ـ 1 ـ
الفساد لغةً :
1ـ الفسادُ: بمعنى القحط، وقلة الريع، ومحق البركات، وقيل: هو قتل ابن آدم أخاه.
وفي اللسان: «الفساد: نقيض الصلاح، وقال: (وَيَسعَونَ فِي الاَرضِ فَسَاداً); أراد: يسعون في الارض للفساد، ويقال: أفسد فلان المالَ يُفسِدُه إفساداً وفساداً: (وَاللهُ لاَيُحِبُّ الفَسَادَ)، وفَسَّدَ الشيءَ: إذا أباره»(1).
2ـ الذي لانفع فيه(2).
3ـ المفْسَدَةُ: خلاف المصلحة(3).
وفي لسان العرب(4): «المفسدة: خلاف المصلحة، والاستفسادُ: خلاف الاستصلاح، وقالوا: هذا الامر مفسدة لكذا، أي فيه فساد. قال الشاعر:
إِنَّ الشبابَ والفَراغَ والجِدَهْ مَفْسَدَةٌ للعَقْلِ أَيُّ مَفْسدَه»
4ـ قوم فَسْدى، كما قالوا: ساقط وسقطى.
قال سيبويه: جمعوه جمع هلكى; لتقاربهما في المعنى، وأفسَدَه هو، واسْتَفْسَد فلان إلى فلان. وتَفَاسَدَ القومُ: تدابَرُوا وقطعوا الارحام. قال:
ـــــــــــ
(1) المجمع، ج 3، ص 121، لسان العرب، ج 10، ص 261.
(2) (3) المجمع، ج 3، ص 121.
(4) (5) لسان العرب، ج 10، ص 261.
يمدُدْنَ بالثُّدِيِّ في المَجَاسِدِ إلى الرجالِ خشيةَ التَّفاسُدِ
يقول: يخرجن ثُدِيَّهُنَ، يقلن: ننشدكم الله إلاّ حميتمونا. يُحرِّضن بذلك الرجال(1).
الفساد اصطلاحاً:
الفساد: «كل ما يغير عن استقامة الحال. والافساد في الارض: العمل فيها بما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، كما قال تعالى حاكيا عن الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها)(2). يعنون من يعصيك ويخالف أمرك»(3).
وقال الرازي: «ناقلاً قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي ـ في معنى الفساد في الارض، أن المراد به إظهار معصية الله»(4).
النهي عن الفساد
أهمية النهي
لاهمية هذا البحث تحدّث عنه القرآن الكريم في ما يقرب من خمسين آية،وركَّزت الايات الكريمة على النهي عنه، وأسبابه، ومصاديق له في الخارج، ونتائجه، كما سنتطرّق إِليه ضمن البحث.
ونلاحظ من خلال العديد من الايات القرآنية الكريمة أنَّها تحدثت عن الفساد،وأنَّ عدم النهي عنه يقتضي أن يُجري الخالق السنّة الكونية التي تنتج عن ذلك، وهي الانتقام الالهي المتعدد الصور.
كما أنَّ القرآن ذكر ما حلَّ بقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، قال: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنْ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عنِ الْفَسَادِ فِي الاَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجيَنْا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَــانَ ربُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون)(5).
والمعنى: هلاّ كان من القرون التي كانت من قبلكم، وقد أفنيناها بالعذاب والهلاك، (أُولُوا بَقيَّة)أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الارض ليصلحوا بذلك فيها،ويحفظوا امتهم من الاستئصال.
وقوله: (إلاّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجيَنا مِنُهم) استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة، فإن المعنى: من العجب أنه لم يكن من القرون الماضية ـ مع ما رأوا من آيات الله وشاهدوا من عذابه ـ بقايا ينهون عن الفساد في الارض إلاّ قليلاً ممن أنجينا من العذاب والهلاك منهم، فإنّهم كانوا ينهون عن الفساد.
ـــــــــــــ
(2) البقرة، الاية: 30.
(3) التبيان: ج 1، ص 75.
(4) التفسير الكبير: ج 2، ص 60 تفسير القرآن: ج 1، ص 412.
(5) هود: 116 ـ 117.
وقوله: (وَاتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا ما أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ) بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء وهم أكثرهم، وعرّفهم بأنَّهم الذين ظلموا وبيّن أنهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي اُترفوا فيها وكانوا مجرمين.
وقد تحصّل بهذا الاستثناء، وهذا الباقي الذي ذكر حالهم، تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله، والمجرمون; ولذلك عقبه بقوله: (وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ اُمَّةً وَاحِدةً وَلاَ يَزَالُون مُختَلِفِينَ إلاّ مَنِ رَّحِمَ رَبُّك).
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلم وَأَهلُهَا مُصلِحُون)، أي لم يكن من سنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون; لان ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحداً، فقوله: (بظلم) قيد توضيحي لا احترازي، ويفيد أنَّ سنّته تعالى عدم إهلاك القرى المصلِحة لكونه من الظلم: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لّلعَبِيدِ)»(1).
من خلال استعراض الايات القرآنية نلاحظ أنَّ هناك عدة آيات تحدثت عن النهي عن الفساد، بل إنه من وصايا الانبياء العارفين بما يصلح الانسان، وما يكون تبعة سلبية عليه في حياته وبعد مماته وعلى الاجيال التي تأتي من بعده، بل على الكون والحياة التي ينبغي أن يعمّرها الانسان بما فيه الخير والصلاح.
ومن هنا نلاحظ:
أولاً: الايات الناهية عن الفساد في الارض. يقول تعالى في سورة الاعراف: (وَلاَتُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحَهِا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ المْحسِنِينَ)(2)، وهنا يدعو الله سبحانه وتعالى عباده إلى الاعتدال في العبادة: «وأمّا فيما بينهم وبين الناس فألاّ يفسدوا في الارض بعد إصلاحها، فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس، إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم، ومعاملتهم بما يعينهم على التقوى، ويقرِّبهم من سعادة الحياة في الدنيا والاخرة»(3).
كما أن الخالق سبحانه أسبغ النعم الكثيرة على الانسان لكي يسعد في حياته، وهيَّأ له وسائل الامن والاستقرار، وهداه إلى استغلال مافي الكون، وبالخصوص الاستفادة من الارض وخيراتها، ولكي تستمر هذه الحياة الطيبة، نهاه عن الفساد، كما حكى ذلك في نفس السورة; عندما بعث صالحاً(عليه السلام) إلى ثمود، وقد كانت تعيش في حضارة عمرانية واضحة المعالم، وكانت في رفاهية وخير، وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، قال تعالى مذكراً إياهم هذه النعم
ــــــــــــــ
(1) الميزان، ج 11، ص 59 ـ 60.
(2) الاعراف: 56.
(3) الميزان، ج 8، ص 159.
ومنبهاً لهم: (فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الاَرْضِ مُفْسِدِينَ)(1).
وبعد هذا تحدثت السورة عن مدين; عندما بعث الله لهم شعيباً(عليه السلام) يأمرهم أن يوفوا الكيل والميزان، وينهاهم عن البخس والفساد في الارض; لا نَّ ذلك يفسد المعاملات بين الناس، ويقطع الاواصر الاجتماعية ويثير المشاكل الاقتصادية، وعدم حفظ حقوق الاخرين، ولا شك أن هذا من أعظم المفاسد، يقول تعالى: (وإِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدوُا اللهَ مالَكُمْ مِنْ إِله غَيرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالمْيِزَانَ وَلاَتبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَتُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(2).
«وقد دعاهم أولاً بعد التوحيد، الذي هو أصل الدين، إلى إيفاء الكيل والميزان، وألاّ يبخسواالناس أشياءهم، فقد كان الافساد في المعاملات رائجاً فيهم شائعاً بينهم. ثم دعاهم ثانياً بقوله:(وَلا تُفِسدُوا فِي الاَرضِ بَعدَ إِصلاَحِهَا) إلى الكف عن الافساد في الارض،بعدما أصلحها الله بحسب طبعها، والفطرة الانسانية الداعية إلى إصلاحها; كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة.
والافساد في الارض، وإن كان بحسب إِطلاق معناه يشمل جميع المعاصي والذنوب ممّا يتعلق بحقوق الله، أو بحقوق الناس كائنة ما كانت، لكن مقابلته لما قبله وما بعده يخصه تقريباً بالافساد الذي يسلب الامن العام في الاموال والاعراض والنفوس، كقطع الطرق ونهب الاموال وهتك الاعراض وقتل النفوس المحترمة. ثم علل دعوته إلى الامرين بقوله: (ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ).
أمّا كون إيفاء الكيل والميزان، وعدم بخس الناس أشياءهم، خيراً; فلان حياة الانسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الافراد، بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، وأخذ ما يعادله، ممّا يتمم به نقصه في ضروريات الحياة وما يتبعها، وهذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الاشياء ومقاديرها على ماهي عليه. فمن يجوّز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوّز ذلك لكل من هو مثله، وهو شيوعه، واذا شاع البخس والغش والغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء والردي مكان الجيد، والخليط مكان الخالص، وبالاخرة كل شيء محل كل شيء بأنواع الحيل والعلاجات، كان فيه هلاك الاموال والنفوس جميعاً.
وأما كون الكف عن إفساد الارض خيراً لهم; فلان سلب الامن العام يوقف رحى المجتمع الانساني عن حركتها من جميع الجهات، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل وفناء الانسانية»(3).
ونلاحظ في قوم موسى(عليه السلام) أنه عندما استسقى لهم في التيه، استجاب الله سبحانه
ـــــــــــــــ
(1) الاعراف: 74.
(2) الاعراف، 85.
(3) الميزان، ج 8، ص 186.
دعاءه، فذكرهم بنعمة الله ونهاهم عن الفساد: (كُلُوا واشرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَوا فِي الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ)(1) «أي لاتطغـوا ولاتسعوا في الارض فساداً. وأصل العثاث : شدة الفساد»(2).
ولكن قارون لم يكن من أولئك الممتثلين لهذا النهي، ولم يستمع لنصيحة قومه، حيث طلبوا منه الاحسان وعدم الفساد في الارض، فكان ما كان: (وَأَحسِنْ كَمَا أَحسَنَ اللهُ إلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللهَ لايُحِبُ المُفسِدِينَ)(3).
ثانياً: عدم اتباع سبيل المفسدين. وليس في اتباعهم إلاّ الشر والرذيلة وحب الدنيا والجاه، وهو أمر يؤدِّي إلى هلاك الانسان وخسرانه. وكم في معاشرة أصحاب السوء من مخاطر، وكم حذر منهم الانبياء والاوصياء.
لقد استخلف موسى أخاه هارون على بني اسرائيل، ونصحه أن يقوم على شؤونهم ويصلح أمورهم، وحذَّره من طبيعتهم التي هي إلى الفساد أميل: (وقَالَ مُوسى لاخِيهِ هارُونَ اخْلُفْني في قَوْمِي وأَصْلِحْ وَلاتَتَّبِع سَبِيلَ المُفْسِديِنَ)(4)، «فهو أمر له بالاصلاح وألا يتبع سبيل أهل الفساد، وهارون نبي مرسل معصوم لاتصدر عنه المعصية ولا يتأتى منه اتّباع أهل الفساد في دينهم، وموسى(عليه السلام) أعلم بحال أخيه، فليس مراده نهيه عن الكفر والمعصية، بل ألاّ يتبع في إدارة أمور قومه ما يشير إليه ويستصوبه المفسدون من القوم أيام خلافته مادام موسى غائباً.
ومن الدليل عليه قوله: (وأصلح)، فإنه يدل على أن المراد بقوله: (ولا تتبع سبيل المفسدين) أن يصلح أمرهم، ولا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الذي يستحسنونه، ويشيرون إليه بذلك.
ومن هنا يتأيد أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين، يفسدون ويقلبون عليه الاُمور ويتربَّصون به الدوائر، فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم، فيشوشوا عليه الامر، ويكيدوا ويمكروا به، فيتفرق جمع بني إسرائيل ويتشتت شملهم بعد تلك المحن والاذايا التي كابدها في إحياء كلمة الاتحاد بينهم»(5).
ولكي لاينخرط المرء في سبيل المفسدين، أو يكون في موقع المؤيد، أو الساكت عنهم أو المتبع لهم، لابَدّ ألاّ يُخدع بشعاراتهم البراقة التي يستخدمونها في سبيل تحقيق مآربهم عن طريق الكلمات الرنانة، فإنَّ المفسدين أهل اختصاص في الرياء وزخرف القول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياةِ الْدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَافِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام * وَإِذا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)(6).
ــــــــــــــــ
(1) البقرة: 60.
(2) التبيان، ج 1 ، ص 271.
(3) القصص: 77.
(4) الاعراف: 142.
(5) الميزان، ج 8، ص 325.
(6) البقرة: 204 ـ 205.
إنَّ مثل هذا الانسان يظهر التودد والحب والعطف والخير والحنان، ولكنه ثعبان سام قاتل، يتحينّ الفرص للغدر والفساد، ومثل هذا الانسان أخطر من أولئك الظاهرين في عداوتهم وفسادهم، وذلك لوضوحهم وتظاهرهم بالفساد.
أمّا هذا الانسان الذي تتحدث عنه الاية فإنه: (يُعجِبُك) «أعجبه الشيء أي راقه وسرّه، وقوله:(فِي الحَياةِ الدُّنيا) متعلق بقوله: (يعُجِبُك)، أي إنّ الاعجاب في الدنيا من جهة أنّ هذه الحياة نوع حياة لاتحكم إلا على الظاهر، وأمّا الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب لايشاهده الانسان، وهو متعلق الحياة بالدنيا، إلاّ أن يستكشف شيئاً من أمر الباطن من طريق الاثار، ويناسبه ما يتلوه من قوله تعالى: (وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلبهِ)، والمعنى: أنه يتكلم بمايعجبك كلامه، ممّا يشير به إلى رعاية جانب الحق، والعناية بصلاح الخلق، وتقدم الدين والاُمة، وهو أشد الخصماء للحق خصومة.
وقوله: (أَلَدُّ)، أفعل التفضيل، من لدّ لدوداً إذا اشتد خصومةً، والخصام: جمع خصم، كصعب وصعاب وكعب وكعاب.
وقيل: الخصام مصدر، ومعنى (أَلَدُّ الخِصَام) أشد خصومة.
قوله تعالى: (وإِذا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَرضِ ليُفسِدَ فِيهَا) إلى آخره، التولي: هو تملّك الولاية والسلطان، ويؤيده قوله تعالى في الاية التالية: (أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالاِثمِ)(1)، الدال على أنَّ له عزة مكتسبة بالاثم الذي يأثم به قلبه، غير الموافق للسانه.
والسعي هو العمل والاسراع في المشي.
فالمعنى: وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل واُوتي سلطاناً وتولى أمر الناس، سعى في الارض ليفسد فيها. ويمكن أن يكون التولّي بمعنى الاعراض عن المخاطبة والمواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدّل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الارض لاجل الفساد والافساد.
قوله تعالى: (وَيُهلِكُ الحَرْثَ وَالَنَسلَ)، ظاهره أنَّه بيان لقوله تعالى: (ليُفسِدَ فِيهَا) أي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولمّا كان قوام النوع الانساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد، فهما الركنان القويمان اللذان لاغناء عنهما للنوع في حال.
أمّا التوليد فظاهر، وأمّا التغذي فإنما يركن الانسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات،فالنبات هو الاصل،ويستحفظ بالحرث،وهو تربية النبات;فلذلك علّق الفساد على الحرث
ـــــــــــــ
(1) البقرة: 206.
والنسل، فالمعنى: أنه يفسد في الارض بإفناء الانسان وابادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.
قوله تعالى: (وَالله لاَيُحِبُ الفَسَادَ)، المراد بالفساد ليس ماهو فساد في الكون والوجود (الفساد التكويني)، فإن النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء، ولا كون إلاّ بفساد، ولا حياة إلاّ بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، وحاشا أن يبغض الله سبحانه ماهو مقدِّره وقاضيه.
وإنما هو الفساد المتعلق بالتشريع، فإن الله إنما شرّع ما شرّعه من الدين ليصلح به أعمال عباده، فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم، فيعتدل بذلك حال الانسانية والجامعة البشرية، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الاخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الارض بالفساد، فإنما يفسد بما ظاهره الاصلاح، بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عمّا هو عليه، والتصرّف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الاخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الانسانية، وفساد الدنيا.
وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الاُمة الاسلامية، وتصرفهم في أمر الدين والدنيا، بما لم يستعقب للدين إلا وبالاً، وللمسلمين إلاّ انحطاطاً، وللامّة إلاّ اختلافاً، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، ولم يجعل الانسانية إلاّ خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الارض، وذلك بهلاك الدين أولاً، وهلاك الانسانية ثانياً، ولهذا فُسر قوله: (وَيُهِلكُ الحَرثَ وَالنَسلَ) في بعض الروايات بهلاك الدين والانسانية»(1).
أسبابه
السبب الاول: عبادة غير الله
يقول تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يِصِفُونَ)(2)والضمير في: (فيهما) راجع إلى السماء والارض (يعني في السماء والارض آلهة، أي من يحق له العبادة (غير الله لفسدتا); لانه لو صح إلاهان أو آلهة لصح بينهما التمانع، فكان يؤدي ذلك إلى أن أحدهما إذا أراد فعلاً وأراد الاخر ضده، إما أن يقع مرادهما، فيؤدي إلى
ـــــــــــــ
(1) الميزان، ج 2، ص 95 ـ 97.
(2) الانبياء: 22.
اجتماع الضدين أو لا يقع مرادهما، فينتقض كونهما قادرين، أو يقع مراد أحدهما، فيؤدي إلى نقض كون الاخر قادراً، وكل ذلك فاسد، فإذاً لايجوز أن يكون الاله إلاّ واحداً.
ثم نزّه تعالى نفسه عن أن يكون معه إله يحق له العبادة، بأن قال: (فَسُبحَانَ الله رَبِّ العَرشِ عمّا يَصِفُونَ)، وانما أضافه إلى العرش لانه أعظم المخلوقات، ومن قدر على أعظم المخلوقات كان قادراً على مادونه.
قال الرماني: (إِلاَّ) في قوله: (إلاَّ اللهُ) صفة، وليست باستثناء، لانك لا تقول: لو كان معنا إلا زيد لهلكنا على الاستثناء، لان ذلك محال، من حيث أنك لم تذكر ما تستثني منه كما لم تذكره في قولك: كان معنا إلا زيد، فهلكنا. قال الشاعر:
وكلُ أخ مفارِقُهُ أخوهُ لعمرُ أبيكَ إلاّ الفرقدانِ
أراد: وكل أخ يفارقه أخوه غير الفرقدين)(1).
«إن النزاع بين الوثنيين والموّحدين... ليس في وحدة الاله وكثرته، بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته، الموجد لغيره، فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، وانما النزاع في الاله بمعنى الرب المعبود، والوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة، مقرَّبين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبّادهم عند الله ويقرّبوهم إليه زلفى كرب السماء ورب الارض ورب الانسان وهكذا، وهم آلهة من دونهم، والله سبحانه إله الالهة، وخالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: (وَلَئن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللهُ)(2)، وقوله: (وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ)(3).
والاية الكريمة إنما تنفي الالهة من دون الله في السماء والارض بهذا المعنى، لا بمعنى الصانع الموجد، الذي لا قائل بتعدده، والمراد بكون الاله في السماء والارض تعلّق اُلوهيته بالسماء والارض، لاسكناه فيهما، فهو كقوله تعالى: (وَهَوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الارضِ إِلَهٌ)(4).
وتقرير حجة الاية: أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتاً، متبائنين حقيقة، وتباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فتتفاسد التدبيرات، وتفسد السماء والارض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الاجزاء في غاياتها، فليس للعالم آلهة فوق الواحد، وهو المطلوب.
فإن قلتَ: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الاسباب والعلل، وتزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد.
ــــــــــــــ
(1) التبيان في تفسير القرآن، ج 7، ص 238، بتصرف.
(2) الزخرف: 87.
(3) الزخرف: 9.
(4) الزخرف: 84.
قلتُ: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدّد بعض أثر بعض، وينتج الحاصل من ذلك، وما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل، فإن العلل والاسباب الراسمة لهذا النظام العام ـ على اختلافها وتمانعها وتزاحمها ـ لا يبطل بعضها فعالية بعض، بمعنى أن ينتقض بعض القوانين، الكلية الحاكمة في النظام ببعض، فيتخلف عن مورده مع اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع، فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر، بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع والانخفاض، فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان، ويخدمانه في سبيل غرضه، وهو تعديل الوزن بواسطة اللسان.
فإن قلت: آثار العلم والشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون، فالرب المدبر له يدبره عن علم، واذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد، يدبرون أمر الكون تدبيراً تعقلياً، وقد توافقوا على ألاّ يختلفوا ولا يتمانعوا في تدبيرهم حفظاً للمصلحة؟
قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبّق أفعالنا الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة; لتلائم أجزاء الفعل وانسياقه إلى غايته، وهذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية، والنظام الجاري فيها الحاكم عليها، فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية وهي تابعة للنظام الخارجي. لكن الرب المدّبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعاً للقوانين العقلية وهو متبوع، فافهم ذلك.
فهذا تقرير حجة الاية، وهي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدلّ على أن التدبير العام الجاري ـ بما يشتمل عليه ويتألف منه من التدابير الخاصة ـ صادر عن مبدأ واحد غير مختلف»(1).
السبب الثاني: اتّباع الحق للباطل
يقول تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهَوَاءَهُم لَفَسَدَتِ السَّمَاواتُ والاَرضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكرِهِم فَهُم عَن ذِكرِهِم مُّعْرِضُونَ)(2).
وفي هذه الاية الكريمة يتعرض القرآن إلى سبب خطير من أسباب الفساد، الذي بإمكانه أن يؤثِّر في الوجود ككل، وهذه دلالة على تأثير المعصية في الكائنات والمحيط الذي حول الانسان، فإن مردود ما يفسده ليس على نفسه فقط، وإنما على ما حوله أيضاً.
ومن هنا ينبغي أن يكون الحق متبوعاً لا تابعاً، وإنما كره البعض الحق لانه لا يوافق
ـــــــــــــــ
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 14، ص 266 ـ 268.
(2) المؤمنون: 71.
أهواءهم وميولاتهم: (وأَكْثرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(1).
«وقيل: الحق مايدعو إلى المصالح والمحاسن، والاهواء ما يدعو إلى المفاسد والمقابح، ولو اتبع الحق داعي الهوى لدعا إلى المقابح، ولفسد التدبير في السماوات والارض; لانها مدبرّة بالحق لا بالهوى.
وقيل: معناه لفسدت أحوال السماوات والارض; لانها جارية على الحكمة لا على الهوى.
(وَمَن فِيهِنَّ)، أي ولفسد من فيهن. وهو إشارة إلى العقلاء من الملائكة والانس والجن.
وقال الكلبي: وما بينهما من خلق فيكون عاماً. ووجه فساد العالم بذلك أنه يوجب بطلان الادلة وامتناع الثقة بالمدلول عليه، وألاّ يوثق بوعد ولا وعيد، ولا يؤمن انقلاب عدل الحكيم.
(بَلْ أَتَينَاهُم بِذِكرِهِم)، أي بما فيه شرفهم وفخرهم; لان الرسول(صلى الله عليه وآله) منهم والقرآن بلسانهم.
(فَهُم عَن ذِكرِهِم)، ـ أي شرفهم ـ (مُّعرِضُونَ)، وبالذل راضون»(2).
إنَّ الحق يتمثل في وحدة النظام في خلق الله، فلا يمكن أن ينتظم كل الكون إلاّ بانتظام حياة الانسان المكرّم بين الكائنات، وأن يترك هو وأهواءه في فوضويته التي لاتنتهي; لعدم وجود حد للاهواء أو نهاية، وكم يأنس الانسان من حيث لايشعر بخطورة هذا الامر لو خلّي كالبهيمة في أهوائه.
«(وَلَو اتَّبَعَ الحَقُّ أَهوَاءَهُم) فتُركوا وما يهوونه، إذ لو اتبع الحق أهواءهم فتركوا وما يهوونه من الاعتقاد والعمل، فعبدوا الاصنام واتخذوا الارباب ونفوا الرسالة والمعاد، واقترفوا ما أرادوه من الفحشاء والمنكر والفساد، جاز أن يتّبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة، والنظام الذي يجري فيها بالحق إذ ليس بين الحق والحق فرق، فاُعطي كل منهم ما يشتهيه من جريان النظام، وفيه فساد السماوات والارض ومن فيهن، واختلال النظام وانتقاض القوانين الكلية الجارية في الكون، فمن البيّن أنَّ الهوى لايقف على حد ولا يستقر على قرار.
وبتقرير آخر أدق وأوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيم: إن الانسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام، وله في نوعيته غاية هي سعادته، وقد خُطَّ له طريق إلى سعادته وكماله، ينالها بطيِّ الطريق المنصوب إليها، نظير غيره من الانواع الموجودة. وقد جهَّزه الكون العام وخلقته الخاصة به من القوى والالات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها، وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.
ــــــــــــــــ
(1) المؤمنون: 70.
(2) مجمع البيان، ج 7، ص 150.
فالطريق التي تنتهي بالانسان إلى سعادته ـ أعني الاعتقادات والاعمال الخاصة المتوسطة بينه وبين سعادته، وهي التي تسمّى الدين وسنة الحياة ـ متعيّنة حسب اقتضاء النظام العام الكوني والنظام الخاص الانساني الذي نسميه الفطرة، وتابعة لذلك.
وهذا هو الذي يشير تعالى إِليه بقوله: (فَأَقِم وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَر النَّاسَ عَلَيها لاَتَبدِيلَ لِخلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)(1).
فسنّة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الانسانية طريقة متعيّنة يقتضيها النظام بالحق، وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق، وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيّرة التي تحكم في النظام الكوني، الذي أحد أجزائه النظام الانساني، وتُدبره وتَسوقه إلى غاياته، وهو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتماً مقضياً.
فلو اتبع الحق أهواءهم، فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم، لم يكن ذلك إلاّ بتغيّر أجزاء الكون عمّا هي عليه، وتبدل العلل والاسباب غيرها، وتغيّر الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلّة متدافعة، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم. وفي ذلك فساد السماوات والارض ومن فيهن في أنفسها والتدبير الجاري فيها; لان كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين، والخلق والامر متصلان غير منفصلين»(2).
السبب الثالث: المتسلطون الجائرون
يقول تعالى: (قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(3).
وتركز الاية الكريمة على نتيجتين طبيعيتين عندما يحصل هجوم عسكري أو غزو من طرف على آخر، خاصة إذا كان بغتةً، أو كان الطرف المهاجم أقوى، وهذا ما خافت منه ملكة سبأ بلقيس.
النتيجة الاولى: الفساد من جميع النواحي التي يمكن أن يتصورها الانسان خاصة إذا كان العدو يحمل حقداً في قلبه أو يريد الانتقام.
يقول علي أمير المؤمنين(عليه السلام) في (نهج البلاغة)، مستنهضاً الناس حين ورد خبر غزو الانبار بجيش معاوية: (أغزُوهُم قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَواللهِ ما غُزِي قَومٌ قَطُ في عُقرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلو، فَتَواكَلْتُم وَتَخَاذَلْتُم حَتَّى شُنَّتْ عَلَيَكُمُ الْغَارات، ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الاوطانُ، وهذا أَخُو غَامد وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الاَنْبَارَ، وقد قتل حسَّان بن حسَّانَ البكرِيّ، وأزَالَ خَيْلَكُمْ عن مَسَالِحِها.
ولقد بلغني أنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المرأَةِ المسْلِمَةِ، والاُخْرَى الْمُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ
ــــــــــــــــ
(1) الروم: 30.
(2) تفسير الميزان، ج 15، ص 46 ـ 47.
(3) النمل: 34.
حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وقَلاَئِدَهَا وَرُعُثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَالاستِرحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ)(1).
رجل التخريب والعصابات
جهَّز معاوية في حكمه العديد من العصابات التخريبية لملاحقة المؤمنين، ومَن والى علياً، ونهب أموالهم ودمَّر مساكنهم ومزارعهم، وعاث في الارض فساداً ردحاً من الزمن، ولم يكن يأنس ضميره أو ترتاح نفسه أو ينتشي رأسه إلاّ بذلك، وكان من تلك العصابات المخرِّبة والمجهزة للاغتيالات عصابة برئاسة يزيد بن شجرة، وثانية بقيادة عبد الرحمان بن قباث، وثالثة لزهير بن مكحول، ورابعة لمسلم بن عقبة، وخامسة لعبد الله بن مسعدة، بل قاد هو بنفسه عصابة للتخريب، وسار بها حتى شارف دجلة(2).
كان هذا السيل من العصابات يتدفق ولا ينقطع في ليل ولا نهار على بلاد الامام، وكانت هذه العصابات تحسن الحرق والتقتيل والاغتيال والغارة على القوافل، والبيوت الامنة، قال العقاد يصف أعوان الاُمويين: «كانوا جلاّدين وكلاب طراد في صيد كبير»، وقال جرداق: «أعوان الاُمويين فريقان: فريق اجتذبته الرشوة وما أرخصها ثمناً للضمائر التي تباع! وفريق تمرّس بالخسّة وكره الخيِّرين من الناس»(3).
سفيان الغامدي
وقول الامام(عليه السلام): «وهذا أَخُو غَامد، وَقَد وَرَدَتْ خَيلُهُ الاَنبارَ»، يعني: سفيان بن عوف ابن المغفل الغامدي. دعاه معاوية، وقال له: «إني باعثك في جيش كثيف، ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات، حتى تمر بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغِر عليهم، وإلاّ فامضِ حتى تغير على الانبار، فإن لم تجد»...(4).
بسر بن أرطاة
بسر بن أرطاة العامري، من بني عامر بن لؤي بن غالب. بعث له معاوية ليغير على أعمال أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكان قاسي القلب فظاً سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة. فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: «لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلاّ بسطت عليهم لسانك، حتى يروا أنهم لانجاء لهم، وأنك محيط بهم، ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا».
ــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة، خ 27.
(2) الكامل في التاريخ، ج 3، ص 39، باختصار.
(3) الشيعة والحاكمون، ص 55.
(4) شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 85.
وبعثه إلى مدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ثلاثة آلاف وقال له: سر حتى تمر بالمدينة، فاطرد الناس، وأخِفْ من مررت به، وانهب أموال كل من أصبت له مالاً; ممّن لم يكن داخلاً في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة، فأرهم أنك تريد أنفسهم، وأخبرهم أنه لا براءة لهم عندك ولا عذر، حتى إذا ظنوا أنك موقعٌ بهم فاكفف عنهم، ثم سر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لاحد، وأرهب الناس عنك فيما بين المدينة ومكة، واجعلها شُرُداً، حتى تأتي صنعاء والجند، فإن لنا بها شيعة، وقد جاءني كتابهم(1).
فساروا حتى دخلوا المدينة، وعامل علي(عليه السلام) أبو أيوب الانصاري، فخرج عنها هارباً، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم وتوعَّدهم، وقتل خلقاً كثيراً. وقتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً.
ولما بلغ الخبر علياً أنفد جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، وحين علم بسر بخبر حارثة فر هارباً(2).
ثم توجه إلى مكة ليواصل رحلته الاجرامية الدموية، متعدياً على البلد الامن أهله، كما أن أهل مكة لمّا بلغهم ماصنع بُسر، خافوه وهربوا، فخرج ابنا عبيدالله بن العباس، وهما سليمان وداود ـ واُمهما جُويرية ابنة خالد بن قرظ الكنانية، وتكنَّى أم حكيم، وهم حلفاء بني زهرة وهما غلامان ـ مع أهل مكة، فأضلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي، وهجم عليهما بسر، فأخذهما وذبحهما، فقالت أمهما:
هَامنْ أَحَس بإبنيّ اللَّذَيْن هما كالدّرتْين تَشَظّى عنهما الصَّدَف
هَامنْ أحس بإبنيّ اللَّذَين هما سمعِي وقلبي; فقْلبي اليومَ مُخْتَطفُ
هَامنْ أحس بإبنيّ اللَّذين هما مُخّ العِظامِ، فمخّي اليومَ مزدهَف
نُبِّئتُ بسراً وما صدّقتُ مازعموا من قَوْلِهِمْ ومن الافْكِ الذي اقْتَرَفُوا
أنْحَى عَلى وَدَجَي ابنيَّ مُرهَفةً مشحوذةً، وكذاكَ الاثمُ يُقْتَرَفُ
من دَلَّ والهة حَرّى مُسَلّبةً على صبّيينِ ضلاّ إذ مضى السلف(3)
ثم دخل الطائف، ونجران، وصنعاء فتابعه ابن قدامة بجيشه حتى فر من الامصار، ولجأ إلى معاوية، حاملاً معه العار والشنار بما فعل بدماء المؤمنين وأموالهم وأعراضهم.
وكان الذي قتل بسرٌ في وجهه ثلاثين ألفا، وحرق قوماً بالنار، فقال يزيد بن مفرِّغ:
ــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 2، ص 3 ـ 18، بتصرف.
(2) المسعودي، ج 3، ص 31 ـ 32.
(3) شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 13.
تَعَلَّقَ مِنْ أسْمَاءَ مَا قَدْ تَعَلَّقَا ومثلُ الذي لاقَى من الشوق أَرَّقَا
سقى هَزِمُ الارعاد منبعِج الكُلَى منازلَها من مَسْرُقَانَ فَسُرَّقَا
إلى الشّرف الاعلى إلى رامَ هُرْمُز إلى قَرَيَات الشَّيْخِ من نهر أرْبَقَا
إلى دشْتِ بارِين إلى الشَّطِّ كُلِّه إلى مجمع السُّلاَّن من بطن دَوْرَقا
إلى حيث يُرْفى من دُجَيْل سفينُهُ إلى مجمع النهْرين حيثُ تفرّقا
إلى حيث سار المرء بُسرٌ بجيِشه فقتَّل بُسْرٌ ما استطاع وحَرّقا
ودعا عليّ(عليه السلام) علَى بُسْر، فقال: «اللهم إنّ بُسْراً باع دينَه بالدنيا، وانتهك محارمَك، وكانت طاعةُ مخلوق فاجر آثرَ عنده مّمِا عندك، اللّهمّ فلا تُمِتْه حتى تَسْلُبَه عقلَه، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار. اللهمّ العن بُسْراً وعَمْراً ومعاوية، وليْحُلَّ عليهم غضبُك، ولْتنزل بهم نِقْمَتُك، ولْيصِبْهم بأسُك ورِجْزُك الذي لاتردّه عن القوم المجرمين».
فلم يلبثْ بُسْرٌ بعد ذلك إلاّ يسيراً حتى وسوس وذهب عقلُه، فكان يهذِي بالسيف، ويقول: اعطُوني سيفا أقتلْ به; لا يزال يردد ذلك حتى اتُّخِذ له سيف من خشب، وكانوا يدنون منه المِرْفقة، فلا يزال يضرِبُها حتى يُغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن مات.
قلت: كان مُسلم بن عُقْبة ليزيد، وما عمِل بالمدينة في وقعة الحرّة، كما كان بُسر لمعاوية وما عمل في الحجاز واليمن، ومن أشبه أباه فما ظلم.
إنّا وإن كَرُمَتْ أوائلنَا لَسْنَا عَلَى الاحْسَابِ نتّكِلُ نَبْنِي كَمَا كاَنَتْ أوائِلُنَا تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَافَعَلُوا(1)
وإنّه لامر عظيم على كل مؤمن حر، يحمل ضميراً حياً وإحساساً مرهفاً ومشاعر جياشة، ولكن الظالم قاسي القلب ميّت الاحساس، لا يشعر إلاّ بكرسيه الذي يقوم على دماء المستضعفين، وكتم أنفاسهم وسد أفواههم وغصب أموالهم، ولايمكن أن يرضى الحر بذلك، وهذا ما خافت منه ملكة سبأ، فليس بالهيّن على العزيز أن يكون ذليلاً، بل هذا أمر لا يرضاه الله ورسوله.
يقول الامام الحسين(عليه السلام): «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، ويأبى الله لنا ذلك وحجور طابت ونفوس أبية أن نؤثر طاعة اللئام على طاعة الكرام» ويقول(عليه السلام): «والله لا
ــــــــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة، ج2، ص17 ـ 18. باختصار.
اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا اُقر لكم إقرار العبيد، وإن هو إلاّ الموت والقدوم على رب كريم».
وفي سورة المنافقين نلاحظ الاية الكريمة: (يَقُولُونَ لَئنْ رَجَعْنَا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاَعزُّ مِنْهَا الاَْذَلَّ وللهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ وَللِمُؤْمِنِينَ ولكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَيَعْلَمُونَ)(1).
عبدالله بن اُبي
كان عبدالله بن اُبي سيتوَّج ملكاً على المدينة المنورة، ولكن قدوم الرسول(صلى الله عليه وآله)والاسلام إلى يثرب، أفسد عليه أمره، فأظهر الاسلام نفاقاً، وكان يتحين الفرص للانتقام من الرسول(صلى الله عليه وآله)والاسلام والمسلمين، وهذه الاية الكريمة تكلمت عن أحد هذه المواقف التي يَظن أنه سينجح فيها بما دبره من فتنة بين الانصار والمهاجرين، متغافلاً عن أن الله يأبى لرسوله وللمؤمنين الذلة.
قال المفسرون: «لهذه الاية قصة تتصل برأس النفاق عبدالله بن اُبي، وبغزوة بني المصطلق، وكانوا فرعاً من خزاعة يسكنون على مقربة من مكة، وقد عزَّ عليهم أن يكون للاسلام شأن في الجزيرة العربية، فتهيؤوا لحرب النبي(صلى الله عليه وآله) بقيادة زعيمهم الحارث ابن أبي ضرار. ولما علم النبي بادر إليهم بجيشه قبل أن يزحفوا إلى المدينة، وخرج ابن اُبي مع جيش المسلمين رغبة في الغنيمة، فنصر الله نبيه على أعدائه، وغنم الكثير من أموالهم، ورأى أن يُفضّل في العطاء الفقراء المهاجرين لينشلهم من الفقر، ويقرب الفوارق بين الاغنياء والفقراء، فامتلا عبدالله بن اُبي غيظاً، وأخذ يحرّض بعض الانصار، وقال فيما قال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل)، يريد الاعز نفسه وبالاذل النبي(صلى الله عليه وآله)، فنزلت هذه الاية، وتخاذل ابن اُبي، ولم يجد ما يتعلل به.
وقال كثير من المفسرين: إنه نطق بكلمة الكفر هذه لخلاف وقع بين أحد أتباعه وأجير لعمر بن الخطاب.
وكان لعبدالله بن اُبي ولد صالح، اسمه عبدالله أيضاً، ولما علم بأمر أبيه ذهب إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال له: لقد كان من أمر أبي ما قد علمت، فإن كنت تريد قتله فمرني وأنا أقتله; لاني أخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إِلى قاتل أبي، فأقتل مؤمناً بكافر وأدخل النار، فأجابه الرسول: «بل نرفق بأبيك ونحسن صحبته ما بقي معنا».
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، هذا رد على ابن اُبي الذي وصف نفسه بالاعز، وعزة الله سبحانه بأنه القاهر فوق عباده، وعزة الرسول بإظهار دينه على جميع الاديان وخذلان أعدائه ومحادّيه، أما عزة المؤمنين فبنصرة الحق وأهله.
(ولكن المنافقين لايعلمون) أنَّ العز بالايمان والتقوى»(2).
ــــــــــــــــ
(1) المنافقون: 8.
(2) التفسير الكاشف، ج 7، ص 333 ـ 334.
السبب الرابع: الاصرار على التمرد
يقول تعالى: (وإذا قِيَل لَهُمْ لا تُفسِدوُا في الارْضِ قالوا إنَّما نحْنُ مُصلِحونَ، ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفسدُونَ وَلكِنْ لاَيشعرُوُن)(1)، وقد نزلت هذه الايات في المنافقين(2). «وكان من جملة فسادهم في الارض:
1ـ تهيج الحروب والفتن، بمخادعة المسلمين، ومعاونة الكفار عليهم بإفشاء أسرارهم إليهم.
2ـ الاخلال بالشرائع التي برعايتها ينتظم العالم، بإظهار المعاصي.
3ـ الدعوة في السر إلى تكذيب المسلمين وجحد الاسلام، وإلغاء السنّة»(3).
ومع هذا يكون جوابهم بإصرار: (إنما نحن مصلحون) ظانين أنَّ هذا الكلام يمكن أن يكون مقبولاً عند المسلمين، فلا يمكن للمسلمين أن يحملوهم دائماً على الفساد، وليس هذا بغريب، فإنَّ المرء في بعض الاحيان يخترع المبررات لبعض أفعاله القبيحة، لكي يقنع ذاته بما يفعل وهو يعلم في بداية الامر أنَّه يغالط نفسه، ولكن سرعان ما يقتنع مع الوقت أن فعله صحيح وليس بخطأ، ومع الاسف هذا ما نجده عند البعض أحياناً.
المعروف منكراً
يشترك المنافقون كطابور خفي، والكفار كطابور ظاهر في هدف واحد، وهو محاربة الحق والصدُّ عنه، وعدم قبوله بحال من الاحوال، وهذا ما نجده ظاهراً في كل موقف يصطدم فيه الحق والباطل. كما نلاحظ القرآن استشهد على ذلك في موقف مع موسى(عليه السلام) حين جبهه بالحق، فأحس فرعون بالخطر المحدق به، ورغب في الانتقام الشنيع: (فَلَمَّا جَاءَهُم بِالَحْقِّ مِنْ عِنْدِنَا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيوا نساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَل * وَقالَ فِرْعونُ ذرُونِي أَقُتلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظِهرَ في الارْضِ الْفَسادَ)(4).
«فقد جاءهم بالحق، وكان من الواجب أن يقبلوه; لا نه حق، وكان ما جاء به من عند الله، وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه، فقابلوه بالكيد وقالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد، لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه»(5).
وعلى كل آمر بالمعروف وداعية للحق أن يتهيأ في مسيرته إلى دعايات المنافقين والملحدين، وإنَّ في زماننا الكثير من ذلك، لكل عامل في الساحة الاسلامية، وكل داعية في سبيل الله، ومصلح في مجتمعه. وهذا ما أشارت إليه روايات أهل البيت في آخر الزمان، فإنَّ المعروف ينقلب منكراً، والمنكر معروفاً، والله المستعان.
ــــــــــــــــ
(1) البقرة: 11 ـ 12.
(2) المجمع، ج 1، ص 61.
(3) كنز الدقائق، ج 1، ص 129، بتصرف.
(4) غافر: 25 ـ 26.
(5) الميزان، ج 17، ص 327.
وهنا لابد من أن يشعر المرء بما عليه عند تعاضد قوى الكفر والنفاق في مواجهة الحق، وأن يعمل بتكليفه الشرعي في مثل هذا المجتمع المريض، حتى لو استدعى الامر الهجرة في سبيل الله، لكي لايضطر إلى ولايتهم والتأثر بأخلاقهم.
وهنا يؤكد القرآن الكريم بعد ذم الذين لم يهاجروا قائلاً: (وَالَّذِينَ كَفَروُا بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْض إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الاَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)(1)، (فإن الولاية مما لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشرية، سيما المجتمع الاسلامي الذي اُسس على اتباع الحق وبسط العدل الالهي، كما أن تولي الكفار ـ وهم أعداء هذا المجتمع ـ يوجب الاختلاط بينهم، فيسري فيه عقائدهم وأخلاقهم وتفسد سيرة الاسلام المبنية على الحق بسيرهم المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان، وقد صدق جريان الحوادث في هذه الاونة، ما أشارت إليه هذه الاية)(2).
السبب الخامس: كثرة المعاصي
يقول تعالى: (ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ والبَحْرِ بما كَسَبَتْ أَيدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(3).
«الاية بظاهر لفظها عامة لاتختص بزمان دون زمان، أو بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر والبحر معناهما المعروف، ويستوعبان سطح الكرة الارضية.
والمراد بالفساد الظاهر: المصائب والبلايا الظاهرة فيهما، الشاملة لمنطقة من مناطق الارض، من الزلازل وقطع الامطار والسنين والامراض السارية والحروب والغارات وارتفاع الامن.
وبالجملة، كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الارضي سواء كان مستنداً إلى اختيار بعض الناس أو غير مستند إليه، فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر، مخل بطيب العيش الانساني.
وقوله: (بِمَا كَسَبَتَ أيدِي النِّاسِ) أي بسبب أعمــالهم التي يعملونها من شرك أو معصية»(4).
وسيأتي الحديث عن هذه النقطة في نتائج الفساد.
ــــــــــــــــ
(1) الانفال: 73.
(2) الميزان، ج 9، ص 142.
(3) الروم: 41.
(4) الميزان، ج 16، ص 195.
الفساد في المفهوم القرآني
ـ 2 ـ
نتائج الفساد لكل عمل نتيجة، ولا يجني المرء إلاّ ماكسبت يداه. وكما يؤثِّر الانسان بما حوله كذلك يتأثَّر به; فإنه مرتبط ومتعلِّق بهذا الكون بشكل كامل، حيث إنه جزء منه، فبالعمل الصالح يسمو إلى أعلى درجات الكمال حتّى يستطيع أن يؤثر في جزئياته، وبالعمل السيِّئ ينتهي إلى الحضيض، فينعكس ذلك سلبيّاً على كلِّ جوانب حياته . يقول الشاعر. إذا كنت في نعمة فارعها فإنّ المعاصي تزيل النعم (ومن أحكام الاعمال: أن بينها وبين الحوادث الخارجيَّة ارتباطاً، ونعني بالاعمال: الحسنات والسيِّئات التي هي عناوين الحركات الخارجيَّة، دون الحركات والسكنات التي هي آثار الاجسام الطبيعيَّة، فقد قال تعالى: (وما أصابكُم من مصيبة فبما كسَبتْ أيديكم ويعفو عن كثير)( الشورى: 30)، وقال تعالى: (إن اللهَ لايغيِّرُ مابقوم حتى يغيِّروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردَّ له)( الرعد: 11)، وقال تعالى: (ذلكَ بأنَّ الله لم يكُ مغيِّراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم)( الانفال: 53). والايات ظاهرة في أن بين الاعمال والحوادث ارتباطاً إما شرّاً، أو خيراً. ويجمع جملة الامر آيتان من كتاب الله تعالى، وهما قوله تعالى: (ولوأن أهلَ القرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكنْ كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسِبون)(الاعراف: 96)، وقوله تعالى: (ظهَر الفسادُ في البرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس ليذيقَهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون)(الروم: 41 ). فالحوادث الكونية تتبع الاعمال بعض التبعية، فجَرْيُ النوع الانساني على طاعة الله سبحانه، وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغيِّ والضلال، وفساد النيّات، وشناعة الاعمال، يوجب ظهور الفساد في البرِّ والبحر وهلاك الاُمم بفشوِّ الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الانسان وأعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونيَّة كالسيل، والزلزلة، والصاعقة، والطوفان، وغير ذلك. وقد عدَّ الله سبحانه سيل العرم، وطوفان نوح، وصاعقة ثمود، وصرصر عاد من هذا القبيل. فالاُمَّة الصالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها، وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى: (أولم يسيروا في الارضِ فينظُروا كيف كان عاقبةُ الَّذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشدَّ منهم قوَّة وآثاراً في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وماكان لهم من الله من واق)( المؤمن: 21)، وقال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلكَ قريةً أمرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمرناها تدميراً)(الاسراء: 16 )»(1). ومن خلال البحث توصلنا إلى أن للفساد عدة نتائج : النتيجة الاُولى: العقوبات الاربع، وهي: أولاً: القتل. ثانياً: الصلب. ثالثاً: قطع الايدي والارجل من خلاف، أي القطع من جانب مخالف للاخر كاليد اليمنى والرجل اليسرى. رابعاً: النفي من الارض، وهو الطرد والتغييب. وهذه العقوبات هي المذكورة في قوله تعالى: (إنما جزاءُ الَّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفَوا من الارض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم)( المائدة: 33 ). (والمراد بالمحاربة والافساد هنا، هو الاخلال بالامن العام، والامن العام إنما يختلُّ بإيجاد الخوف العام وحلوله محله، ولايكون بحسب الطبع والعادة إلا باستعمال السلاح المهدد بالقتل طبعاً)(2). وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوم من بني ضبَّة مرضى، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم في سرية، فقالو: أخرجنا من المدينة. فبعث بهم إلى إبل الصدقة، يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها. فلما برؤوا واشتدُّوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الابل، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبعث إليهم عليّاً (عليه السلام) وإذا هم في واد قد تحيروا، ليس يقدرون أن يخرجوا منه، قريباً من أرض اليمن، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزلت هذه الاية)(3) كما تحدثت الاية الكريمة عن عقوبتين إضافيتين. الاولى: الخزي في الدنيا، (ذلك لهم خزي في الدنيا) وهو الفضيحة. الثانية: العذاب العظيم في الاخرة (ولهم في الاخرة عذاب عظيم). (وقد استدل بالاية على أن جريان الحدِّ على المجرم لايستلزم ارتفاع عذاب الاخرة)(4). التوبة قبل القبض العقاب الدنيوي لا يسقط العقاب الاُخروي، ولكي لا تغلق الطرق أمام الجاني المتمرِّس والمحترف، فتحت الشريعة طريق التوبة أمامه; ليستنقد نفسه من براثن العبوديَّة للشهوات والغرق في وحل المعصية، ومن قذورة الانحراف، وبشاعة القصاص، إلى التوبة والاستقامة. يقول تعالى بعد أن ذكر جزاء المفسدين في الاية السابقة: (إلاّ الَّذين تابوا من قبلِ أن تقدروا عليهم فاعلموا أن اللهَ غفورٌ رحيمٌ)( المائدة: 34 ).
حارثة التيمي (كان حارثة بن بدر التيمي ـ من أهل البصرة ـ قد أفسد في الارض وحارب، وكلَّم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له عليّاً فأبوا، فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فأتى عليّاً فقال : ياأمير المؤمنين ماجزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً ؟ قال: (أن يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض) ثم قال: (إلا الذين تابو من قبل أن تقدروا عليهم). فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً فهو آمن ؟ قال: «نعم». قال: فجاء به إليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أماناً)(5) النتيجة الثانية: حرمان الحب الالهي. ويعتبر حرمان الحب الالهي من النتائج السيِّئة للفساد; إذ هو من علامات عدم رضا الخالق سبحانه وتعالى، ودليل على نقمته، وهذا ما أحسَّ به قوم قارون عندما طغى وتمرَّد، فقدَّموا له النصائح الخمس، الواردة في قوله تعالى: (وابتغِ فيما آتاك اللهُ الدارَ الاخرةَ ولاتنسَ نصيبك من الدنيا وأحسنْ كما أحسن اللهُ إليكَ ولاتبغِ الفسادَ في الارض إنّ الله لايحب المفسدين)(القصص: 77). (وكان قارون من بني إسرائيل; لانه من قوم موسى. وقيل: ابن عمه. وهو واضع اُسس الـرأسمالية المستبدَّة أو ممثِّلها; لانه احتكر المال، وتسلَّط على قومه مبرِّراً ذلك بقوله: (إنما اُوتيـتهُ عـلى علم عندي)(القصص: 78) وهذا هـو المذهـب الاقـتصادي القائل: الفرد أولاً والمجتمع ثانياً)(6). هذا وقد قدَّم له قومه النصيحة الخامسة، ناهين إيّاه عن الفساد الَّذي يعني الجور والخيانة، والتكبر والتجبر، والعيش في الاسراف والبذخ.
(1) تفسير الميزان 2: 108 - 181.
(2) تفسير الميزان 5: 327 .
(3) الكافي 7:245/1.
(4) تفسير الميزان 5: 327 .
(5) الدر المنثور 2:494.
(6) تفسير الكاشف 6: 86.