على المؤثر, فلا شك أنّها بصورتيها تدعم القول الأوّل وتبطل ثانيهما؛ إذ إن الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأثر تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلة، فالسُنن والنُّظُم تكشف عن المحاسبة والدقة، وهي تلازم العلم والشعور في العلّة، فكيف تكون المادّة الصمّاء العمياء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن والنظم؟ فإذن المؤثر المنظم الموجد الجميل ذو العلم والقدرة هو الله تعالى(9).
3ـ القرآن وبرهان النظم:
أولى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً لهذا البرهان، ودعا إلى التفكر تارة، وإلى التذكر تارة أخرى، وإلى التعقل تارة ثالثة، فقال جلّ وعلا: «ان في ذلك لآية لقوم يتفكرون»، وقال تعالى: «ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون»(10)، وقال تعالى: « ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون »(11).
وقد أشارت آيات عديدة إلى برهان النظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة بدلالة قرآنية مشعرة بأنّ التعقّل والتفكّر في هذه السنن والآيات والنُّظم المحيرة يكشف بوضوح عن أن جاعلها موجود، عالم، قادر، بصير، ومن المحال أن تقوم المادة الصماء العمياء بذلك، وهذه بعض الأمثلة من الآيات المباركة:
قال تعالى: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانُهُ فيه شفاء للناس ان في ذلك لآية لقوم يتفكرون)(12)، وقال تعالى: (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)(13)، وقال تعالى (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)(14)، وقال تعالى: (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآيات لقوم يذكرون)(15)، وقال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)(16)، وبهذا القدر نكتفي من ذكر الآيات الكريمة في المقام .
4ـ برهان الحدوث:
من البراهين التي يستند إليها في إثبات وجود الله تعالى هو البرهان المعروف ببرهان الحدوث، والذي ينسب إلى المتكلمين, وقبل تقرير البرهان نمهِّد لذلك ببيان سريع لتعريف الحدوث وأقسامه:
أ ـ تعريف الحدوث وأقسامه :
الحدوث وصف للوجود باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم ذاتاً أو زماناً, فهو على قسمين:
الأول: الحدوث الزماني، وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني؛ كمسبوقية اليوم بالعدم في الأمس، ومسبوقية حوادث اليوم بالعدم في الأمس.
الثاني: الحدوث الذاتي، وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته؛ كجميع الموجودات الممكنة التي لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها، وليس لها في حدّ ذاتها إلاّ العدم(17). والتفصيل يحتاج إلى مجال أوسع من هذا المختصر.
ثمّ إن مرجع الحدوث الذاتي إلى الإمكان الماهوي، فالاستدلال بالحدوث الذاتي راجع إلى برهان الإمكان والوجوب(18) الذي سيأتي لاحقاً؛ ومن هنا سيكون تركيزنا في تقرير برهان الحدوث على الحدوث الزماني.
ب ـ تقرير برهان الحدوث :
قضية «إن العالم المادي حادث» تمثل صغرى برهان الحدوث، وقد أثبت العلم الحديث حقيقة هذه القضيّة بل واستحالة عدم حدوثها. فإذا ضممنا إليها الأصل البديهي العقلي القائل: إنّ كل أمر غير ذاتي معلل، فإنّ النتيجة تكون لا محالة أن كل حادث لابدّ له من محدِث وخالق، وحينئذٍ يرد السؤال التالي: ما هو المحدِث لحياة المادّة؟ والجواب إما أن نقول هي نفسها أو غيرها، ولا يوجد فرض ثالث.
ولكن الفرض الأول باطل؛ لأنّ المفروض أنها كانت قبل حدوث الحياة لها فاقدة لها؛ وفاقد الشيء يستحيل أن يكون معطياً له، فلا مناص من قبول الفرض الثاني، فهناك إذن موجود آخر وراء عالم المادّة هو الموجد لهذا العالم والمحدث له(19). لكن يبقى أنّ هذا البرهان أنتج أن هناك موجوداً محدث لهذا العالم المادي؛ وأمّا هل أنّ هذا المحدِث ممكن أو واجب؟ فلا يعطي برهان الحدوث جواباً لذلك ويبقى علينا الرجوع إلى برهان الإمكان وامتناع الدور والتسلسل. وستأتي الإشارة إلى ذلك لاحقاً.
جـ ـ برهان الحدوث في كلمات أمير المؤمنين :
هناك إشارة واضحة في كلمات مولى الموحدين أمير المؤمنين علي لهذا البرهان، واستدلاله على وجود الله تعالى وأزليته في مواضع من خطبه التوحيدية، ومنها قوله : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده»(20).
5ـ برهان الحركة
أبدعه الحكيم المتألّه أرسطو، وأكمله الفيلسوف الإلهي البارع صدر المتألهين على ما نقل(21)، وهو برهان شريف يتكئ على إبطال الدور والتسلسل في العلل. وقد عالج أرسطو هذا البرهان من وجهة نظر العالِم الطبيعي لا الفيلسوف الإلهي، ويمكن صبّه في المقدمات التالية:
أ- الحركة تحتاج إلى محرك.
ب- الحركة والمحرك متزامنان، أي يستحيل انفكاكهما زمانياً.
ج- كلّ محرك إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ثابتاً.
د- كل موجود جسمي متغير ومتحرك.
هـ- التسلسل والدور في الأمور المترتبة غير المتناهية محال.
أ ـ النتيجة:
تنتهي سلسلة الحركات إلى محرك غير متحرك. على أنّه لا يقصد أن الحركات في الزمان الماضي تنتهي إلى محرك غير متحرك، بل يقصد أنّ كلّ حركة في زمان حركتها مفتقرة إلى محرك، وهذا المحرك إمّا أن يكون ثابتاً أي ما وراء الطبيعة، وإمّا أن يكون متغيراً أي طبيعي، لكنه في نهاية الأمر ينتهي إلى محرك وراء الطبيعة في زمان الحركة(22).
غير أنّ هذا البرهان يبقى على فرض تمامه لا يثبت واجب الوجود، بل يثبت فقط ما وراء الطبيعة؛ ومن هنا حاول صدر الدين معالجة هذا الضعف في البرهان، حيث قال: إنّ المتحرك لا يوجب حركة بل يحتاج إلى محرك غيره، والمحركات لا محالة تنتهي إلى محرك غير متحرك أصلاً؛ دفعاً للدور والتسلسل، وهو لعدم تغيره, وبراءته عن القوّة(23) والحدوث واجب الوجود, أو وجه من وجوهه(24).
6ـ برهان الإمكان والوجوب
وهو من البراهين الفلسفية الشهيرة لإثبات الواجب تعالى، ويتكون من أربع مقدمات يمكن الإشارة إليها على النحو التالي :
المقدمة الأولى: كلّ ممكن الوجود فهو ذاتاً لا يتمتع بضرورة الوجود، أي عندما يأخذ العقل ماهيته بعين الاعتبار فإنّه يراها متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، وبغضّ النظر إلى العلّة فإنّه لا يرى ضرورة لوجوده(25).
وهذه المقدمة بديهيّة لا تحتاج إلى إثبات، لأنّ محمولها يتمّ الحصول عليه من تحليل مفهوم الموضوع، ففرض كونه ممكن الوجود هو بعينه فرض أنّه لا يتمتع بضرورة الوجود.
المقدمة الثانية: إنّ أي موجود لا يتحقّق من دون صفة الضرورة، أي أنّه لا يوجد إلاّ إذا سُدّت جميع طرق العدم في وجهه، وحسب قول الفلاسفة: «الشيء ما لم يجب لم يوجد»(26). وبعبارة أخرى: إن الموجود إما أن يكون ذاتاً واجب الوجود وهو بذاته يتمتع بضرورة الوجود وإمّا أن يكون ممكن الوجود، ومثل هذا الموجود لا يتحقق إلا إذا كانت هناك علّة توجبه, وتوصِل وجوده إلى حدّ الضرورة، أي يصبح بشكل لا يكون له إمكان العدم، وهذه المقدّمة يقينية أيضاً ولا يرقى إليها الشك(27).
المقدمة الثالثة: عندما لا تكون صفة الضرورة من مقتضى ذات الموجود فإنه لابد أن تصل إليه من قبل موجود آخر، حيث قرر الفلاسفة عدم الاكتفاء بما قاله المتكلمون من الأولوية بجميع أقسامها، وهذا يعني إنّ العلّة التامّة تجعل وجود المعلول ضرورياً (أي وجوب بالغير)؛ لأنّ أيّ صفة لا تخرج عن إحدى حالتين: إمّا بالذّات أو بالغير، وعندما لا تكون بالذات فهي لابدّ أن تصبح بالغير. إذن صفة الضرورة _ التي هي من لوازم كل وجود _لابدّ أن تكون حاصلة بواسطة موجود آخر يطلق عليه اسم العلة إن لم تكن بالذات (28).
المقدمة الرابعة: إنّ الدور والتسلسل في العلل مستحيل, وهذه المقدمة يقينية أيضاً، وقد بيّنها الحكماء وأقاموا عليها البراهين العقلية ولا يسعنا في هذا المختصر الإشارة إليها(29).
وبعد بيان هذه المقدمات يمكن صب البرهان وتقريره بالشكل الآتي:
إن موجودات العالم جميعاً توجد بصفة الضرورة بالغير؛ لأنّها من ناحيةٍ ممكنة الوجود، وهي لا تتمتع ذاتاً بصفة الضرورة «المقدمة الأولى»، ومن ناحية أخرى فإنّ أي موجود لا يتحقق من دون صفة الضرورة «المقدمة الثانية»، إذن لابدّ أن تكون متمتعة بصفة الضرورة بالغير، فوجود كل واحد منها قد تمّ «إيجابه» بواسطة علّة «المقدمة الثالثة».
والآن إذا فرضنا أن وجودها يغدو ضرورياً بواسطة بعضها فإنّه يلزم من ذلك الدور في العلل، ولو فرضنا أن سلسلة العلل تمتد إلى ما لا نهاية فلازم ذلك التسلسل في العلل، والدور والتسلسل باطلان ومستحيلان «المقدمة الرابعة»، إذن لابدّ ان نسلم بأنّ على رأس سلسلة العلل موجوداً تكون ضرورة الوجود ثابتة له بذاته وهو «واجب الوجود» وهو المطلوب(30).
7ـ تقرير آخر لبرهان الإمكان:
يمكن تقرير البرهان بصورة أخرى يُستغنى فيها عن المقدمة الرابعة, اعني إبطال الدور والتسلسل, وذلك بالشكل التالي:
إنّ مجموعة الممكنات بأيّة صورة فرضناها فهي لا تحقق لها الضرورة من دون واجب الوجود بالذات، وبالتالي لا يوجد أيّ واحد منها، لأنّ أيّاً منها ليس له بذاته ضرورة حتى يكتسب الآخر الضرورة في ظلّه. وبعبارة أخرى: فإنّ ضرورة الوجود في كل ممكن الوجود ضرورة مستعارة، وما لم تكن هناك ضرورة بالذات فإنّه لا مجال للضرورات المستعارة(31).
8ـ تقرير ثالث لبرهان الإمكان:
يمكن تقرير البرهان بشكل آخر أيضاً؛ وذلك بأن نقول: الموجود إمّا أن يكون واجب الوجود بالذات أو واجب الوجود بالغير، وكل واجب الوجود بالغير لابدّ أن ينتهي إلى واجب الوجود بالذات، إذن يثبت واجب الوجود بالذات(32).
9ـ برهان ابن سينا:
إن هذا البرهان قريب المأخذ من البرهان الأوّل، أعني برهان الإمكان والوجوب الذي سبق الكلام عنه، ويتكون من مقدمات ثلاث هي:
المقدمة الأولى: إنّ موجودات هذا العالم ممكنة الوجود، وهي ذاتاً لا تقتضي الوجود؛ إذ لو كان واحد منها واجب الوجود لتم إثبات المطلوب(33).
وهذه المقدمة تشبه المقدمة الأولى في البرهان السابق مع فارق ظريف ودقيق هو أنّه في البرهان السابق كان التركيز على ضرورة الوجود ونفيها من الممكنات، وفي هذا البرهان يكون التأكيد على نفس الوجود.
المقدمة الثانية: كل ممكن الوجود فهو محتاج في وجوده إلى علّة تمنحه الوجود. وهذه المقدمة عبارة أخرى عن احتياج كل معلول إلى العلّة الفاعلية، وقد تمّ إثبات ذلك في مباحث العلّة والمعلول(34). وهذه المقدمة تشبه المقدمة الثالثة في البرهان السابق مع ذلك الفارق الدقيق الذي أشرنا إليه.
المقدمة الثالثة: استحالة الدور والتسلسل في العلل(35). وهذه المقدمة هي بعينها المقدمة الرابعة في البرهان السابق.
وبعد بيان هذه المقدمات يمكن تقرير البرهان بالشكل التالي: إنّ كلّ واحد من موجودات هذا العالم _ الممكنة الوجود حسب الفرض _ يحتاج إلى العلّة الفاعلية، ويستحيل أن تمتد سلسلة العلل إلى ما لا نهاية، ولا يمكن أيضاً الدور؛ إذن لابدّ أن تنتهي سلسلة العلل من ناحية البدء إلى علّة ليست محتاجة إلى علّة, وهي التي نسميها واجب الوجود، وهو المطلوب(36).
وقد أبدع الشيخ الرئيس هذا البرهان، وذكره في كتابه القيم الإشارات والتنبيهات, حيث قال ما حاصله: الموجود إمّا أن يكون واجب الوجود أو ممكن الوجود، فإن كان واجب الوجود فقد ثبت المطلوب، وإن كان ممكن الوجود فلا بدّ أن ينتهي إلى واجب الوجود, حتى لا يلزم الدور أو التسلسل(37). وقد اعتبر الشيخ الرئيس برهانه هذا من احكم البراهين، وعبّر عنه بطريقة الصديقين(38).
10ـ خصائص برهان ابن سينا:
لعلّ أهم صفة تُميّز هذا البرهان هو عدم احتياجه إلى دراسة صفات المخلوقات, أو إثبات الحدوث, أو الحركة وسائر الصفات الأخرى لها، بل عدم حاجته أساساً حتى إلى إثبات وجود المخلوقات؛ لأنّ المقدمة الأولى ذكرت فيه بصورة الفرض والترديد. وبعبارة أخرى: إنّ جريان هذا البرهان يتوقف فقط على الاعتراف بأصل الوجود العيني لا غير، وهذا الأصل لا يقبل الشك، وبعد الاعتراف به يقال: الوجود العيني إمّا واجب الوجود أو ممكن الوجود، وليس هناك فرض ثالث. وعلى الأوّل يثبت المطلوب، وعلى الثاني لابدّ وأن ينتهي إلى واجب الوجود؛ لأنّ الممكن يحتاج إلى علّة، وحتى لا يلزم الدور أو التسلسل فلا بد أن ينتهي إلى واجب الوجود(39).
إنّ هذين البرهانين، اعني برهان الإمكان وبرهان ابن سينا، اعتمدا على صفة الإمكان للموجودات، وهذه الصفة عقلية لماهيّاتها. وعن طريق هذه الصفة يتمّ إثبات احتياجها إلى واجب الوجود؛ ولذا يمكن عدّ هذين البرهانين بأحد المعاني من جملة البراهين اللميّة. وقد سبقت بعض الإشارة لذلك في المبحث الأول.
ولكن جعل الماهيّة والإمكان الماهوي هو محور البحث لا يتناسب كثيراً مع القول بأصالة الوجود؛ ولهذا فإنّ صدر الدين الشيرازي أقام برهاناً آخر ينفرد بمزايا مختصّة به, وأسماه ببرهان الصدّيقين، واعتبر برهان ابن سينا شبيهاً ببرهان الصدّيقين.
11ـ برهان صدر المتألهين
أقام هذا البرهان الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي على أساس أصول الحكمة المتعالية التي شيّد بنيانها هو، واعتبره أقوى البراهين وأسدّها, ولائقاً باسم برهان الصديقين، وقد بيّن وقُرر هذا البرهان بصور مختلفة، ولعل أفضلها بيانه هو بنفسه، والذي يمكن الإشارة إليه من خلال المقدمات التالية:
المقدمة الأولى: أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، وقد تم إثبات ذلك في محله(40).
المقدمة الثانية: كون الوجود ذا مراتب، وأن بين العلة والمعلول تشكيكاً خاصاً بحيث لا يكون لوجود المعلول استقلال عن وجود علته التي تفيض عليه الوجود، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله(41).
المقدمة الثالثة: إنّ ملاك حاجة المعلول إلى العلّة هو كون وجوده رابطياً وتعلقياً بالنسبة إلى العلّة، وبعبارة أخرى: ضعف مرتبة وجوده، فما دام هناك أقلّ ضعف في موجود فهو بالضرورة معلول ومحتاج إلى موجود أعلى منه، وليس له أي لون من ألوان الاستقلال عنه(42). وقد بيّن صدر المتألهين مسألة الوجود الرابطي في كتابة الأسفار الأربعة والمشهور بالحكمة المتعالية، بما لا مزيد عليه فليراجع هناك من أراد الإسهاب والتفصيل(43). وبالالتفات إلى هذه المقدمات يمكن صبّ البرهان على أساس مباني الحكمة المتعالية بالشكل التالي:
إن مراتب الوجود ـ باستثناء المرتبة العالية التي تتميز بالكمال الـ (لا متناهي)، وعدم الاحتياج، والاستقلال المطلق ـ هي عين الربط والتعلّق، ولو لم تكن تلك المرتبة العليا متحققة فإن سائر المراتب لا تتحقّق أبداً؛ لأنّه يلزم من فرض تحقق سائر المراتب من دون تحقق تلك المرتبة أن تكون المراتب المذكورة مستقلة وغير محتاجة إليها، بينما حيثية وجودها عين الربط والفقر والاحتياج(44).
12ـ خصائص برهان صدر المتألهين
علاوة على أنّ هذا البرهان يتمتع بمزايا وخصائص برهان الشيخ الرئيس، فهو يمتاز عليه من عدّة جهات:
الأوّلى: تمّ الاعتماد في هذا البرهان على مفاهيم وجودية، ولم يرد فيه ذكر للماهيّة والإمكان الماهوي، ومن الواضح أنّ هذا البرهان ينسجم أكثر مع القول بأصالة الوجود(45).
الثانية: لا يحتاج هذا البرهان إلى إبطال الدور والتسلسل، وإنما هو يصبح بدوره برهاناً على بطلان التسلسل في العلل الفاعليّة(46).
الثالثة: يمكن الاستعانة به لإثبات الوحدة, بل وسائر الصفات الكمالية لله تعالى أيضاً(47). والتفصيل في هذه المزايا الثلاث يحتاج إلى مجال أوسع من هذا المختصر.
________________________________________
(1) انظر: الحكمة المتعالية, ج6, ص 12.
(2) المصدر نفسه .
(3) المصدر نفسه.
(4) انظر: أصول الفلسفة, الطباطبائي, ص89، المقالة الثانية.
(5) انظر: التوحيد, الشهيد مطهري, ص 118، المحاضرة الرابعة.
(6) انظر: المنهاج الجديد في تعليم الفلسفة, محمد تقي مصباح يزدي, ج2, ص7، الدرس 31.
(7) انظر: أسرار الآيات صدر الدين, ص 27.
(8) انظر: المصدر نفسه .
(9) انظر: المبدأ والمعاد, صدر الدين الشيرازي , ص 62.
(10) سورة البقرة, الآية 221.
(11) سورة الرعد, الآية 4.
(12) سورة النحل, الآية 69.
(13) سورة الرعد, الآية 3.
(14) سورة الروم, الآية 24.
(15) سورة النحل, الآية 13.
(16) سورة البقرة, الآية 164.
(17) تلخيص الإلهيات للسبحاني، علي الربانبي, ص39-40.
(18) انظر: المصدر نفسه, ص40.
(19) انظر: شرح التجريد, العلامة الحلي, ص 305.
(20) نهج البلاغة, ج2, ص 115, الخطبة 185.
(21) انظر: الإلهيات, سبحاني, ج1, ص74.
(22) انظر: الحكمة المتعالية, صدر الدين الشيرازي , ج6, ص 42.
(23) والقوة في اصطلاح الفلاسفة تعني القبول والاستعداد لأن يكون الشيء شيئاً آخراً ، مثل قابلية الخشب لأن يكون رماداً، فيقال: في الخشب قوة الرماد، وكالقوة الكامنة في البذرة لأن تكون شجرة، فيقال في حال كون البذرة ولم تكن هناك شجرة، هذه شجرة بالقوة.
(24) الحكمة المتعالية, ج6, ص 43.
(25) انظر: نهاية الحكمة, الطباطبائي, ص61، المرحلة الرابعة، الفصل السادس.
(26) انظر: الحكمة المتعالية, صدر الدين الشيرازي , ج3, ص280، وبداية الحكمة, الطباطبائي, ص 47، المرحلة 4، الفصل 5.
(27) انظر: بداية الحكمة, ص 45.
(28) انظر: نهاية الحكمة, الطباطبائي, ص 159، المرحلة الثامنة، الفصل الثالث.
(29) انظر: المصدر نفسه, ص 167، الفصل الخامس.
(30) انظر: المبدأ والمعاد, صدر الدين الشيرازي, ص 15.
(31) انظر: المصدر نفسه .
(32) انظر: المصدر نفسه, ص 16.
(33) انظر: الشفاء , ابن سينا, ص 47.
(34) انظر: المصدر نفسه, ص 257، المقالة السادسة.
(35) انظر: شرح الإشارات, الخواجه الطوسي , ج3, ص 22-28.
(36) انظر: المصدر نفسه. والشفاء, ص 37-39.
(37) شرح الإشارات, الخواجه الطوسي , ج3, ص 9-67.
(38) المصدر نفسه , ج3, ص67 .
(39) انظر: المصدر نفسه, ج3, ص 66-67.
(40) انظر: الشواهد الربوبيّة, صدر الدين الشيرازي , ص8.
(41) انظر: الحكمة المتعالية , صدر الدين الشيرازي , ج1, ص120، ص 402.
(42) انظر: نهاية الحكمة, الطباطبائي, ص 65 , المرحلة الرابعة.
(43) الحكمة المتعالية , صدر الدين الشيرازي , ج1, ص78 ، المرحلة الأولى، الفصل 9.
(44) الحكمة المتعالية, صدر الدين الشيرازي , ج6 ,ص 13، السفر الثالث، القسم الأول، الفن الأول، الموقف الأول، الفصل 1.
(45) انظر: المصدر نفسه , ج6 , ص 14.
(46) انظر: المصدر نفسه .
(47) انظر: المصدر نفسه .