سماحة الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
إعداد: السيد منذر الحكيم
عرفنا أنّ لكل نظام أخلاقي نظرية أخلاقية يعتمد عليها ويستمد قيمته منها، وعرفنا أيضاً أنّ لكل نظرية مبادئ تبتني عليها وتنطلق منها. والمبادئ هذه منها ما هو عام تشترك فيه كل النظريات الاخلاقية، ومنها ما تختص به كل نظرية لنفسها.
وعرفنا أنّ المبادئ العامة لكل النظريات الاخلاقية هي:
1 ـ إنّ الانسان كائن حرّ في سلوكه.
2 ـ لكل إنسان هدف أقصى يسعى إليه في الحياة.
3 ـ قدرة الانسان على الوصول الى الكمال اللائق به.
4 ـ إنّ مصير الانسان من سعادة أو شقاء معلولان لسلوكه الاختياري.
وقد عرفنا موقف القرآن الكريم من حرية الارادة الانسانيّة، ونريد الان أن نعرف موقف القرآن الكريم من الكمال البشري كمبدأ أساسي من مبادئ النظرية الاخلاقية القرآنية، وموقفه من تعيين الكمال اللائق بالانسان:
قال تعالى: يَوْمَ يأتِ لا تَكَلّمُ نَفْسٌ إلاّ بإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسعيد * فأمّا الّذينَ شَقُوا ففي النّارِ... وَأمّا الّذينَ سُعِدوا فَفي الجنّةِ خالِدينَ فيها ما دامَت السّمواتُ والارْضُ إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عطاءً غَيْرَ مَجْذوذ[1].
وقال: قالَ اللّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادقينَ صَدْقَهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجري مِنْ تَحْتِها الانهارُ خالِدينَ فيها أبَداً رضي اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضوا عَنْهُ ذَلك الفَوْزُ العَظيم[2].
وقال: لَكِن الرّسولُ وَالّذينَ آمَنوا مَعَهُ جاهَدوا بأمْوالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ وَاولئِكَ هُم المُفْلِحون * أعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّات تَجري مِنْ تَحْتِها الانهارُ خالِدينَ فِيها ذَلِكَ الفَوْزُ العَظيم[3].
للكمال البشري مفهوم واحد واضح لا يختلف فيه اثنان، كما لا يختلف الناس في فهم معنى الوجود والنور. وإنّما الاختلاف كلّ الاختلاف في مصاديق الكمال. فقد يرى البعض شيئاً مصداقاً للكمال، ولا يراه الاخر مصداقاً لذلك.
إنّ لكل انسان مثلاً أعلى في الحياة يسعى حثيثاً للوصول إليه، فهو يستهدفه في حياته، ويكون جامعاً لاماله، ويكون هو الدافع العميق والاصيل في وجوده في كلّ تصرّفاته وطموحاته.
فالكمال هو القمّة التي يتحرّك باتجاهها الانسان في حياته. ولا نكاد نجد إنساناً ليس له طموح في الحياة، أوله طموح لامر مجهول في قرارة نفسه.
إنّ كلّ إنسان مفطور على حبّ ذاته، فهو يحب أن يكون سعيداً وفائزاً في كل شؤون الحياة. ولهذا يصحّ أن نقول إنّ كلّ انسان ـ مهما كانت رؤيته نحو الكون والحياة ـ يريد الفوز والفلاح في الحياة.
إذاً الفوز والسعادة والفلاح كلمات تعبّر عن مفهوم مشترك يقصده كل إنسان حينما يبدأ حياته الشعورية، ويبدأ سعيه الحثيث نحو الكمال نحو ما يراه كمالاً له وسعادة وفلاحاً.
إنّ الكمال مطلوب لكل انسان، ولا يمكن أن نتصوّر من يغفل عن ذلك أو يتنازل عنه. إنّ الناس بالرغم من اختلاف درجات ثقافتهم واتجاهاتهم وعقائدهم في الحياة، فإنّهم لا يختلفون في امتلاك هذا الطموح نحو الكمال.
إنّ الطموح نحو الكمال مع المثل الاعلى الذي يختاره الانسان في حياته هو الذي يفسّر لنا كل عمل يصدر من الانسان باختياره، ويكون هو الداعي القريب أو البعيد لايجاده.
وقد أوضح لنا القرآن الكريم موقفه من هذا المبدأ من خلال:
1 ـ تعليله لضرورة اكتساب الايمان بالله تعالى، والعمل الصالح في الحياة الدنيا بأنـّهما معاً ينتجان الفوز والفلاح الابديين، وتعليله لضرورة اجتناب الكفر والشرك والنفاق والفسق بأنـّها توجب الخيبة والخسران والشقاء الابدي.
2 ـ وهكذا تعليله لوجوب الصوم بأنـّه يحقق للمؤمن مَلَكة التقوى، ثمّ تعليله للزوم تحصيل التقوى بأنـّه يؤدّي الى الفلاح. بينما لم يعلّل القرآن ضرورة تحصيل الفلاح أو ضرورة التخلّص من الشقاء.
إنّ تعليل الاحكام الالهيّة وتعليل السلوك البشري وتوجيهه وجهة تؤدي إلى الفوز والفلاح وتبعده عن الخسران والشقاء... إلى جانب السكوت عن تعليل لزوم تحصيل السعادة... كلّ هذا يفيدنا ما يلي:
1 ـ إنّ مطلوبية السعادة والفوز والفلاح التي هي تعبير آخر عن الكمال المنشود لكل إنسان لا تحتاج الى تعليل لانـّها مطلوبية ذاتية. فإن كل انسان ذي شعور وعقل وإرادة إنّما يكدح في الحياة لاجل تحصيل الكمال الذي يتجسّد في السعادة والفوز والفلاح.
والكدح لغير هذا يكون لغواً وعبثاً. وإن اختلف الناس في تصوّرهم لمصداق السعادة والفلاح.
2 ـ والقرآن الكريم باعتباره كتاب هداية وإرشاد، فمن الطبيعي أن يرشد الانسان إلى ما يكون فلاحاً له، ويُعدّ فوزاً حقيقياً وسعادة واقعية له، ما دامت الرؤى حول واقع السعادة وحقيقة الفلاح والفوز غير متقاربة ولا متّحدة.
3 ـ إنّ سلوك الانسان يحتاج إلى توجيه وترشيد وتعليل. وإنّ الداعي الجدير بالتركيز عليه هو حبّ السعادة والفلاح وكراهة الشقاء والخسران، وهذان الداعيان أصيلان وفطريان ويستمدان فاعليتهما من عمق وجود الانسان.
4 ـ إن الانسان قد لا يكتشف ما هو كماله اللائق به بسهولة وبسرعة في بداية الشوط من حياته، وإن اكتشف ذلك فقد لا يقتنع به ولا يؤمن به إيماناً كاملاً. ومن هنا فالعقبة التي تقف عادة أمام وصول الانسان الى كماله اللائق به تتلخص في أحد أمرين:
أ ـ الجهل بالكمال اللائق بالانسان، أو عدم الايمان به باعتباره كمالاً لائقاً به.
ب ـ الجهل بما يؤدّي الى الوصول إلى هذا الكمال اللائق، أو عدم الايمان به. ومن هنا يتصدّى القرآن بشكل حثيث ليوضح للانسان مصداق كماله اللائق به. ويحاول ـ بشتّى الاساليب ـ أن يصوّره له بنحو ينتج الايمان به.
كما إنه يتصدى لتوجيه سلوكه الاختياري توجيهاً منبعثاً من حبّه للكمال والسعادة، أو بغضه وخوفه من الشقاء والخسران، وبهذا لا يتحكّم في السلوك الاختياري للانسان بلسان القانون الجاف، بل يحاول إيجاد الداعي المؤثّر، ويهيّئ الظروف الكافية لتحصل للانسان المفكّر والواعي القناعة الكافية بلزوم اختيار هذا النوع من السلوك الذي يراه القرآن الكريم محقّقاً للسعادة الواقعية ومبعداً عن الشقاء الحقيقي.
ولاجل أن نستلهم رؤية القرآن في هذا المجال يجدر بنا أن ندقّق في الايات التي أشرنا إليها في بداية البحث، وهي نموذج واحد من مجموعة النماذج التي قدّمها القرآن الكريم، وأكّدها بشتّى أنواع التأكيد، ليحصل الانسان على الاهداف المرسومة له بملء إرادته وكامل اختياره.
لاحظ قوله تعالى في سورة هود: يَوْمَ يأتِ لا تَكَلّمُ نَفْسٌ إلاّ بإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسعيد * فأمّا الّذينَ شَقُوا ففي النّارِ... وَأمّا الّذينَ سُعِدوا فَفي الجنّةِ...[4].
فلكل انسان مصيره ونهايته التي يحققها له عمله الاختياري وسلوكه الارادي كما صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: وَأنْ لَيْسَ للانْسانِ إلاّ ما سَعى[5] وقوله: إنّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلون[6] وقوله: كُلّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهينَة[7] وقوله: إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُم لانـْفُسِكم وَإنْ أسَأتُمْ فلَها5[8].
والشقاء الحقيقي يتجسّد في استحقاق النار فما خيرٌ بخير بعده النار والسعادة الحقيقية تتجسّد في استحقاق الجنّة وما شرّ بشرّ بعده الجنّة.
أمّا كيف يحقّق سلوك الانسان للانسان مصيره النهائي؟ فلنلاحظ قوله تعالى في سورة المائدة: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادقينَ صَدْقَهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجري مِنْ تَحْتِها الانهارُ خالِدينَ فيها أبَداً رضي اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضوا عَنْهُ ذَلك الفَوْزُ العَظيم[9].
وقوله تعالى حكاية وتقريراً لكلام إبراهيم الخليل عليه السلام: ولا تُخْزِني يوم يُبْعَثونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنونَ * إلاّ مَنْ أتى اللّهَ بِقَلْب سَليم[10].
وقوله تعالى: قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزكّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى[11] وقوله: قَدْ أفْلَحَ مَنْ زكّاها[12].
إنّ التعبير عن السعادة العظمى بالفلاح وبالفوز العظيم يستحق الانتباه. وقد جمع القرآن الكريم بين الفلاح والفوز العظيم في قوله تعالى في سورة التوبة: لَكِن الرّسولُ وَالّذينَ آمَنوا مَعَهُ جَاهَدوا بأمْوالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ وَأولئِك لَهُم الخَيْرات وَأولئِك هُم المُفْلِحون * أَعدّ اللّهُ لَهُمْ جَنات تَجْري مِنْ تَحْتَها الانـْهار خالِدينَ فيها ذلِكَ الفَوْزُ العَظيم[13].
هذا هو موقف القرآن الكريم من طموح الانسان نحو الكمال، ومن الكمال اللائق بالانسان ليطمح إليه بكل قواه ووجوده. والمصطلحات التي ترشدنا هنا لموقف القرآن الكريم من هذا المبدأ هي:
1 ـ السعادة والشقاء ومشتقاتهما وما يفيد مفادهما.
2 ـ الفوز ومشتقاته وما يقابله.
3 ـ الفلاح ومشتقاته وما يقابله.
4 ـ الاخرة.
5 ـ المنتهى.
6 ـ المصير.
7 ـ الجزاء.
8 ـ الربح والخسران والخزي.
9 ـ كل الايات التي تكفّلت تطبيق المصير أو السعادة أو الفوز على المصاديق التي يرتضيها خالق الانسان للانسان.
10 ـ كل الايات التي علّلت أنواع سلوك الانسان، وأبرزت نتائج كل صنف بلام التعليل أو لعلّ المفيدة للترجّي... مثل قوله تعالى: لَعلّكُمْ بِلقاءِ رَبّكُمْ تُوقِنون ولَعَلّكم تُسْلِمون.
إذن تشخيص الكمال اللائق بالانسان وتعيين مصداقه الواضح بحيث لا يبقى للانسان إبهام عند تصوّره هو من أهمّ ما تكرّم به القرآن الكريم في عطائه للانسان الذي أراد له الهداية والوصول إلى كماله المنشود.
________________________________________
[1] هود: 105 0ـ 108.
[2] المائدة: 119.
[3] التوبة: 88 ـ 89 .
[4] هود: 105 ـ 108.
[5] النجم: 39 .
[6] التحريم: 7 . والطور: 16.
[7] المدثر: 38 .
[8] الاسراء: 7 .
[9] المائدة: 119.
[10] الشعراء: 87 ـ 89 .
[11] الاعلى: 14 ـ 15.
[12] الشمس: 9 .
[13] التوبة: 88 ـ 89 .
source : الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي