منذ أن عرفت شعوب العالم التدخل الدولي في شؤونها عبر سلسلة طويلة من عمليات الأستعمار العسكري والأستيطاني والأقتصادي لدولها، ومذ بدأت حركات التحرر العالمية نضالها ضد أنواع الأستعمار اعلاه، كان هناك اتفاق شبه كامل بين هذه الحركات على تحديد وجوه وصيغ وألوان المستعمرين أو الذين يسعون للتأثير في مسيرة شعوبهم نحو البناء والأستقرار وحق تقرير المصير'واتخاذ القرارات، ولكن القوة الجديدة التي قدمت من اقصى العالم بوجوه هولويودية براقة ومتنوعة لم يستطع احد أن يصنفها أو يحدد مآربها بوضوح نتيجة سببين رئيسيين،
اولهما، لغة الخطاب السياسي التي اعتمدتها والتي اعتمدت بشكل بارز على موضوع حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها،
والثاني، كان يرتبط ببشاعة اساليب وطرق تعامل دول الأستعمار التقليدية آنذاك مع الشعوب المستعمرة، وهي المملكة المتحدة (التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها) وفرنسا، وهولندا، وغيرها.
لقد سوقت الولايات المتحدة نفسها من خلال برامج علاقات عامة غاية في الدقة، ليس للدول المغلوبة على أمرها وحسب وإنما لجميع دول العالم حتى المتقدمة منها آنذاك، ولعبت السينما وأفلام (العالم الحر) دورا كبيرا في الغزو الفكري لجميع شعوب العالم بالإضافة إلى نتاج فني موسيقي وغنائي هائل، وكذلك فعل ساسة الولايات المتحدة الذين كانوا'بمثابة مشاعل للحرية والمساواة والعدالة الأجتماعية أمثال روزفلت وإيزنهاور وكنيدي وغيرهم، في حين كان ملايين الزنوج الأمريكيين يقتلون وتمارس مع الآخرين منهم اقسى وأبشع أشكال التمييز العنصري داخل الولايات المتحدة تحديدا.
أمريكا التي دخلت الى قلوب شعوب العالم المقهورة عبر نوافذ الحرية والعدالة والتحرر لم تستطع ومن خلال ممارساتها العسكرية والأستخباراتية أن تبقي نفسها في ذات الصورة وسرعان ما عمدت ذات الشعوب إلى فتح أبوابها لإخراج نفوذ هذه الدولة المتعطشة للأستغلال منها، ولكن من يدخل من الشباك يستحيل أن يخرج من الباب، فهي، أي الولايات المتحدة، كالسرطان، يبدأ بخلية في مكان واحد ثم سرعان ما ينشطر لملايين الخلايا المتناثرة بعيدا عن الخلية الأم، هي كذلك بالضبط، تدخل من باب التنقيب عن النفط، فتلج لعالم السياسة، والبنوك، والمجالات الثقافية، ثم لتشتري بعدها ذمم المسؤولين وقادة الجيش في الدول التي تطأها لتتحكم بمقدراتها وأستقرارها وأمنها الأقتصادي والسياسي.
لقد أستطاعت الولايات المتحدة وبكفاءة متميزة أن تحصل على لقب لم يسبقها إليه إي محتل أو مستعمر طيلة التاريخ، (عدوة الشعوب)، ولكم أن تتخيلوا هذه الكمية من الشر التي تحملها دولة بعينها ضد شعوب العالم ليمنحها هذا اللقب، ولا أظن أن هذا اللقب مصطنع، أو موضوع من قبل الشيوعية أو من قبل منّظرين معادين للفكر الراسمالي، لا، فتصرفات أمريكا على الأرض هي التي منحتها هذا اللقب وبكل أستحقاق، ولعل الأجيال التي تعيـــش الآن بذاكرة الســتينات والسبعينات تحمل في هذه الذاكرة صورا مأساوية عن جرائم الولايات المتحدة في فيتنام وكمبوديا وكوريا ومن قبلها الأستخدام الوحشي لقدرتــــها النووية ضد اليابان، ودورها في تشــيلي وكوبا ودول أمريكا الاتينية، ثم تغلغلها الى الجسد العربي عبر قناة النفط والاستثمارات الأقتصادية، وأخيرا الأعلانات الوهمية عن تفهمها لمعاناة العرب في موضوع الأغتصاب الصهيوني لإراضي فلسطين.
أما أبناء الجيل الحالي فقد تعرفوا على أمريكا كـ(عدوة للشعوب) من خلال هجومها اللاأخلاقي على افغانستان والعراق وتدميره شعبا ودولة وتاريخا وحضارة بهذا الشكل البشع والذي ساهمت فضائيات العالم بنقل النزر القليل منه الى أنظار الشعوب المختلفة ومنها شعوب الولايات المتحدة، ثم هاهي تقوم بإدوار تبدو وكأنها لمصلحة شعوب المنطقة فيما يسمى بالربيع العربي في حين تقع جميعها في حقل تدمير البنى الأجتماعية والعقائدية للأمة العربية تحت شعار مهلهل واحد (الديمقراطية).
الغريب في أمر الولايات المتحدة أنها أوجدت لها شبكة من الحكام المرتبطين بها بصيغة التحالفات، وهذه التحالفات جعلت هؤلاء الحكام يظنون أنهم في مأمن من المعارضين لهم أو المتربصين بهم، نتيجة دعم ورعاية هذه الدولة العظمى وقدرتها الخارقة'على النفوذ الأستخباراتي ورسم الأحداث وتطورها بشكل يخدم بقاء الحكام من جهة وأستمرار مصالحها من جهة أخرى، ورغم ان هذا الظن قد أجهضته الكثير من التجارب القاسية بدءا من تجربة شاه إيران وانتهاءا بتجربة حسني مبارك، إلا أن الكثير من حكام الوطن العربي مازالوا يؤمنون بالتحالف مع أمريكا كسبيل للخلاص من أعدائهم الخارجيين ومن غضب شعوبهم، وهم وبهذا العنوان باتوا يمارسون أدوارا فعلية في دعم ومشاركة الولايات المتحدة بعملياتها القذرة في الشرق الأوسط عموما ومنطقتنا العربية تحديدا.
وزير الدفاع الامريكي السابق روبرت غيتس، وبعد أن نشر موقع ويكليكس مطلع العام الماضي مئات الوثائق الأمريكية المعبرة بوضوح عن النظرة الأمريكية المتدنية للحكام العرب الذين يظنون أنهم متحالفين معها، والتي كان يتوقع لها أن تسبب انتكاسة في العلاقات العربية-الأمريكية، غيتس خرج بعد نشر هذه الوثائق ليقول: نحن لدينا (أتباع وليس حلفاء)، وبالطبع من حق الحليف أن يغضب ويعلق تحالفه عندما يكتشف أن حليفه يضمر ما لا يعلن أما التابع فلن يبدي شيئا من هذا لإنه بإختصار (تابع) والتبعية تكون دائما إما خوفا أو إيمانا بما يملكه المتبوع من قدرة خارقة لا يجاريه فيه أحد وبالتالي فهو ولي نعمته وحامي مصالحه، ولعل مقارنة بسيطة وجلية بين علاقـــة الولايات المتحدة بإسرائيل وعلاقتها ببعض الدول العربــــية يظهر بوضوح الفرق بين التابع والحليف، ثم لننــــظر الى الدور التركي وقدرة الحكومة على تحويل مكانتها لدى الولايات المتحدة من تابع إلى حليف سواء من خلال رفضها المشاركة في الحرب ضد العراق او مواقفها من إسرائيل ونصرتها الفعلية للقضية الفلسطينية وقدرتها بالعموم على أتخاذ القرارات الخاصة بمصالح شعبها بغض النظر عن رضا واشنطن من عدمه.
إن دول الخليج العربي هي من أكثر الدول العربية التي تعتقد أنها متحالفة مع الولايات المتحدة وهي في حقيقة الأمر تابعة لها، فمعظم عائدات النفط وهي عائدات هائلة بالطبع تستخدم كأستثمارات في الولايات المتــــحدة، ورغــــم محاولة بعض دول الخليج تشجيــــع الأمريكين على الاستثمار الحقيقي أو المالي في الخليج مثل عرض المملكة العربية السعودية لمحفظة استثمارية من 2 تريليون للمستثمرين الأمريكين من خلال مجلس العلاقات التجارية السعودي- الأمريكي، الا أنه لم يكن أي اعلان عن استثمارات فعلية للمؤسسات والشركات الأمريكية في السعودية أو الخليج بصفة عامة، بل على العكس من ذلك فقد تخلصت بعض الشركات الأمريكية من استثماراتها في الخليج وخرجت من أسواقه.
ورغم التقارب الكوري والصيني مع دول الخليج العربي إلا أن التقنية الأمريكية هي التقنية الرئيسية المستخدمة في جميع دول الخليج ولن يكون أي دور لإية دولة في اقتصاديات هذه الدول دون موافقة أمريكية مسبقة.
أمنيا، وهي الطامة الكبرى بالنسبة لدول الخليج، فجميع هذه الدول تعتقد أن الولايات المتحدة هي صمام الأمان الأمني لها أمام أية أطماع أجنبية خارجية أو داخلية، حتى على مستوى التقييم الأمني، لم تفلح دول الخليج في أن تقنع أمريكا بعدواتها الحقيقة، بل على العكـــس، قامت أمريكا بفرض قناعات العــــداوة لدى قيادات هـــــذه الدول وبالــــتالي دفعها للمشاركة في درئها سواء بالسلاح و بالمال أو كلاهما كما حصل في موضوع الأحتلال السوفييتي لإفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، ثم في موضوع التحشد الدولي لغرض إخراج العراق من الكويت عام 1990-1991، وبعدها دعم العمل العسكري الفعلي واللوجستي لإحتلال العراق، وأخيرا تدخلها المباشر وغير المباشر في عمليات عسكرية ضد أنظمة عربية قائمة(سوريا مثلا)، وهي بمجملها أدوار تفضي إلى قناعة واحدة، أن كل ما يجري من دعم وإسناد ومشاركة لإنشطة الولايات المتحدة إنما هو من أتباع وليس حلفاء.
source : www.abna.ir