في رحاب مولد الإمام الرضا (عليه السلام)
مراجعة لغربة الذات الإسلامية
المهندس غريبي مراد عبد الملك (1)
مدخل :
ورد عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) أنه قال لبنيه: ( هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد ، فاسألوه عن أديانكم ، واحفظوا ما يقول لكم ... ) .
لعل الذكريات الإمامية تتلاحق لتوحي لنا بحقائق ومواعظ ، تنسينا الدنيا وزخارفها ، أو إنّنا نستحضرها لنضمّد الجراح ونتناسى الواقع المرّ ، أم إنّها جزءٌ من مسؤوليتنا في الحياة الدنيا ؟!
لنستذكر قليلا ، ماذا وراء كل هذه الصور المشرقة الرسالية الإيمانية ؟
أهكذا أراد منّا بضعة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وعالم آل البيت (عليهم السلام) مولانا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، حيث ورد في الحديث عنه (عليه السلام) :
( مَن جلس مجلسا يحيى فيه أمرنا ثَبت قلبه يوم تفزع القلوب ) .
لأنّ مجالس إحياء ذكرى آل بيت النبوة (عليهم السلام) ذات خصوصية روحانية تخترق الزمان والمكان ، والعادات والتقاليد ، والثقافات والأديان ؛ لتشرق بحكمة الإسلام الإنسانية ، والرسالية ، والثقافية ، والحضارية الرائعة ، التي تعبق بنسائم الرحمة والعصمة والطهر والولاية .
إنّ الحديث عن أيّ إمام من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لا يسعه مقال أو مقالات أو حتى آلاف الأسفار ؛ لأنّ ذكرهم لا نستطيع التعبير عنه بالكلام .
فأهل المقام والولاء , آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) لم يريدوا منّا أن نتحدّث عنهم حديث المتسامرين والمفتخرين بهم ، لأنّهم عباد الله الأصفياء مهما ساح السائحون بفنائهم ، وخطب الخطباء في مجالسهم , ويقول الشعراء عنهم وما بلغوا كنه أسرارهم ، وما وَفَوهم حقوقهم ؛ لأنهم لن يعرفهم أحد غير الله والنبي الأكرم ، جدهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
نعيش هذه الأيام في رحاب عالم آل البيت (عليه وعليهم أجمعين السلام) ، والذي عرف بغريب طوس ، حيث ممّا تعنيه الغربة لدى مولانا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّها غربة النفس عن الأطهار والأخيار والمصطفين الأبرار ، لقد فرضت عليه (عليه السلام) الغربة والابتعاد عن خير الخلق كلّهم ، جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
لكن تألّق نجم آل البيت (عليهم السلام) بعطاءه وتضحياته (عليه السلام) ، وتأثيره في كل الواقع الإنساني العام والإسلامي ممّا لا ريب فيه ، فقد ملأ الكون بعلمه وخُلقه وحكمته البالغة ، ومواقفه الرسالية الجليلة ضد الطغيان والاستبداد والفساد السياسي والأخلاقي ، ورفع أركان الإسلام من جديد بعد أن حاول بني العباس القضاء على النور الإمامي ، وأراد الله أن يتم نوره بإشعاع نور الإمام الرضا (عليه السلام) .
الإمام الرضا (عليه السلام) بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؛ لأنّ موضِعَه في السلسلة الطاهرة المعصومة ثقيل جداً في الزمن الإسلامي والمضمون الولائي ، فالدارس لسيرته يلتمس حقائق إسلامية ومعجزات إمامية تنطق بدور الإمام في المتغير الإسلامي .
خصوصيته (عليه السلام) :
إنّه جمع الإسلام فكراً ومدرسةً وأفصح عن أمور الإمامة في وقتها ، وكان قد اكتسب علوم أجداده (عليهم الصلاة والسلام) فرتب بمواقفه بنود وحقائق الإمامة رغم كل الاضطهاد ، فعاش أزمنة أجداده كلها حتى انتهت ولاية العهد إليه ، على الرغم من أنّ الولاية عندهم منذ عالم الذر ، فهم آل بيت (عليهم السلام) أرفع عن الدنيا وحطامها ، بل هم حجج الله البالغة والمرشدة للدار الدائمة .
والإمام (عليه السلام) كان يدرك تماما ماذا وراء عرض الخليفة العباسي المأمون ، حيث نلحظ ذلك في حادثة طلب المأمون من الإمام (عليه السلام) أن يؤمَّ الناس في صلاة العيد ، فخرج (عليه السلام) بروح وروحانية لصلاة العيد مجسِّدا سنة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ لا كما يخرج بني العباس وأشياعهم ـ وتبعه في ذلك كل شيعته ، فأجهش الناس بالبكاء ، فطلب المأمون منه العودة لبيته .
السلام عليك يا بضعة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، يوم ولدت ، ويوم استشهدت , ويوم تبعث حياً .
إنّ الذكريات الإمامية أطهر وأهدى وأرحب لكل الناس ، ومسؤوليتنا في هذا الإطار أعظم وأدهى إن لم نستوعب خطوطها العريضة ، وبالتالي بدل أن نكون زيناً لأهل البيت (عليهم السلام) نمسي شيناً لهم.
تعالوا لنزور بضعة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .
ألسنا نحب النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟
فلماذا لا نحبّ من يحبّهم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ونقتدي بهم ، ونحيي أمرهم ونحزن لأحزانهم ونفرح لأفراحهم ؟ كما هو الحال بجدهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، لنتوب إلى الله كوننا مقصرين أيّما تقصير في جناب حضرة أهل البيت (عليهم السلام) ، بنفاقنا وصمتنا ، وتخلفنا وتشتتنا ، والأعداء يراهنون على عزة الإسلام وكرامته .
ذكرى مولد مولانا الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) هي رحمة زمانية كما الحال بالنسبة لكل الذكريات الإمامية ، يبعثها الله لنا لننهض من كبوتنا ونرتقي لواجبنا الرسالي ، ولندرس واقعنا وفق ما يضمن المستقبل الإسلامي واللقاء بصاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) على أفضل حال ، حيث نلمس إنسانية رسالة الإسلام في أخلاق الإمام الرضا (عليه السلام) .
نافلة القول :
علينا أن نراجع علاقتنا بهذا الإمام العالم النوراني (عليه السلام) ، حتى يعرف العالم بأسره أنّه لا نجاة بغير ولاية أهل البيت (عليهم السلام) .
وهذه طائفة من قبسات نور الإمام الرضا (عليه السلام) :
قال (عليه السلام) : ( صديق كل امرئ عقلُه ، وعدوه جهلُه ) .
وعن الريان بن الصلت ـ أحد أصحابه ـ قال ، قلت للرضا (عليه السلام) : ما تقول في القرآن ؟ فقال (عليه السلام) : ( كلام الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا ) (2) , ولنا في قصّة رسالة التوحيد ، وحديث السلسلة الذهبية الوارد عنه (عليه السلام) ، عِبر وكُنوز عظيمة تنتظر الوعي والتبصر بها .
وكما قال (عليه السلام) : ( من علامات الفقه : الحلم ، والعلم ، والصمت ) .
ونأمل أن يرتقي إعلامنا الولائي أكثر ؛ لأن يحاور العالم الإسلامي والإنسانية جمعاء ، لا أن يتقوقع في دهاليز المذهبية ؛ لأنّ مسؤولية التشيّع غير ذلك ! بل هي عنوان الحقيقة الإسلامية ، والانفتاح الإسلامي ، والحوار الإسلامي ، والرحابة الإسلامية ...
والحمد لله رب العالمين ، الذي هدانا لمعرفة الأنوار (عليهم السلام) ، وطوبى لمن عرَّفه الله بحجّته.
ــــــــــــــــــــ
(1) المهندس غريبي مراد عبد الملك , مستبصر من دولة الجزائر , 11 ذي القعدة 1426.
(2) مسند الإمام الرضا (عليه السلام) للشيخ العطاردي / ج 1 / ص 307 .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
المصدر : نقلاً من موقع مساهمات المستبصرين.