من محاضرات: سماحة آیة الله الشیخ مجتبی الطهراني
ترجمة: الأستاذ علي فاضل السعدي
مدح الارتباط بالأئمة المعصومين (ع)
إنّ لنتائج الارتباط ايجابا أو سلبا، الأثر السببي في ممدوحية أو مذمومية الارتباط. فإذا كان الارتباط لا يرجى منه إلّا الخير والكمال والفلاح والسعادة فسیکون ارتباطا ممدوحٌاً ومرغوباً دون أدنى شك. وبدیهی ان الارتباط بالمعصومين یعد من جملة الارتباطات ذات الأثر البالغ في حياة الإنسان. فالأئمة المعصومون (عليهم السلام) قادة البشر ومرشدوهم في مسير الكمال؛ إذاً فالارتباط بهم (عليهم السلام) ممدوح وهو مما يطلبه العقل البشري دون ترديد.
وقد وردت تأكيدات كثيرة في الآيات والروايات تحثّ على هذا الأمر إلى درجة عُدّ فيه الارتباط برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ارتباطا بالله تعالى، والذي يعني القرب الإلهي، ومن يبلغ هذه المرحلة أي مرحلة القرب الإلهي فقد نال هدفاً غاية في الكمال.
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):
"من وصلنا وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد وصل الله تبارك وتعالى".( 1)
إن الأئمة المعصومين خلفاء الله في الأرض وهم أقرب إلى الإنسان من والديه النسبيين؟( 2) يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في ذلك:
إن كان الابوان إنّما عظم حقهما على أولادهما لإحسانهما إليهم فإحسان محمد وعلي إلى هذه الأمّة أجلّ وأعظم، فهما بأن يكونا أبويهم أحق.( 3)
إنّ عظمة حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) على المسلمين تصل إلى مستوى يُؤوّل فيه الأئمة (عليهم السلام) ما ورد من ثناء على الوالدين في بعض آيات القرآن الكريم بأنّه ثناء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ورد عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
أنا أحد الوالدين وعلي الآخر، قال (أبو بصير): قلت: وأيّ موضع ذلك من كتاب الله؟ قال: قوله " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (4 )". ( 5).
وكذلك فقد ورد في تفسير الآيتين:
" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ"(6 )
و " وَوَصَّيْنَا الْإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا"(7 )
وقد ورد عن بعض الأئمة (عليهم السلام) روايات مشابهة لما ذكر(8 )
فمرافقة المعصومين (عليهم السلام) من جملة الأمور التي يوصي بها الله تعالى المؤمنين في القرآن الكريم فقد ورد في قوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "( 9)
وقد سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مصداق الصادقين في هذه الآية فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم):
وأمّا الصادقون فخاصّة عليُّ بن أبي طالب وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة(10 )
وقد روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال في حضور جمع من المهاجرين والأنصار وذلك أثناء فترة خلافة عثمان:
أُنشدكم بالله، أتعلمون أن الله أنزل: "يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"؟. فقال سلمان: يا رسول الله ! عامة هذه الآية أم خاصة؟. فقال: أما المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، وأما الصّادقون فخاصة لأخي علي (عليه السلام) وأوصيائي بعده إلى يوم القيامة؟. فقالوا: اللهم نعم.(11 )
فالارتباط بالمعصومين (عليهم السلام) يعدّ من مصاديق الارتباط والعُلقة التي أمر الله تعالى بها وذلك في قوله تعالى:
والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل.(12 )
وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عمّا أمر الله من الارتباط فقال (عليه السلام):
وغاية تأويلها صلتك إيّانا(13 )
والملاحظة الأخرى هي أنّ الله تعالى قد أورد هذه الآية في وصف أولو الألباب، أي انه وصفهم بصفة إيجاد الارتباط وهذه بالذات دليل على عظمة شأن المرتبطين بالمعصومين (عليهم السلام)
فرغم التعظيم الوارد بحق المرتبطين ببعض الوجودات الأخرى، إلّا أنّ الارتباط بالمعصومين (عليهم السلام) يمتاز بعظمة أكبر؛ وذلك كما جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيانه لآية "وبالوالدين إحسانا" قال:
أفضل والديكم وأحقُهما لشكركم محمد وعلي.(14 )
إنّ سبب هذا التعظيم يكمن في أنّ هذا الارتباط هو ارتباط يتقدم على الارتباط بالوالدين النسبيين ذلك لأنه ليس إلّا هداية وقيادة نحو سبيل الله والخلاص من الضلالة. فإن كان الأب والأم هم من أخرجوا الإنسان إلى هذه الدنيا وتحمّلوا المشاقّ الكثيرة في سبيل نموّه، إلّا أنَّ الأئمة المعصومين قد وهبوه الحياة الروحانية ومنحوه السعادة الأبدية. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام مفصّل في تفسير آية "الرحمن" أنّه قال:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عزّ وجل: أنا الرحمان وهي الرحم، شققت لها إسما من إسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته. ثم قال علي (عليه السلام): أو تدري ما هذه الرحم التي من وصلها وصله الرحمان ومن قطعها قطعه الرحمان؟ فقيل: يا أمير المؤمنين حث بهذا كل قوم على أن يكرموا أقرباءهم ويصلوا أرحامهم، فقال لهم: أيحثهم على أن يصلوا أرحام الكافرين وأن يعظموا من حقره الله وأوجب احتقاره من الكافرين؟ قالوا: لا، ولكنه يحثهم على صلة أرحامهم المؤمنين، قال: فقال: أوجب حقوق أرحامهم لاتصالهم بآبائهم وامهاتهم؟ قلت: بلى يا أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فهم إذاً إنما يقضون فيهم حقوق الآباء والامهات؟ قلت: بلى يا أخا رسول الله، قال: فأباؤهم وامهاتهم إنما غذوهم في الدنيا، ووقوهم مكارهها وهي نعمة زائلة ومكروه ينقضي، ورسول ربهم ساقهم إلى نعمة دائمة لا تنقضي، ووقاهم مكروها مؤبدا لا يبيد، فأي النعمتين أعظم؟ قلت: نعمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل وأعظم وأكبر، قال: فكيف يجوز أن يحث على قضاء حق من صغر الله حقه، ولا يحث على قضاء حق من كبر الله حقه؟ قلت: لا يجوز ذلك، قال: فإذا حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم من حق الوالدين وحق رحمه أيضا أعظم من حق رحمهما، فرحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالصلة، وأعظم في القطيعة، فالويل كل الويل لمن قطعها، والويل كل الويل لمن لم يعظم حرمتها أو ما علمت أن حرمة رحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وأن حرمة رسول الله حرمة الله؟ وأن الله أعظم حقا من كل منعم سواه، فان كل منعم سواه إنما أنعم حيث قيضه له ذلك ربه ووفقه أما علمت ما قال الله لموسى بن عمران؟ قلت: بأبي أنت وامي ما الذي قال له؟ قال (عليه السلام): قال الله تعالى: يا موسى أو تدري ما بلغت رحمتي إياك؟ فقال موسى: أنت أرحم بي من امي، قال الله يا موسى: وإنما رحمتك امك لفضل رحمتي، أنا الذي رفقتها عليك، وطيبت قلبها لتترك طيب وسنها لتربيتك، ولو لم أفعل ذلك بها لكانت وسائر النساء سواء، يا موسى أتدري أن عبدا من عبادي تكون له ذنوب وخطايا تبلغ أعنان السماء فأغفرها له ولا أُبالي؟ قال: يا رب وكيف لا تبالي؟ قال تعالى: لخصلة شريفة تكون في عبدي احبها: يحب إخوانه المؤمنين، ويتعاهدهم ويساوي نفسه بهم ولا يتكبر عليهم، فإذا فعل ذلك غفرت له ذنوبه ولا ابالي. يا موسى إن الفخر ردائي، والكبرياء إزاري، من نازعني في شئ منهما عذبته بناري. يا موسى إن من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلته حظا من حطام الدنيا عبدا من عبادي مؤمنا قصرت يده في الدنيا، فإن تكبر عليه فقد استخف بعظيم جلالي. ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الرحم التي اشتقها الله عزّ وجل بقوله: أنا الرحمان، هي رحم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن من إعظام الله إعظام محمد وإن من إعظام محمد إعظام رحم محمد، وإن كل مؤمن ومؤمنة من شيعتنا هو من رحم محمد، وإن إعظامهم من إعظام محمد، فالويل لمن استخف بحرمة محمد، وطوبى لمن عظم حرمته وأكرم رحمه ووصلها(15 )
إنّ الأمر بالإحسان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وذويه وأرحامه هي من جملة الأوامر الإلهية والتي تدلّ على قيمة الارتباط بآل بيت العصمة والطهارة يقول الله تعالى في كتابه المبين:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" ( 16)
وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال في تفسيره لهذه الآية:
يا سعد إن الله يأمر بالعدل وهو محمد، والاحسان وهو علي " وإيتاء ذي القربى " وهو قرابتنا، أمر الله العباد بمودتنا وإيتائنا، ونهاهم عن الفحشاء والمنكر من بغى على أهل البيت( 17)
فكما بيّنا فانّ الارتباط بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) يمتاز بأهمية كبيرة وقد حددت لهذا اللقاء ثواباً جمّاً؛ بحيث عدّ الارتباط بهم إحسانا ومحبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتبر المرتبط بهم من أهل الجنة وممن باستطاعته أن يشفع للآخرين
يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
إذا كان يوم القيامة جمع الله الاولين والآخرين فينادي مناد: من كانت له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يد فليقم، فيقوم عنق من الناس فيقول: ما كانت أياديكم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فيقولون: كنا نفضل أهل بيته من بعده فيقال لهم: اذهبوا فطوفوا في الناس فمن كانت له عندكم يد فخذوا بيده فأدخلوه الجنة.( 18)
تقدم الارتباط بذوي رسول الله [السادة] على الارتباط بالرحم
إن الارتباط بالأئمة المعصومين (عليهم السلام) يمتاز بدرجة من القيمة بحيث يعدّ الارتباط بذويهم من السادة مقدما على الارتباط بذوي الإنسان النسبيين والسببيين فكأنما عُدّ ذوي أهل البيت (عليهم السلام) أقرب إلى الفرد منه إلى أقربائه ولهم عليه حقّ أكبر فهذه الأفضلية تتجلى من مديح وإطراء أهل البيت (عليهم السلام) بحق من يقدّم ذويهم على ذويه يقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام):
"عليك بالاحسان إلى قرابات أبوي دينك محمد وعلي، وإن أضعت قرابات أبوي نسبك، وإيّاك وإضاعة قرابات أبوي دينك بتلافي قرابات أبوي نسبك، فإن شكر هؤلاء إلى أبوي دينك: محمد وعلي أثمر لك من شكر هؤلاء إلى أبوي نسبك، إن قرابات أبوي دينك إذا شكروك عندهما بأقل قليل نظرهما لك يحط ذنوبك، ولو كانت ملاما بين الثرى إلى العرش، وإن قرابات أبوي نسبك إن شكروك عندهما وقد ضيعت قرابات أبوي دينك لم يغنيا عنك فتيلا".( 19)
إن الرواية أعلاه تظهر أن الإحسان إلى ذوي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) هي أفضل من الإحسان إلى أقرباء الإنسان النسبيين وليس هذا إلّا بسبب تقدم حقّ المعصومين (عليهم السلام) على حقّ الأب والأم فترجيح المعصومين على الوالدين هو السبب في ترجيح أقرباء المجموعة الأولى على أقرباء المجموعة الثانية، إذاً فأفضلية الارتباط بذوي أهل البيت (عليهم السلام) إنّما يكون بتبع أفضلية الارتباط بالمعصومين.
وتمتاز هذه العُلقة بدرجة بحيث يكون حتى النظر إلى السادة يكون أمراً قيماً. فالنظر إلى سيماء الأخيار من ذوي أهل البيت (عليهم السلام) يذكّر الإنسان بهم (عليهم السلام)، ومن دون شك فإنّ ذكر المعصومين عبادة. يقول الإمام الرضا (عليه السلام):
عن الرضا (عليه السلام ): النظر إلى ذريتنا عبادة ، فقيل له: يابن رسول الله! النظر إلى الأئمة منكم عبادة او النظر إلى جميع ذرية النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قال:بل النظر إلى جميع ذرية النبى (صلى الله عليه وآله) عبادة ما لم يفارقوا منهاجه ولم يتلوثوا بالمعاصى ( 20)
مدح الارتباط بالمعصومين (عليهم السلام) بعد وفاتهم (عليهم السلام)
لقد ورد الحث الدائم على إيجاد الارتباط بالمعصومين (عليهم السلام) وبأشكال متعددة وأزمنة مختلفة سواء كان ذلك في حياتهم أو بعد رحيل أولئك العظام. فالمعصومين (عليهم السلام) يمتازون بدرجة هي من المكانة عند الله بحيث لا تنتهي بركاتهم الوجودية بموتهم؛ بل تمتد ولايتهم التكوينية كما هو الحال بالنسبة لحياتهم حيث ينتفع مريديهم من فيوضاتهم. فالارتباط بالمعصومين (عليهم السلام) أمر ورد مدحه والحثّ عليه وبأشكاله المختلفة.
مدح الارتباط القلبي بالمعصومين (عليهم السلام)
رغم انحصار موضوع بحثنا وتحقيقنا في الفصول المختلفة للارتباط بالارتباط السلوكي والذي ينطلق من الإرادة ويعدّ من أفعال الإنسان الإراديّة فيما يتطرق إلى الارتباط القلبي والعُلقة الداخلية تحت عنوان سبب من أسباب هذا الارتباط، لكن الأهميّة الجمة للارتباط القلبي بالمعصومين (عليهم السلام) أو القيمة الرفيعة لذلك يجعل لهذا النوع من الارتباط خصوصية ويعدّه ضمن إطار الموضوعات الأخلاقية المهمة. فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه المعصومين (عليهم السلام) أنّه قال:
لما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول: لا يدخل الجنة إلّا من كان مسلما. فقام إليه أبو ذر الغفاري رحمه الله فقال: يا رسول الله وما الإسلام؟ فقال (عليه السلام): الإسلام عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين وثمرته العمل، ولكل شئ أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت.( 21)
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يشبه هذا الحديث وذلك حول أساس الإسلام(22 )
إن اعتبار الارتباط القلبي مع المعصومين (عليهم السلام) أساسياً بالنسبة للإسلام، يدلّ على أهميّة دور هذا الارتباط في المعتقدات واتجاهات وسلوك الفرد المسلم. فكان قلب كلّ إنسان مؤمن هو وعاء لمحبة أهل بيت العصمة والنقاء (عليهم السلام).فهذا الوعاء لا يمكن أن يخلوا من هذا الحب إلى درجة يمكن أن نعتبر وجود تلازم بين المعتقدات الإيمانية مع هذا الحب. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
أما إنه ليس عبد من عباد الله ممن امتحن الله قلبه بالإيمان إلّا وهو يجد مودتنا على قلبه فهو يحبنا(23 )
ولأنّ القلب محلٌّ لمختلف أنواع الحب، فالمعتقد أنّ الإيمان لا يتحقق أو يكتمل إلّا إذا كانت محبة أهل البيت (عليهم السلام) متقدمة على بقية أنواع الحبّ، كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحبّ إليه من ذاته ( 24)
إن الملازمة بين الإيمان وحبّ أهل البيت (عليهم السلام) تكون بمستوى من الشدّة والمتانة بحيث يمكن أن نعدّهما شيئاً واحداً.
يقول الإمام الباقر (عليه السلام):
حبّنا إيمان وبغضنا كفر(25 )
إن عدم جدوائية عبادة من يخلو قلبه من حب المعصومين رغم ظاهرها القيمّ يدلّ على الدور الجذري لهذه المحبّة في قيميّة أعمال الإنسان. فقد ورد عن أبي ذر الغفاري (ره) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:
فو الذي نفسي بيده لو أن رجلا صفن بين الركن والمقام صائما وراكعا وساجدا ثم لقي الله عزّ وجل غير محب لأهل بيتي لم ينفعه ذلك. (26 )
ويصل هذا التلازم إلى مرحلة بحيث يُصبح الحبُّ أسمى العبادات؛ وهذا يعني أن حبّ المعصومين ليس لوحده مؤثرا في قيميّة العبادات بل الحبّ بذاته أفضل العبادات. فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:
إنّ فوق كلّ عبادة عبادة وحبّنا أهل البيت أفضل عبادة(27 )
فمن الطبيعي أن تكون الحقيقة التي سيسأل عنها الإنسان من قبل الله وسيكون الإنسان مسئولاً عنها هي ما تكون أساساً لقناعات وعبادات وأعمال الإنسان التي من دونها سيضمحل الإيمان وستفقد الأعمال قيمتها. فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
لا يزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله عزّ وجل حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته؟ وجسدك فيما أبليته؟ ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته؟ وعن حبنا أهل البيت( 28)
-------------------
( 1) وسائل الشيعة: الحر العاملي ج16، ص336، ح21698.
( 2) - قال العلامة المجلسي رحمه الله: أن للإنسان حياة بدنية بالروح الحيوانية، وحياة أبدية بالإيمان والعلم والكمالات الروحانية التي هي موجبة لفوزه بالسعادات الأبدية، وقد وصف الله تعالى في مواضع من كتابه الكفار بأنهم أموات غير أحياء بالحياة كما قال الله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " وقال: "فلنحيينه حياة طيبة " إلى غير ذلك من الآيات والأخبار، وحق الوالدين في النسب إنما يجب ادخليتهما في الحياة الأولى الفانية لتربية الإنسان فيما يقوي ويؤيد تلك الحياة، وحق النبي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين إنما يجب من الجهتين معا، أما الأولى فلكونهم علة غائية لإيجاد جميع الخلق، وبهم يبقون، وبهم يرزقون، وبهم يمطرون، وبهم يدفع الله العذاب، وبهم يسبب الله الأسباب، وأما الثانية التي هي الحياة العظمى فبهداهم اهتدوا، ومن أنوارهم اقتبسوا، وبينابيع علمهم أحياهم الله حياة طيبة لا يزول عنهم أبد الآبدين، فثبت أنهم الآباء الحقيقية الروحانية التي يجب على الخلق رعاية حقوقهم، والاحتراز عن عقوقهم، صلوات الله عليهم أجمعين، وقد مضى بعض تحقيقات ذلك في أبواب كتاب الإمامة. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج 36، ص 13و14.
( 3) المصدر السابق، ج23، ص260، ح8.
( 4) النساء: 34.
( 5) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج36، ص13، ح19. وقد أورد الشيخ الصدوق رواية في كتاب علل الشرائع في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام): والعلة في أن الشيعة كلهم أيتام أن هذين الوالدين قد قبضا عنهم ( بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج65، ص76، ح135).
( 6) لقمان: 14
( 7) الاحقاف: 15.
( 8) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج23، ص266، ح12.
( 9) التوبة: 119.
( 10) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج33، ص149، ح421.
( 11) المصدر السابق، ج31، ص413.
( 12) الرعد: 21.
( 13) مستدرك الوسائل: المحدث النوري، ج15، ص236، ح18105.
( 14) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج23، ص259، ح8 نقلا عن تفسير الإمام ص330 ح189.|
( 15) المصدر السابق،4 ص266 ح12.
( 16) النحل:90.
( 17) العلامة المجلسي: بحار الأنوار ج23 ص268 ح15؛ نقلا عن تفسير العياشي ح2 ص267 ح59.
( 18) وسائل الشيعة: الحر العاملي، ج26، ص335، ح21697.
( 19) بحار الأنوار: العلامة المجلسي ج23، ص262، ح8.
يستنتج من هذه الرواية أفضليّة استمرار العلاقة بالمعصوم (عليه السلام) وترك الإنسان ارتباطه بذويه ذا ما حصل تعارض أو تزاحم بين هذين الارتباطين بالمعصومين(عليهم السلام) فالأجدر بل الواجب أن يحفظ ارتباطه بآل البيت (عليهم السلام) ويقدمهم على ذويه. كما إن من الطبيعي أن يكون المراد من هذا الارتباط ليس اللقاء بالمعصومين(عليهم السلام) بل حفظ أصل العُلقة مع قادة البشر الهداة المرشدين وعدم الانقطاع عنهم كما انه لو لم يوجد هناك شكل خاص للارتباط الواجب مع الأقارب أو المعصومين(عليهم السلام) من قبل المعصومين(عليهم السلام)، فهنا أيضا يتقدم الارتباط بآل بيت العصمة (عليه السلام) على الارتباط بالأقارب.
وبعبارة أخرى فإنّ الارتباط بالمعصومين(عليهم السلام) يتقدم على صلة الرحم في مقامي الوجوب والاستحباب. فحينما تكون العُلقة مع المعصوم واجبة وزوحمت أو تعارضت مع الارتباط بذوي الإنسان فإنّ الارتباط مع المعصوم ينبغي أن يتقدم على الارتباط بالأقارب وكذلك الأمر بالنسبة للاستحباب فلو كان الارتباط بالمعصوم (عليه السلام) مستحباُ فإن تزاحم هذا الارتباط مع ارتباط مستحب آخر من قبيل الارتباط مع أقرباء الشخص، فينبغي تقديم الارتباط بالمعصوم على الارتباط بالأقرباء وقد روي عن الإمام الحسن (عليه السلام) انه قال: إن رجلا جاع عياله فخرج يبغي لهم ما يأكلون فكسب درهما فاشترى به خبزا وأدما فمر برجل وامرأة من قرابات محمد وعلي عليهما السلام فوجدهما جائعين فقال: هؤلاء أحق من قراباتي فأعطاهما إياهما ولم يدر بماذا يحتج في منزله، فجعل يمشي رويدا يتفكر فيما يتعذر به عندهم ويقول لهم: ما فعل بالدرهم إذ لم يجئهم بشئ فبينما هو متحير في طريقه إذا بفيج يطلبه فدل عليه فأوصل إليه كتابا من مصر وخمسمائة دينار في صرة، وقال: هذه بقية حملته إليك من مال ابن عمك مات بمصر، وخلف مائة ألف دينار على تجار مكة والمدينة وعقارا كثيرا ومالا بمصر بأضعاف ذلك، فأخذ الخمسمائة دينار ووضع على عياله، ونام ليلته فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وعليا صلى الله عليهما فقالا له: كيف ترى إغناءنا لك لما آثرت قرابتنا على قرابتك؟ ثم لم يبق بالمدينة ولا بمكة ممن عليه شئ من المائة ألف دينار إلا أتاه محمد وعلي في منامه وقالا له: إما بكرت بالغداة على فلان بحقه من ميراث ابن عمه وإلا بكر عليك بهلاكك واصطلامك وإزالة نعمك وإبانتك من حشمك، فأصبحوا كلهم وحملوا إلى الرجل ما عليهم حتى حصل عنده مائة ألف دينار، وما ترك أحد بمصر ممن له عنده مال إلا وأتاه محمد وعلي عليهما السلام في منامه وأمراه أمر تهدد بتعجيل مال الرجل أسرع ما يقدر عليه، وأتى محمد وعلي هذا المؤثر لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله في منامه فقالا له: كيف رأيت صنع الله لك؟ قد أمرنا من بمصر أن يعجل إليك مالك، أفنأمر حاكمها بأن يبيع عقارك وأملاكك ويسفتج إليك بأثمانها لتشتري بدلها من المدينة؟ قال: بلى، فأتى محمد وعلي عليهما السلام حاكم مصر في منامه فأمراه أن يبيع عقاره، والسفتجة بثمنه إليه، فحمل إليه من تلك الأثمان ثلاثمائة ألف دينار، فصار أغنى من بالمدينة. ثم أتاه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا عبد الله هذا جزاؤك في الدنيا على إيثار قرابتي على قرابتك، ولأعطينّك في الآخرة بدل كل حبة من هذا المال في الجنة ألف قصر أصغرها أكبر من الدنيا. بحار الأنوار: العلامة المجلسي ج23 ص264.
( 20) وسائل الشيعة: الحر العاملي ح12 ص311 ح16383.|
( 21) العلامة المجلسي بحار الأنوار ج27 ص82 ح22
وقد ورد في روايات العامة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): يا علي! إنّ الإسلام عريان لباسه التقوى ورياشه الهدى وزينته الحياء وعماده الورع وملاكه العمل الصالح، وأساس الإسلام حبّي وحبّ أهل بيتي. المتقي الهندي: كنز العمال ج12 ص105 ح34206 والعجلوني: كشف الخفاء ج1 ص23،ح27.
( 22) المصدر السابق، ص91 ح47 والكافي: الكليني ج2 ص46 ح2.
( 23) المصدر السابق، ص80 ح19 وقد ورد في المصادر السنية أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حق أهل بيته: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب امرئٍ الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم منّي (المتقي الهندي: كنز العمال ج12، ص102 و103 ح34193 وقال أيضا: لا يؤمن رجل حتى يحبّ أهل بيتي لحبي فقال عمر بن الخطاب: وما علامة حبّ أهل بيتك؟ قال: هذا وضرب بيده على عليّ. الزندي الحنفي: نظم درر السمطين، ص232.
( 24) المصدر السابق، ص76 ح4؛ نقلا عن أمالي الصدوق ص334 ح9.
( 25) الكافي: الكليني ج1 ص187 ح12.
( 26) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج27، ص105، ح75.
( 27) المصدر السابق، ص91 ح48 نقلا عن المحاسن ج1 ص150 ح67.
( 28) المصدر السابق، ص103 ح70.
source : www.sibtayn.com