عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

الإيمان وعلامات المؤمن

   معنى الإيمان ومسمّاه :

أصل الإيمان : الإذعان إلى الحقِّ على سبيل التصديق له واليقين . ولكنّه صار اسماً لشريعة سيدنا محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) (1) .

واختلفوا في مسمّى الإيمان في العرف الشرعي .

فقد ذهب المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث إلى أنّ الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح مع الإقرار باللسان . وأنّ الإيمان يتناول طاعة الله ومعرفته مع ما جعل الله تعالى عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً في الكتاب والسُنّة المطهّرة . وأنّ الإخلال بواحد من هذه الأمور كفرٌ .

وذهب أبو حنيفة والأشعري إلى أنّ الإيمان يحصل بالقلب واللسان معاً .

وهناك فريق ثالث يرى أنّ الإيمان عبارة عن الاعتقاد بالقلب فقط . وتبلور عنه اتجاه يحصر الإيمان في نطاق ضيق ، هو معرفة الله بالقلب ، حتى إنّ مَن عرف الله ثم جحده بلسانه ومات قبل أن يقرّ به ، فهو مؤمن كامل الإيمان .

وبالمقابل برز فريق رابع يرى أنّ الإيمان ـ حصراً ـ هو الإقرار باللسان فقط . وتبلور عنه اتجاه يرى أنّ الإيمان هو إقرار باللسان ، ولكن بشرط حصول المعرفة في القلب (2) .

ولكن التدبُّر في آيات القرآن الكريم يكشف حقيقة أُخرى للإيمان بعيدة عن كلِّ ما تقدّم ، وهي أنّ الإيمان ليس مجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقاً ؛ لأنّ الذين تبيّن لهم الهدى لم يردعهم ذلك عن الارتداد على أدبارهم ، ولم يمنعهم من الكفر والصد عن سبيل الله ومشاققة الرسول كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) (3) ، ومنهم مَن أضله الله على علم (4) .

فالعلم إذن لا يكفي وحده في المقام ما لم يكن هناك نوع التزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه ، بحيث تترتّب عليه آثاره ولو في الجملة .

ومن هنا يظهر بطلان ما قيل : إنّ الإيمان هو العمل ؛ وذلك لأنَّ العمل يجامع النفاق ، فالمنافق له عمل ، وربما كان ممّن ظهر له الحق ظهوراً علمياً ، ولا إيمان له على أي حال (5) .

وفي هذا الخصوص ، وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) تعكس التصور الإيماني الصحيح ، وفق نظرة شمولية ترى أنّ الإيمان هو عقد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالأركان .

سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الإيمان ، فقال : ( الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان ) (6) .

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) في معرض تفريقه بين الإسلام والإيمان : (الإيمان إقرار وعمل ، والإسلام إقرار بلا عمل ) (7) .

ويُؤكد الإمام الصادق (عليه السلام) على قاعدة التلازم بين القول والعمل في تحقق مفهوم الإيمان ، فيقول : ( ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي ، ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدّقته الأعمال ) (8) . وعن سلام الجعفي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان ، فقال : ( الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى ) (9) .

ويتّضح من خلال تلك الأحاديث ونظائرها أنّ أهل البيت (عليهم السلام) قد رفضوا كون الإيمان مجرد إقرار باللسان ، أو اعتقاد بالقلب ، أو بهما معاً ؛ لأنّه فهم سطحي قاصر ، إذ هكذا إيمان لا روح فيه ولا حياة ، ما لم يقترن بالطاعة المطلقة لله وتنفيذ ما أمر ، والانتهاء عمّا زجر ، كل ذلك في دائرة الوعي والسلوك والعمل .

هذا ، وتبلغ دائرة الإيمان أقصى اتساع لها في جواب الإمام الصادق (عليه السلام) على سؤال عجلان أبي صالح ، عندما سأله عن حدود الإيمان ، فقال (عليه السلام) : ( شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وصلاة الخمس ، وأداء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، وولاية وليّنا ، وعداوة عدّونا ، والدخول مع الصادقين ) (10) .

وهكذا نجد أنّ مفهوم الإيمان في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يتجاوز دائرة الاعتقاد المنسلخ عن السلوك ، ويرتكز على رؤية موحّدة ومترابطة ، تذهب إلى أنّ الاعتقاد القلبي متقدّم رُتَبيَّاً على الإقرار اللفظي ، ولا بدَّ من أن يتجسّد هذا الاعتقاد وذلك الإقرار إلى سلوك سوي . ثم إنّ كلّ تفكيك بين الإيمان وبين العمل يفتح الباب على مصراعيه أمام النفاق والمظاهر الخادعة والدعاوى الباطلة ؛ وعلى هذا الأساس قال الإمام الصادق (عليه السلام) : (الكفر إقرارٌ من العبد ، فلا يُكلَّف بعد إقراره ببيّنة ، والإيمان دعوى لا يجوز إلاّ ببيّنة وبيِّنته عمله ونيَّته ) (11) .

فالإمام (عليه السلام) في هذا الحديث يضع ميزاناً دقيقاً للإيمان ، يرتكز في أحد كفَّتيه على الباطن الذي تعكسه نية الفرد وانعقاد قلبه على الإيمان ، وفي الكفَّة الأخرى يرتكز على الظاهر الذي يتمثَّل بعمله وسلوكه السوي الذين يكونا كمرآة صافية لتلك النية .

ومن هنا يُؤكِّد الأئمة (عليهم السلام) على أنّ الإيمان كل لا يتجزَّأ ، ويرتكز على ثلاث مقوِّمات : "الاعتقاد" ، و"الإقرار" ، و"العمل" .

فعن أبي الصلت الهروي ، قال : سألت الرضا (عليه السلام) عن الإيمان ، فقال (عليه السلام) : ( الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا ) (12) .

تأمّل جيداً في العبارة الأخيرة من الحديث : (... ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا ) ، فهي خير شاهد على النظرة الشمولية غير التجزيئية للإيمان التي تتبنَّاها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) .

ولم تنطلق تلك النظرة من فراغ ، أو جرّاء التأثُّر بالمدارس الكلامية ، وإنما هي ربانية التلقِّي نبوية التوجيه ، قال الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( الإيمان والعمل شريكان في قرن ، لا يقبل الله تعالى أحدهما إلاّ بصاحبه ) (13) .

ثم إنّ هذه النظرة الشمولية للإيمان ـ بمقوِّماتها الثلاثة ـ تستقي من منابع قرآنية صافية ، يقول العلاّمة الراغب الأصفهاني : (والإيمان يُستعمل تارةً اسماً للشريعة التي جاء بها محمد (عليه الصلاة والسلام) ، وعلى ذلك : ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ ) (14) ، ويُوصف به كلُّ مَن دخل في شريعته مُقرَّاً بالله وبنبوَّته ، قيل وعلى هذا قال تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) (15) .

وتارةً يستعمل على سبيل المدح ويُراد به إذعانُ النَّفس للحقِّ على سبيل التصديق ، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء : تحقيقٌ بالقلب ، وإقرار باللِّسان ، وعمل بحسب ذلك بالجوارح ، وعلى هذا قوله : ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ) ) (16) .

وإنّ قال قائل : إنَّ الله سبحانه قال : ( والَّذينَ آمنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أولئِكَ أصحابُ الجَنَّةِ ) (17) والعطف دليل التغاير ، ومعنى هذا أنَّ العمل ليس جزءاً في مفهوم الإيمان .

قلنا في جوابه : المراد بالإيمان هنا مجرَّد التصديق ، تماماً كقوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف : ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) (18) . أمّا أكمل الإيمان ، فهو أن يعمل حامله بموجب إيمانه ، ويُؤثره على ميوله وأهوائه ، ويتجشّم الصعاب من أجله ، لا لشيء إلاّ طاعة لأمر الله (19) .

وصفوة القول : إنّ الإيمان برنامج حياة كامل ، لا مجرد نية تُعقد بالقلب ، أو كلمة تقال باللِّسان بلا رصيد من العمل الايجابي المثمر .

ونخلص إلى القول بأنّ للإيمان مرتبتين ، تُعني الأولى منهما : التصديق بقول : (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله) ، وهذا هو الحد الأدنى من الإيمان ، وهو الإيمان بمعناه الأعم ، الذي يصدق على كل مَن دخل في دين الإسلام مقرّاً بالله وبنبوة سيدنا محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) .

فيما يراد بالمرتبة الثانية من الإيمان ما هو فوق التصديق من الإقرار باللسان والعمل بالأركان ، أي التزام مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها ، من أداء الواجبات والعمل بالطاعات وتجنُّب المنكرات والشبهات ، وهذا هو الإيمان الممدوح في القرآن والسُنّة .

وهذه المرتبة الأخيرة من الإيمان هي التي ستكون محل الاهتمام في هذا الكتاب ، دون المرتبة الأولى .

* حقيقة الإيمان :

إنَّ حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق . لم تدركها النفوس عن طريق دائرة الحس الضيقة ، فليست هي بحقيقة مادية تُدرك بالحواس المعروفة ، ولكن هي حقيقة معنوية علْوية تدركها القلوب السليمة ، فتأخذ النفوس من أقطارها ، وتظهر ثمارها الطيبة نظافة في الشعور ورفعةً في الأخلاق واستقامة في السلوك .

تلك الحقيقة التي تتجسّد في نفوس المؤمنين من خلال مظاهر عديدة ، يمكن الإشارة إلى أبرزها اهتداءً بقبس من نور النبوة وحُماة منهجها ، وهي :

أولاً : التسليم لله تعالى والرِّضا بقضائه .

يقول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (إنَّ لكلِّ شيء حقيقةً . وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) (20) .

فالمؤمن حقاً هو الواثق بالله تعالى وحكمته ، المستسلِم لقضائه ، والمتقبّل لِمَا يجيء به قدر الله في اطمئنان أياً كان .

روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنّه لقي في بعض أسفاره ركباً ، فقال : ( ما أنتم ؟ ) قالوا : نحن مؤمنون ، قال : ( فما حقيقة إيمانكم ؟ ) ، قالوا: الرّضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض إلى الله تعالى ، فقال : ( علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء ، فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا ما لا تأكلون ، واتّقوا الله الذي إليه ترجعون ) (21) .

فالرِّضا بقضاء الله والتسليم لأمره من أعلى مظاهر الإيمان ، وهما من أبرز الخصال التي يتصف بها الأنبياء ، ومَن يتمسّك بها يرتقي إلى قمة الهرم الإيماني ، ويكون قد حصل على لُباب العلم وجوهر الحكمة .

وفي هذا الصدد قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) : بأيّ شيء يعلم المؤمن أنّه مؤمن ؟ قال (عليه السلام) : ( بالتسليم لله والرِّضا بما ورد عليه من سرور أو سخط ) (22) .

ثانياً : الحب في الله والبغض في الله .

وهو من أبرز المظاهر العاطفية التي تعكس حقيقة الإيمان ، فحينما يُؤثر الإنسان على ما يحبه ويهواه ما يحبُّه اللهُ تعالى ويرضاه ، وحينما يكون غضبه لله لا لمصلحته الخاصة ، فلا شك أنّ هذا الشعور العاطفي العالي يكون مصداقاً جلياً على عمق إيمانه ومصداقيَّته ؛ ولذا ورد عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( لا يجد العبد حقيقة الإيمان حتى يغضب لله ، ويرضى لله ، فإذا فعل ذلك فقد استحق حقيقة الإيمان )(23) .

 وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : ( لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يحب أبعد الخلق منه في الله ، ويبغض أقرب الخلق منه في الله ) (24) .

ثالثاً : التمسُّك المطلق بالحق .

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( إنَّ من حقيقة الإيمان أن تُؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك ) (25) .

إنَّ ترجيح كفة الحق الضار على كفة الباطل النافع ، ما هي إلاّ مظهر من مظاهر قوة الإيمان الراسخ في أعماق النفس المؤمنة .

رابعاً : حب أهل البيت (عليهم السلام) .

هو أحد الحقائق الهامة التي تميّز الإيمان الصادق عن الزائف ، عن زر بن حبيش قال : رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنبر ، فسمعته يقول : ( والذي فلق الحبّة وبَرَء النسمة ، إنَّّه لعهد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إليّ أنّه لا يُحبُّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق ) (26) .

وعن جابر بن عبد الله بن حزام الأنصاري قال : كنا عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ذات يوم جماعة من الأنصار فقال لنا : ( يا معشر الأنصار ، بوِّروا أولادكم بحب علي بن أبي طالب ، فمَن أحبه فاعلموا أنّه لرشده ، ومَن أبغضه فاعلموا أنه لغيه ) (27) .

وعن أبي الزبير المكي قال : رأيت جابراً متوكِّئاً على عصاه وهو يدور في سكك الأنصار ومجالسهم ، وهو يقول : ( علي خير البشر فمَن أبى فقد كفر ، يا معاشر الأنصار أدِّبوا أولادكم على حب علي ، فمَن أبى فانظروا في شأن أُمه ) (28) .

وأورد الثعلبي في تفسيره ، ونقله عنه الزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي المالكي في الجامع لأحكام القرآن ، والفخر الرازي في التفسير الكبير ـ قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومَن مات على حب آل محمد بشّره مَلَك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومَن مات على حب آل محمد يُزّف إلى الجنة كما تُزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومَن مات على حب آل محمد فُتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومَن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات على السُنّة والجماعة . ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً على عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومَن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومَن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة ) (29) .

فالإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته رمز الإيمان وعلامة الطهر ، وعليه فمَن أحبهم فقد وجد في قلبه حقيقة الإيمان ؛ فهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى مَن أحبّهم ذاق طعم الإيمان ، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( إنّه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أنّ ما لآخرنا لأوَّلنا ) (30) .

ولا يكفي الحب المجرّد ، بل لا بدَّ من الاتّباع وتحمُّل تبعات هذا الحب ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : ( إنّا لا نعدُّ الرجل مؤمناً حتى يكون بجميع أمرنا متّبعاً مريداً ) (31) .

 وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : ( لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال : حتى يكون الموت أحبّ إليه من الحياة ، والفقر أحبّ إليه من الغنى ، والمرض أحبّ إليه من الصحة ) . قلنا : ومَن يكون كذا ؟! قال : ( كلّكم ! ) ، ثم قال : ( أيّما أحبُّ إلى أحدكم يموت في حبّنا أو يعيش في بغضنا ؟ ) ، فقلت : نموت ـ والله ـ في حبّكم ؟ قال : ( وكذلك الفقر ... ) ، قلتُ : إي والله (32) .

فالمقياس النبوي الدقيق لمعرفة حقيقة الإيمان ـ إذن ـ هو حب أهل البيت (عليهم السلام) والتزام طاعتهم ، والتبرّي من أعدائهم . وقد عرفنا من خلال بعض ما مرَّ أنّه المقياس السليم الذي يتم به الكشف عن حقيقة الإيمان الكامل .

ويمكن تصوير الإيمان والكفر ـ بدليل ما تقدم ـ بميزان ذي كفتين :

كفّة بيضاء نقية تشتمل على حب أهل البيت (عليهم السلام) ؛ وهي كفة الإيمان الصادق .

وأخرى سوداء مظلمة من بغضهم (عليهم السلام) ؛ وهي ليس إلاّ الكفر والنفاق والمروق من الدين .

خامساً : التدبُّر والنظرة الواعية .

قد تظهر حقيقة إيمان الإنسان من خلال نظرته الفاحصة الواعية لمَن حوله ، فحينما يرى الناس منهمكين في إعمار دنياهم وتخريب دينهم ، فيأثرون الفاني على الباقي ، يدرك ـ حينئذٍ ـ أنّ هؤلاء عقلاء في دنياهم حمقاء في دينهم . فهذه النظرة وذلك الإدراك يكشفان عن وصول الإنسان لحقيقة الإيمان الواعي . ومن هنا قال الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لأبي ذر الغفاري رحمه الله : ( يا أبا ذرّ ، لا تصيب حقيقة الإيمان حتى ترى الناس كلّهم حمقاء في دينهم ، عقلاء في دنياهم ) (33) . وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يشير إلى ذلك بقوله : ( لن تكونوا مؤمنين حتى تعدّوا البلاء نعمة والرَّخاء مصيبة ) (34) .

ولا تكفي ـ بطبيعة الحال ـ النظرة الواعية في تحقق الإيمان الكامل ، بل لا بدَّ من موقف معاكس ومخالف لِمَا عليه عامة الناس ، وهو إيثار الباقي على الفاني والعزوف عن الدنيا الفانية . لقي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يوماً حارثة .. فقال له : ( كيف أصبحت يا حارثة ؟ ) ، فقال : أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً ، قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( إنَّ لكلِّ إيمان حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ ) ، قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي وقد قرب للحساب وكأنّي بأهل الجنة فيها يتراودون ، وأهل النار فيها يعذّبون . فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( أنت مؤمن ، نور الله الإيمان في قلبك ، فاثبت ثبَّتك الله ) (35) .

سادساً : السلوك العبادي السوي .

قد تبرز حقيقة الإيمان في سلوك عبادي سويّ ، من خلال العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه والنصيحة لأهل بيت رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) . وفي هذا الصدد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( مَن أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدّى زكاة ماله وخزن لسانه وكفَّ غضبه واستغفر لذنبه وأدّى النصيحة لأهل بيت رسوله ، فقد استكمل حقائق الإيمان ، وأبواب الجنة مُفَتَّـحة له ) (36) .

وقد تظهر حقيقة إيمان العبد في ضبطه لجوارحه ، وخاصة لسانه ، فقد ورد عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قوله : ( لا يعرف عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه ) (37) .

سابعاً : الموقف الاجتماعي .

وقد تظهر حقيقة الإيمان في موقف اجتماعي مشرّف ، كأن يُنفق المؤمن على ذوي الفاقة على الرغم من ضيق ذات يده ، أو أن ينصف الناس من نفسه فلا يُسيء لهم ولا يظلمهم ، أو يبذل علمه للجاهل منهم . كل موقف من هذا القبيل قد يأخذ بيد المؤمن إلى مراقي الصعود في درجات الإيمان ، ويشكّل بمفرده حقيقة من حقائقه الناصعة ، يقول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( ثلاث من الإيمان : الإنفاق من الإقتار ، وبذل السلام للعالم ، والإنصاف من نفسك ) (38) .

ثامناً : حالة الخوف والرجاء .

قد تتمثَّل حقيقة الإيمان في الجانب النفسي عندما يكون المؤمن في حالة نفسية بين الخوف والرجاء عاملاً وفق مقتضياتهما . قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) : ( لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لِمَا يخاف ويرجو ) (39) .

* مراتب الإيمان :

إذا كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث تترتّب عليه آثاره العملية ، وكان كل من العلم والالتزام ممَّا يزداد وينقص ويشتد ويضعف ، كان الإيمان المؤلَّف منهما قابلاً للزيادة والنقيصة والشدة والضعف . فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي ينبغي أن لا يقع فيها اختلاف . هذا ما ذهب إليه الأكثر ، وهو الحق .

ويدل عليه من النقل قوله تعالى : ( لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ) وغيره من الآيات .

كما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الدالة على أنّ الإيمان ذو مراتب (40) ، كالذي رواه عبد العزيز القراطيسي ، قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : ( يا عبد العزيز ، إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلَّم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر ) (41) .

وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : ( الإسلام درجة ، والإيمان عن الإسلام درجة ، واليقين على الإيمان درجة ، وما أوتي الناس أقلَّ من اليقين ) (42) .

وعن أبي عمرو الزبيدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : ( .. الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التام المنتهي تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه ) ، قلت : إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال (عليه السلام) : ( نعم .. ) ، قلت : .. فمن أين جاءت زيادته ؟ فقال (عليه السلام) : ( قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) (43) .

وقال : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (44) . ولو كان واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان ، لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ، ولاستوت النِّعم فيه ولاستوى الناس وبطل التفضيل ، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة ، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرّطون النار ) (45) .

ومن كلِّ ما تقدم تبين أنّ الإيمان له مراتب ودرجات متفاوتة بتفاوت العلم والمعرفة والعمل الصالح ، والناس يختلفون تبعاً لذلك قال تعالى : ( هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) (46) .

وروى الفضيل بن يسار عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله : ( إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة ، والتقوى أفضل من الإيمان بدرجةٍ ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين ) (47) .

ولا شكّ أنّ أكثر الخلق إيماناً بالله تعالى هم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ؛ لأنّهم صفوة الخلق من العباد ، ثم يليهم رتبة من خلُص لله سراً وعلانية .

ومنهم دون ذلك ، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : ( إنَّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم ، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة .. وكان المقداد في الثانية ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة ) (48) .

ومنهم مَن عصفت بهم موجة الشك في أوقات الشدّة والعسر .

ولا بدَّ من التنويه على أنّ الترقّي الممدوح هو أن يرتفع المؤشِّر البياني للإيمان ؛ لأنّ كل هبوط فيه إنّما هو نتيجة الشك أو الشبهة ممّا يكسب ذلك صاحبه المذمة والملامة ويبعده عن ساحة الحق تعالى .

عن الحسين بن الحكم قال : كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) (الإمام الكاظم) أُخبره إنّي شاك وقد قال إبراهيم (عليه السلام) : ( ... رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ) (49) وإنّي أحبُّ أن تريني شيئاً ، فكتب (عليه السلام) : ( إنّ إبراهيم كان مؤمناً وأحبَّ أن يزداد إيماناً ، وأنت شاك والشاك لا خير فيه ... ) (50) .

* عوامل زيادة الإيمان :

هناك عوامل رئيسية تسهم في إيصال الإنسان إلى أعلى درجات الإيمان ، يمكن الإشارة إليها بالنقاط التالية :

أولاً : العلم والمعرفة .

لمّا كان العلم رأس الفضائل ، صار أمل المؤمن ؛ لكونه المرتقى الذي يتجّه به صعوداً إلى الدرجات الرفيعة ، قال تعالى : ( يَرفَعِ اللهُ الَّذينَ آمنُوا مِنكُم والّذينَ أوتُوا العلمَ دَرجَاتٍ .. ) (51) .

فالعلم هو الذي يكسب صاحبه الشرف والسؤدد ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( .. لا شرف كالعلم ) (52) ، وقال أيضاً ـ موصياً بضرورة اقتران العلم بالأدب ـ : ( يا مؤمن ، إنّ هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلّمهما ، فما يزيد من علمك وأدبك يزيد من ثمنك وقدرك ، فإنَّ بالعلم تهتدي إلى ربّك ، وبالأدب تحسن خدمة ربّك ) (53) .

فالإمام (عليه السلام) يضع ميزاناً لا يقبل الخطأ ، وهو كلّما تصاعد المؤشر البياني للعلم المقترن بالأدب في نفس المؤمن ، كلّما زيد في قيمته ومكانته أكثر فأكثر . ومن أجل ذلك كان العلماء أقرب الناس إلى درجة النبوة ؛ بدليل قول الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( أقرب الناس من درجة النبوّة أهلُ العلم والجهاد . أمّا أهل العلم ، فدّلوا الناس على ما جاءت به الرُّسُل . وأمّا أهل الجهاد ، فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرُّسُل ) (54) .

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : ( مَن جاء أجَلُه وهو يطلب العلم لقي الله تعالى ، لم يكن بينه وبين النبيين إلاّ درجة النبوة ) (55) .

وفي القرآن الكريم آيات عدة تشير إلى دور العلم وأهميته في حقل الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله ، ومن الآيات الصريحة جداً بهذا المجال قوله تعالى : ( إنّما يَخشى اللهَ مِن عِبادِهِ العُلماءُ ) (56) .

ومن هنا نجد وصايا الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الكثيرة في طلب العلم ، وكذلك وصايا أهل البيت (عليهم السلام) . نكتفي بما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( تعلّم العلم ، فإنَّ تعلّمه حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه مَن لا يعلمه صدقة ، وهو عند الله لأهله قربة ... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة ... ) (57) .

ثانياً : العمل الصالح .

وهو العنصر الثاني الذي يقترن بالإيمان ويسهم في إيصال المؤمن إلى أعلى الدرجات ، قال تعالى : ( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا ) (58) .

وإذا كان الإيمان يمنح الشخصية الإيمانية الرؤية الصحيحة وسلامة التصور ونقاء الاعتقاد ، فإنَّ العمل الذي هو شعار المؤمن يفجّر طاقتها الإبداعية ، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيى حياة طيبة ، يقول عزَّ من قائل : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (59) . فالإسلام لا يريد من المؤمن أن ينعزل عن الحياة ويكتفي بالإيمان المجرَّد الذي يقصره البعض وفق نظره القاصر على الاعتقاد القلبي أو التلفُّظ اللساني ، وإنّما يُريد المؤمن أن يترجم إيمانه إلى عمل صالح يُحقّق النُّقلة الحضارية التي تتطلّع إليها الأُمة الإسلامية كأُمّة رائدة .

ومَن يتدبرّ في قوله تعالى : (.. وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (60) ، يلاحظ أنّه استعمل لفظة : (كيف) ، ولم يقل : (كم) تعملون ؛ لأنّ الأهم هو نوعية العمل وأبعاده الحضارية وليس كمِّيته .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التقیة لغز لا نفهمه
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
وصول الامام الحسین(ع) الى کربلاء
دعاء الامام الصادق عليه السلام
الصلوات الكبيرة المروية مفصلا
الشفاعة فعل الله
أخلاق أمير المؤمنين
اللّيلة الاُولى
قال الإمام الحسين (عليه السلام): (اللهم إني لا ...
دروس من مواقف أبي ذر (رضوان الله علیه)

 
user comment