عربي
Tuesday 23rd of July 2024
0
نفر 0

في أن ايوب عذب امتحانا ولم يعاقب

أيوب عليه السلام

في أن ايوب عذب امتحانا ولم يعاقب :

( مسألة ) : فان قيل : فما قولكم في الامراض والمحن التي لحقت ايوب ( ع ) أوليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء على ذنب في قوله : ( اني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) والعذاب لا يكون إلا جزاء كالعقاب والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمى عذابا ولا عقابا ، أوليس قد روى جميع المفسرين ان الله تعالى انما عاقبه بذلك البلاء لتركه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما ظاهر القرآن فليس يدل على ان ايوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار ، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل ، لانه تعالى قال : ( واذكر عبدنا ايوب اذ نادى ربه انى مسني الشيطان بنصب وعذاب ) ( 1 ) والنصب هو التعب ، وفيه لغتان بفتح النون والصاد ، وضم النون وتسكين الصاد . والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب ، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار . وأما العذاب فهو ايضا يجري مجرى المضار التى يختص اطلاق ذكرها بجهة دون جهة . ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم انه معذب ومضر ومؤلم ، وربما قيل معاقب على سبيل المجاز . وليست لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب ، لان لفظة العقاب يقتضي ظاهرها الجزاء لانها من التعقيب والمعاقبة ، ولفظة العذاب ليست كذلك . فأما اضافته ذلك إلى الشيطان ، وإنما ابتلاه به فله وجه صحيح ، لانه لم يضف المرض والسقم إلى الشيطان ، وإنما أضاف اليه ما كان يستضربه من وسوسته ويتعب به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء ، ودعائه له إلى التضجر والتبرم مما هو عليه ، ولانه كان ايضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما كان عليه من الامراض الشنيعة المنتنة ، ويخرجوه من بينهم . وكل هذا ضرر من جهة اللعين ابليس ، وقد روي ان زوجته ( ع ) كانت تخدم الناس في منازلهم وتصير اليه بما يأكله ويشربه ، وكان الشيطان لعنه الله تعالى يلقي اليهم ان داءه ( ع ) يعدي ، ويحسن اليهم تجنب خدمة زوجته من حيث كانت تباشر قروحه وتمس جسده ، وهذه مضار لا شبهة فيها . وأما قوله تعالى في سورة الانبياء : ( وايوب اذ نادى ربه اني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه اهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) ( 2 ) فلا ظاهر لها ايضا يقتضي ما ذكروه ، لان الضر هو الضرر الذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة .
فأما ما روي في هذا الباب عن جملة ( جهلة ) المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله ، لان هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى والى رسله عليهم السلام كل قبيح ومنكر ، ويقذفونهم بكل عظيم . وفي روايتهم هذه السخيفة ما اذا تأمله المتأمل علم انه موضوع الباطل مصنوع ، لانهم رووا ان الله تعالى سلط ابليس على مال ايوب عليه السلام وغنمه واهله ، فلما اهلكهم ودمر عليهم ورأى من صبره ( ع ) وتماسكه ، قال ابليس لربه يا رب ان ايوب قد علم انك ستخلف عليه ماله وولده فسلطني على جسده ، فقال تعالى قد سلطتك على جسده كله الا قلبه وبصره ، قال فاتاه فنفخه من لدن قرنه على قدمه فصار قرحة واحدة ، فقذف على كناسة لبني اسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدواب على جسده ، إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله ، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته ، ومن لا يعلم ان الله تعالى لا يسلط ابليس على خلقه ، وان ابليس لا يقدر على ان يقرح الاجساد ولا يفعل الامراض كيف يعتمد روايته ؟ .
فأما هذه الامراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها ، وهذه سنة الله تعالى في اصفيائه واوليائه عليهم السلام . فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله انه قال وقد سئل أي الناس اشد بلاء فقال : " الانبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالامثل من الناس " فنظهر من صبره ( ع ) على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا ، حتى روي انه كان في خلال ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة ، وأنه ما سمعت له شكوى ولا تفوه بتضجر ولا تبرم ، فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم ان رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى : ( وآتيناه اهله ومثلهم معهم ) وفي سورة ص ( ووهبنا له اهله ومثلهم معهم ) ( 3 ) ، ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية ، بأن اركض برجلك الارض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء . قال الله تعالى : ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) ( 4 ) والركض هو التحريك ومنه ركضت الدابة .
فان قيل ، افتصححون ما روي ان الجذام اصابه حتى تساقطت أعضاؤه ؟ .
قلنا : ان العمل المستقذرة التي ينفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الانبياء عليهم السلام لما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب ، لان النفور ليس بواقف على الامور القبيحة ، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا . وليس ينكر ان يكون امراض ايوب عليه السلام وأوجاعه . ومحنته في جسمه ثم في اهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والالم على ما ينال المجذوم ، وليس ننكر تزايد الالم فيه ( عليه السلام ) ، وانما ننكر ما اقتضى التنفير .
فان قيل : افتقولون ان الغرض مما ابتلي به ايوب عليه السلام كان الثواب او العوض او هما على الاجتماع ؟ . وهل يجوز ان يكون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها مما ليس بألم ام تمنعون من ذلك ؟ .
قلنا : أما الآلام التي يفعلها الله تعالى لا على سبيل العقوبة فليس يجوز ان يكون غرضه عزوجل فيها العوض من حيث كان قادرا على ان يبتدي بمثل العوض ، بل الغرض فيها المصلحة وما يؤدي إلى استحقاق الثواب . فالعوض تابع والمصلحة اصل ، وإنما يخرج بالعوض من ان يكون ظلما وبالغرض من أن يكون عبثا ، فأما الالم ، اذا كان فيه مصلحة ولطف ، وهناك في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما ، إلا أنه ليس بألم . اما بأن يكون لذة أو ليس بألم ولا لذة ، ففي الناس من ذهب إلى ان الالم لا يحسن في هذا الموضع ، وإنما يحسن بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة ، والصحيح انه حسن . والله تعالى مخير في فعل ايهما شاء ، والدليل على صحة ما ذكرناه انه لو قبح والحال هذه ، لم يخل من ان يكون انما قبح من حيث كان ظلما أو من حيث كان عبثا . ومعلوم انه ليس بظلم ، لان العوض الزايد العظيم الذي يحصل عليه يخرجه من كونه ظلما . وليس ايضا بعبث لان العبث هو ما لا غرض فيه ، أو ماليس فيه غرض مثله . وهذا الالم فيه غرض عظيم جليل ، وهو الذي تقدم بيانه . ولو كان هذا الغرض غير كاف فيه ولا يخرجه من العبث لما اخرجه من ذلك اذا لم يكن هناك ما يقوم مقامه ، وليس لهم ان يقولوا انه إنما قبح وصار عبثا من حيث كان هناك ما يغني عنه ، لان ذلك يؤدي إلى ان كل فعلين ألمين كانا او لذتين ، أو ليسا بألمين ولا لذتين ، او افعال تساوت في وجه المصلحة يقبح فعل كل واحد منهما ، لان العلة التي ادعيت حاصلة . وليس له ان يقول ان الالم انما يقبح اذا كان فيه من المصلحة ، مثل ما في فعل هو لذة من حيث كان يغني عنه ما ليس بألم ، وذلك ان العوض الذي في مقابلته يخرجه من كونه ضررا ويدخله في ان يكون نفعا ، ويجريه على أقل الاحوال مجرى ما ليس بضرر ، فقد عاد الامر إلى ان الالم بالعوض قد ساوى ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودي إلى المصلحة مثل ما فيه ، فيجب ان يكون مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء .
فان قيل : ما أنكرتم أيكون الفرق بين الامرين ان اللذة قد يحس ان يفعل بمجرد كونها لذة ، ولا يفتقر في حسن فعلها إلى أمر زايد ، والالم ليس كذلك ، فإنه لا يحسن ان يكون مجردا ولابد من امر زايد يجعله حسنا .
قلنا : هذا فرق بين الامرين في غير الموضع الذي جمعنا بينهما فيه ، لان غرضنا انما كان في التسوية بين الالم واللذة اذا كان كل واحد منهما مثل في صاحبه من المصلحة ، وأن يحكم بصحة التخيير في الاستصلاح بكل واحد منهما ، وان كنا لا ننكر ان بينهما فرقان من حيث كان احدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشكر عليه ، والآخر ليس كذلك ، إلا ان هذا الوجه وان لم يكن في الالم فليس يقتضي قبحه ، ووجوب فعل اللذة . ألا ترى ان اللذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذة ، فيكون المكلف تعالى مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء ، وان كان يجوز ويحسن ان يفعل اللذة بمجردها من غير عوض زايد ، ولا يحسن ذلك الفعل الآخر الذي جعلناه في مقابلتها متى تجرد ، وإنما يحسن لغرض زايد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذكرناه من الحكم . وإذا كانت اللذة قد تساوي في الحكم الذي ذكرناه من التخيير في الاستصلاح ما ليس بلذة ، وبينا ان العوض قد اخرج الالم من كونه ضررا ، وجعله بمنزلة ما ليس بألم ، فقد بان صحة ما ذكرناه لان التخيير بين اللذة وما ليس بلذة ولا ألم ، اذا حسن متى اجتمعا في المصلحة . فكذلك يحسن التخيير بين اللذة وما جرى مجرى ما ليس بألم ولا ضرر من الالم الذي يقابله المنافع ، وليس بعد هذا إلا قول من يوجب فعل اللذة لكونها نفعا ، وهذا مذهب ظاهر البطلان لا حاجة بنا إلى الكلام عليه من هذا الموضوع :
فان قيل : ما أنكرتم ما يكون الاستصلاح بالالم اذا كان هناك ما يستصلح به ، وليس بألم يجري في القبيح والعبث مجرى من بذل المال لمن يحتمل عنه ضرب المقارع ، ولا غرض له إلا ايصال المال في ان ذلك عبث قبيح ؟ .
قلنا : أما قبح ما ذكرته فالوجه فيه غير ما ظننته من ان هناك ما يقوم مقامه في الغرض ، لانا قد بينا ان ذلك لو كان هو وجه القبح لكان كل فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا ، وقد علمنا خلاف ذلك . وإنما قبح بذل المال لمن يحتمل الضرب ، والغرض ايصال المال اليه من حيث حسن ان يبتدئ بدفع المال الذي هو الغرض من غير تكلف الضرب ، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمكن مثل ذلك في الالم اذا قابله ما ليس بألم لان ما فيه من العوض لا يمكن الابتداء به .


( 1 ) ص الآية 41
( 2 ) سورة الانبياء 83 - 84
( 3 ) ص الآية 43
( 4 ) ص الآية 42

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشفاعة عند الشيعة الإمامية
الموت أفضل من الحياة
صدق دعوى الأنبياء
القرآن يتجلى في تكوين المياه العذبة
لذة العبادة والمناجاة وتاثيرها في التكامل
ثبوت الصفة لله
في اعماقنا مثال لمحكمة القيامة
مصير الشمس على ضوء القرآن
لغة القرآن إعراب سورة الكوثر
ملابسات الشهادة الثالثة

 
user comment