التواضع هو انكسار للنفس يمنعها من أن ترى لذاتها مزيةً على الغير، وتُلزم المرء أفعالاً وأقوالاً موجبةً لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر(1).
هكذا عرّف علماء الأخلاق التواضع، ويلاحظ أنه لا يجري الحديث عن فضل التواضع إلا ويجري الحديث عما يقابل التواضع أي النقص وهو التكبر الذي يعد من أخطر العيوب الأخلاقية. وبنظرة سريعة إلى كتاب الله تعالى يمكن إدراك خطر هذه الآفة الخلقية، وما توعد به الله تعالى المتكبرين من عذاب أليم.
من وصيّة للإمام الکاظم عليه السلام لصاحبه هشام بن الحكم
يا هشام:
"إنّ لقمان قال لابنه: تواضع الحقّ تكن أعقل الناس.
يا هشام ... ولكل شيء مطيّة، ومطيّة العاقل التواضع. وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.
يا هشام ما من عبد إلا وملك آخذ بناصيته فلا يتواضع إلا رفعه الله، ولا يتعاظم إلا وضعه الله.
يا هشام مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة".
تحدّث الإمام عليه السلام في هذه الفقرات عن التواضع، ونلاحظ أنّه تحدّث عن أنواع عدة من التواضع، ففي الفقرة الأولى تحدث عن التواضع الحقّ، وفي الثانية عن التواضع بشكل عام، بما يشمل ذلك التواضع بين الناس، وسنتحدث في هذا الدرس عن التواضع لله، وما يحقق التواضع في نفس المؤمن، وما جاء في ذلك من كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته عليهم السلام.
ما هو التواضع؟
أما التواضع فقد جاءت الآيات والروايات الكثيرة المادحة له والتي عدته من أرقى الأخلاق، يقول الله تعالى:
"يا أيُّها الّذِين آمنُواْ من يرْتدّ مِنكُمْ عن دِينِهِ فسوْف يأْتِي اللهُ بِقوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونهُ أذِلّةٍ على الْمُؤْمِنِين أعِزّةٍ على الْكافِرِين يُجاهِدُون فِي سبِيلِ اللهِ ولا يخافُون لوْمة لآئِمٍ ذلِك فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ من يشاء واللهُ واسِعٌ علِيمٌ"(2).
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أشرف الخلائق، التواضع والحلم ولين الجانب"(3).
وفي رواية أخرى اعتبر الإمام الصادق عليه السلام التواضع دليلاً على كمال العقل، فعنه عليه السلام: "كمال العقل في ثلاثة: التواضع لله، وحسن اليقين، والصمت إلا من خير"(4).
التواضع والعبادة
التواضع عبادة بحد ذاته لأنه مما أمر الله تعالى به، ولأنه يتضمن الشعور بضعة النفس، وهذا هو نفس الشعور الذي يشعر به الإنسان في عبادته ووقوفه بين يدي الله تعالى، فعن الإمام علي عليه السلام: "عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة"(5).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟ قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع"(6).
ولهذا فإن المواظبة على العبادة، مما يورث صفة التواضع. والمراد بالمواظبة لا شكلاً بل أداء بما يحقق الخشوع والشعور بالعبودية لله تعالى. ومن المعروف أن المنكرين لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عابوا دينه لأنه يساوي بينهم وبين عبيدهم، واستنكر آخرون أن يعفروا جباههم في التراب حين الصلاة، معتبرين أن في ذلك كسراً لكبريائهم، وتحطيماً لجبروتهم، ومن هنا أشار أهل البيت عليهم السلام لهذا المعنى، فعن الإمام علي عليه السلام في بيان فلسفة العبادات: ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا موسى إني قلبت عبادي ظهراً لبطن، فلم أجد فيهم أحداً أذل لي نفساً منك، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدك على التراب، أو قال: على الأرض"(7).
وقد سأل هشام بن الحكم إمامه الصادق عليه السلام عن علة السجود على الأرض أو ما لا يؤكل من نباتها فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: "لأنّ السجود خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل أو يلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزّ وجلّ "(8).
آثار التواضع
لكل صفة من الصفات الأخلاقية آثار دنيوية وأخروية. وبما أن التواضع من أشرف الخلائق فلا بد له من آثار، فما هي آثار التواضع؟
1- الحكمة
فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبر الجبّار، لأن الله جعل التواضع آلة العقل"(9).
2- التقوى
وقد عدها بالتفصيل أمير المؤمنين عليه السلام:... "ومن ثمراته التقوى، واجتناب الهوى، واتباع الحق، ومجانبة الذنوب"(10).
3- حسن الخلق
ففي الحديث السابق عن أمير المؤمنين عليه السلام:... "ومودة الإخوان، والاستماع من العلماء والقبول منهم، ومن ثمراته ترك الانتقام عند القدرة، واستقباح مقاربة الباطل، واستحسان متابعة الحق، وقول الصدق، والتجافي عن سرور في غفلة، وعن فعل ما يعقب ندامة، والعلم يزيد العاقل عقلاً، ويورث متعلمه صفات حمد، فيجعل الحليم أميراً، وذا المشورة وزيراً، ويقمع الحرص، ويخلع المكر، ويميت البخل، ويجعل مطلق الفحش مأسوراً، ويعيد السداد قريباً"(11).
وأي صفات بعد هذه الصفات يطمع المؤمن بها؟ فما حدثنا عنه أمير المؤمنين عليه السلام هو تمام الأخلاق وأفضل ما يمكن أن يكون عليه المؤمن في علاقاته.
4- الفوز والكرامة
ففي الوصيّة التي قدمنا بها يخاطب الإمام الكاظم عليه السلام هشاماً قائلاً:
يا هشام مكتوب في الإنجيل:طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.
كيف أصبح متواضعاً؟
يرشدنا العلامة المجلسي رحمه الله لذلك فيقول:
أما معالجة الكبر واكتساب التواضع فهو علمي وعملي:
أما العلمي فهو أن يعرف نفسه وربه، ويكفيه ذلك في إزالته، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل بذاته، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أنه لا يليق العظمة والكبرياء إلا بالله... فهذا هو العلاج العلمي القاطع لأصل الكبر.
وأما العلاج العملي فهو التواضع بالفعل لله تعالى ولسائر الخلق، بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، وما وصل إليه من أحوال الصالحين، ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، حتى أنه كان يأكل على الأرض ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد"(12).
لمن نتواضع؟
تخبرنا الوصيّة في فقرتها الأولى عن معنىً جميل جداً في قوله: إن لقمان قال لابنه: تواضع الحقّ تكن أعقل الناس.
فكيف يكون التواضع الحقّ؟
أولاً: الحق من صفات الله تعالى، وبهذا المعنى ينبغي أن يكون التواضع لله أولاً، كيف لا ونحن عبيده وعلى العبد الخضوع لمولاه، فكيف إذا كان مولاه خالقاً له ورازقاً ومفيضاً ومنعماً؟
ثانياً: التواضع الحقّ أي ما يقابل الباطل، فقد يكون الحق مخالفاً لهوى المرء، ومنافياً لرغباته، فعلى المؤمن حينها أن يتواضع الحقّ بأن يقدم الحق ولو على حساب نفسه وعزّة نفسه، وأن يتقبل الحق على نفسه قبل أن يتوقع تطبيقه من قبل الآخرين على أنفسهم.
ثالثاً: التواضع لأهل الحق، من حملة العلم والصالحين من عباد الله المؤمنين، وقد مرّ معنا قول أمير المؤمنين عليه السلام حين عدد ثمرات التواضع: "والاستماع من العلماء والقبول منهم".
تواضع في غير محله
ما دام التواضع لله تعالى، فلا يمكن أن يقع في ما يخالف حكم الله أو ما يخالف التقرب إليه تعالى. وقد نبهتنا الروايات الشريفة عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت عليهم السلام
إلى بعض النماذج من التواضع السيئ، منها:
التواضع لحكّام الجور
ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو من يخالفه على دينه طلبا لما في يديه أخمله الله ومقته عليه ووكله إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه وصار في يده منه شيء نزع الله البركة منه، ولم يؤجره على شيء ينفقه في حج ولا عمرة ولا عتق".
التواضع طلباً للمال
فإن ذلك مفسدة في دين المؤمن، ولا ينبغي التواضع لذوي المال والثراء بنيّة
التزلف لهم أو الطمع في ما في أيديهم فعن الإمام علي عليه السلام: "من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه".
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أتى غنياً فتضعضع له لشيء يصيبه منه ذهب ثلثا دينه" (13).
حج الرشيد فذكر بهلولاً حين دخل الكوفة فأمر بإحضاره وقال: ألبسوه سواداً وضعوا على رأسه قلنسوة طويلة وأوقفوه في مكان كذا، ففعلوا به ذلك، وقالوا: إذا جاء أمير المؤمنين فادع له، فلما حاذاه الرشيد رفع رأسه إليه وقال: يا أمير المؤمنين أسألُ الله أن يرزقك ويوسع عليك من فضله، فضحك الرشيد وقال: آمين، فلما جازه الرشيد دفعه صاحب الكوفة في قفاه وقال: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون؟ قال بهلول: اسكت ويلك يا مجنون فما في الدنيا أحب إلى أمير المؤمنين من الدراهم، فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال: والله ما كذب.
المصادر :
1- جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج 1 ص 311.
2- المائدة: 54
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 1 ص 808
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2050
5- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 4 ص 3554
6- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 4 ص 3554
7- الكليني – الكافي – دار الكتب الإسلامية – طهران – الطبعة الخامسة – ج 2 ص 123
8- من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 1 ص 272
9- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 1 ص 674
10- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 3 ص 2090
11- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 3 ص 2090
12- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 3 ص 2657
13- الريشهري – محمّد – ميزان الحكمة – دار الحديث، الطبعة الأولى – ج 4 ص
source : rasekhoon