عربي
Friday 5th of July 2024
0
نفر 0

إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية

إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية

لا يشك باحث مطلع في أن القرآن أعظم معجزة جاء بها نبي الإسلام، و معنى هذا أنه أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء و المرسلون جميعا. و قد ذكرنا في المباحث المتقدمة بعضا من نواحي إعجازه، و أوضحنا تفوق كتاب اللّه على جميع المعجزات، و لكنا نقول هاهنا: إن معجزة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تكن منحصرة بالقرآن الكريم، و لقد شارك جميع الأنبياء في معجزاتهم و اختصّ من بينهم بمعجزة الكتاب العزيز. و الدليل على قولنا هذا أمران:
الأول: أخبار المسلمين المتواترة الدالة على صدور المعجزات منه، و قد ألّف المسلمون- على اختلاف مللهم و نحلهم في هذه المعجزات- مؤلفات كثيرة فليراجعها من يرغب في الإطلاع عليها. و لهذه الأخبار جهتان من الامتياز على أخبار أهل الكتاب بمعجزات أنبيائهم:
الجهة الاولى: قرب الزمان، فإن الشي‌ء إذا قرب زمانه كان تحصيل الجزم بوقوعه أيسر منه إذا بعد زمانه.
الجهة الثانية: كثرة الرواة، فإن أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين شاهدوا معجزاته أكثر- بالوف المرّات- من بني إسرائيل، و من المؤمنين بعيسى الناقلين لمعجزاتهما.   

                     البيان في تفسير القرآن، ص: 106


 فإن المؤمنين بعيسى عليه السّلام في عصره كانوا لقلّتهم يعدّون بالأصابع، و إنّ نقل معجزاته لا بد و أن ينتهي إلى هؤلاء المؤمنين القليلين في العدد، فإذا صحّت دعوى التواتر في معجزات موسى و عيسى صحّت دعوى التواتر في معجزات نبي الإسلام بطريق أولى. و قد أوضحنا فيما تقدم أن التواتر في معجزات الأنبياء السابقين غير ثابت في الأزمنة اللاحقة، و دعواه دعوى باطلة.
الثاني: ان نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد أثبت للأنبياء السابقين معجزات كثيرة، ثم ادّعى أنه هو أفضل هؤلاء الأنبياء جميعا، و أنه خاتمهم. و هذا يقتضي صدور تلك المعجزات منه على نحو أتم، فإنه لا يعقل أن يدّعي أحد أنه أفضل من غيره، و هو يعترف بنقصانه عن ذلك الغير في بعض صفات الكمال. و هل يعقل أن يدّعي أحد أنه أعلم الأطباء جميعا، و هو يعترف بأن بعض الأطباء الآخرين قادر على معالجة مرض هو غير قادر عليها؟! إن ضرورة العقل تمنع ذلك. و لهذه الجهة نرى أن جملة من المتنبّين الكاذبين قد أنكروا الإعجاز، و جحدوا كل معجزة للأنبياء السابقين، و صرفوا اهتمامهم إلى تأويل كل آية دلّت على وقوع الإعجاز، حذرا من أن يطالبهم الناس بأمثالها فيستبين عجزهم.
و قد كتب بعض الجهلاء، و المموّهين على البسطاء أن في آيات القرآن ما يدل على نفي كل معجزة للنبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير القرآن و أن القرآن هو معجزته الوحيدة ليس غير، و هو حجته على نبوته. و نحن نذكر هذه الآيات التي احتجوا بها، و نذكر وجه احتجاجهم، ثم نوضح فساد ذلك.
فمن هذه الآيات قوله تعالى:
وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً «17: 59».       

                 البيان في تفسير القرآن، ص: 107


 و وجه دلالتها- على ما يزعمون- أنها ظاهرة في أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يأت بآية غير القرآن. و أن السبب في عدم الإرسال بالآيات هو أن الأولين من الأمم السابقة قد كذّبوا بالآيات التي أرسلت إليهم.
و الجواب:
إن المراد بالآيات التي نفتها الآية الكريمة، و التي كذّب بها الأولون من الأمم هي الآيات التي اقترحتها الأمم على أنبيائها، فالآية الكريمة تدل على أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يجب المشركين إلى ما اقترحوه عليه من الآيات، و لا تنفي عنه صدور المعجزة مطلقا، و يدل على أن المراد هي الآيات الاقتراحية أمور:
الأول: ان الآيات جمع آية بمعنى العلامة، و هو جمع معرّف بالألف و اللام.
و الوجوه المحتملة في معناه ثلاثة:
فإما أن يراد منه جنس الآية الذي يصلح للانطباق على كل فرد من الآيات، و معنى هذا أن الآية الكريمة تنفي وقوع كل آية تدل على صدق مدّعي النبوة، و لازم هذا أن يكون بعث الرسول لغوا، إذ لا فائدة في إرساله إذا لم تكن معه بيّنة تقوم على صدقه، و أن يكون تكليف الناس بتصديقه، و لزوم اتباعه تكليفا بما لا يطاق.
و إما أن يراد به جميع الآيات، و هذا التوهم أيضا فاسد، لأن إثبات صدق النبي يتوقف على آية ما من الآيات، و لا يتوقف على إرساله بجميع الآيات. و لم يقترح المقترحون عليه أن يأتي بجميعها، فلا معنى لحمل الآية عليه.
فلا بد و أن يراد بهذه الآية الممنوعة خصوص آيات معهودة من الآيات الإلهية.
الثاني: أن تكذيب المكذّبين لو صلح أن يكون مانعا عن الإرسال بالآيات، لكان مانعا عن الإرسال بالقرآن أيضا إذ لا وجه لتخصيص المنع بالآيات الأخرى.        

                البيان في تفسير القرآن، ص: 108


 و قد أوضحنا أن القرآن أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء، و قد تحدّى به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جميع الأمم لإثبات نبوته ما دامت الليالي و الأيام. و هذا يدلنا أيضا على أن الآيات الممنوعة قسم خاص و ليست مطلق الآيات.
الثالث: أن الآية الكريمة صرّحت بأن السبب المانع عن الإرسال بالآيات هو تكذيب الأولين بها، و هذا من قبيل تعليل عدم الشي‌ء بوجود مانعه. و من البيّن أن التعليل بوجود المانع لا يحسن في نظر العقل إلا إذا كان السبب المقتضي لوجود ذلك الشي‌ء موجودا، و لذلك يقبح عند العقلاء أن يعلل عدم احتراق الخشبة- مثلا- بوجود الرطوبة عليها إذا كانت النار غير موجودة، و ذلك واضح لا يقبل الشك.
و إذن فلا بد و أن يكون المقتضي للإرسال بالآيات موجودا، ليصح تعليل عدمه بوجود التكذيب، و المقتضي للإرسال لا يخلو من أن يكون هي الحكمة الإلهية لإرشاد العباد و هدايتهم إلى سعادتهم. و أن يكون اقتراح الأمّة على النبي شيئا من الآيات زائدا على المقدار اللازم من الآيات لإتمام الحجة. أما إذا كان المقتضي للإرسال بالآيات هي الحكمة الإلهية، فلا بد من إرسال هذه الآيات، و يستحيل أن يمنع من تأثير الحكمة الإلهية، شى‌ء لأنه يستحيل على الحكيم أن يختار في عمله ما تنافيه حكمته، سواء في ذلك وجود التكذيب و عدمه.
على أن تكذيب الأمم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الإلهية في الإرسال بالآيات، لصلح أن يكون مانعا عن إرسال الرسول. و هذا باطل بالضرورة. و خلاف للمفروض أيضا. فتعين أن يكون المقتضي للإرسال بالآيات هو اقتراح المقترحين. و من الضروري أن المقترحين إنما يقترحون أمورا زائدة على الآيات التي تتم بها الحجة، فإن هذا المقدار من الآيات مما يلزم على اللّه أن يرسل به لإثبات نبوّة نبيّه، و ما زاد على هذا المقدار من الآيات لا يجب على اللّه أن يرسل به      

                  البيان في تفسير القرآن، ص: 109


 ابتداء، و لا يجب عليه أن يجيب اليه إذا اقترحه المقترحون. نعم لا يستحيل عليه ذلك إذا اقتضت المصلحة أن يقيم الحجة مرة ثانية و ثالثة، أو أن يجيب المقترحين إلى ما طلبوا.
و على هذا فاقتراح المقترحين إنما يكون بعد إتمام الحجة عليهم بما يلزم من الآيات، و تكذيبهم إياها. و إنما كان تكذيب الأمم السابقة مانعا عن الإرسال بالآيات المقترحة في هذه الامّة، لأن تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذّبين.
و قد ضمن اللّه تعالى رفع العذاب الدنيوي عن هذه الأمة إكراما لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعظيما لشأنه. فقد قال اللّه تعالى:
وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ «8: 33».
أما أن تكذيب الآيات المقترحة يوجب نزول العذاب على المكذّبين فلأن الآية الإلهية إذا كانت مبتدأة كانت متمحضة في إثبات نبوة النبي، و لم يترتب على تكذيبها أكثر مما يترتب على تكذيب النبي من العقاب الأخروي.
و أما إذا كانت مقترحة كانت كاشفة عن لجاجة المقترح، و شدة عناده، إذ لو كان طالبا للحق لصدّق بالآية الاولى لأنها كافية في إثباته، و لأن معنى اقتراحه هذا أنه قد التزم على نفسه بتصديق النبي إذا أجابه إلى هذا الاقتراح، فإذا كذّب الآية المقترحة بعد صدورها كان مستهزئا بالنبي و بالحق الذي دعا اليه، و بالآية التي طلبها منه، و لذلك سمى اللّه تعالى هذا النوع من الآيات «آيات التخويف» كما في آخر هذه الآية الكريمة، و إلا فلا معنى لحصر مطلق الآيات بالتخويف، فإن منها ما يكون للرحمة بالعباد و هدايتهم و إنارة سبيلهم.    

                    البيان في تفسير القرآن، ص: 110


 و مما يدلنا على أن المراد من الآيات الممنوعة هي آيات التعذيب و التخويف:
ملاحظة مورد هذه الآية الكريمة و سياقها. فإن الآية التي قبلها هي قوله تعالى:
وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً «17: 58».
و قد ذكرت فيها آية ثمود التي أعقبها نزول العذاب عليهم. و قصتهم مذكورة في سورة الشعراء، و ختمت هذه الآية بقوله تعالى:
وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً «17: 59».
و كل هذه القرائن دالة على أن المراد بالآيات الممنوعة هي الآيات المقترحة التي تستلزم نزول العذاب.
و نحن إذا سبرنا الآيات القرآنية يظهر لنا ظهورا تاما لا يقبل التشكيك أن المشركين كانوا يقترحون إنزال العذاب عليهم، أو يقترحون آيات اخرى نزل العذاب على الأمم السابقة بسبب تكذيبها.
فمن القسم الأول قوله تعالى:
وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ 8: 32. وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: 33. قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ 10: 50. وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى‌ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ 11: 8. وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ 29: 53.                        البيان في تفسير القرآن، ص: 111
 و من القسم الثاني قوله تعالى:
وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‌ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ 6: 124. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ 21: 5. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى‌ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى‌ مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ 28: 48).
و يدلنا على أن نظير هذه الآيات المتقرحة قد كذّبها الأولون فاستحقوا به نزول العذاب قوله تعالى:
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 16: 26. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 39: 25).
و ما أكثر الشواهد على ذلك من الكتاب العزيز. و قد ورد في تفسير الآية عن طريق الشيعة و أهل السنة ما يؤكد هذا الذي استفدناه من ظاهرها.
فعن الباقر عليه السّلام:
 «ان محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سأله قومه أن يأتي بآية فنزل جبريل و قال:
إن اللّه يقول: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ و كنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم، فلذلك أخرنا عن قومك الآيات» «1».
__________________________________________________
 (1) تفسير البرهان: 1/ 607.


                        البيان في تفسير القرآن، ص: 112


و عن ابن عباس قال:
 «سأل أهل مكة النبي أن يجعل لهم الصفا ذهبا، و أن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا. فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي، و إن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا اهلكوا كما أهلك من قبلهم.
قال: بل تستأني بهم فأنزل اللّه تعالى: وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ... «1».
و هناك روايات اخرى من أراد الإطلاع عليها فليراجع كتب الروايات و تفسير الطبري.
و من الآيات التي استدل بها الخصم على نفي المعجزات للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير القرآن قوله تعالى:
وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً 17: 90. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً: 91. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا: 92. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى‌ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا: 93).
و وجه استدلال الخصم بهذه الآيات الكريمة: ان المشركين قد دعوا النبي إلى إقامة المعجزة شاهدة على صدقه بالنبوة، فامتنع عن ذلك و اعترف لهم بالعجز، و لم يثبت لنفسه إلا أنه بشر أرسل إليهم. فالآيات دالة على نفي صدور المعجزة منه.
__________________________________________________
 (1) تفسير الطبري: 15/ 74.


                        البيان في تفسير القرآن، ص: 113


الجواب:
أولا: أنا قد أوضحنا للقارى‌ء حال الآيات المقترحة في جواب الاستدلال المتقدم. و لا شك في أن هذه المعجزات التي طلبها المشركون من النبي آيات مقترحة، و أن هؤلاء المشركين في مقام العناد للحق. و يدلنا على ذلك أمران:
1- أنهم قد جعلوا تصديقهم بالنبي موقوفا على أحد هذه الأمور التي اقترحوها، و لو كانوا غير معاندين للحق لاكتفوا بكل آية تدل على صدقه، و لم تكن لهذه الأمور التي اقترحوها خصوصية على ما سواها من الآيات.
2- قولهم: «أو ترقى في السّماء و لن نؤمن لرقيّك حتى تنزّل علينا كتابا نقرؤه» و أي معنى لهذا التقييد بإنزال الكتاب أ فليس الرقي الى السماء وحده آية كافية في الدلالة على صدقه؟ أو ليست في هذه التشهيات الباردة دلالة واضحة على عنادهم للحق. و تمردهم عليه؟!!.
ثانيا: إن هذه الأمور التي اقترحها المشركون في الآيات المتقدمة منها ما يستحيل وجوده، و منها ما لا يدل على صدق دعوى النبوة. فلو وجب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يجيب المقترحين الى ما يطلبونه، فليس هذا النوع من الأمور المقترحة مما تجب إجابته.
و إيضاح هذا: أن الأمور المقترحة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المذكورة في هذه الآيات ستة:
ثلاثة منها مستحيلة الوقوع، و ثلاثة منها غير مستحيلة، و لكنها لا تدل على صدق المدعي للنبوة «1». فالثلاثة المستحيلة:
__________________________________________________
 (1) انظر الحديث الكامل- الذي يقص محاورة قريش مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فرض هذه الأمور المستحيلة عليه، محاولة تعجيزه و تبكيته- في قسم التعليقات برقم (6). [.....]


                        البيان في تفسير القرآن، ص: 114


أولها: سقوط السماء عليهم كسفا. فان هذا يلازم خراب الأرض، و هلاك أهلها، و هو إنما يكون في آخر الدنيا. و قد أخبرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، و يدل عليه قولهم: «كما زعمت» و قد ذكر هذا في مواضع عديدة من القرآن الكريم منها قوله تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ 84: 1. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ 82: 1. إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ 34: 9.
و إنما كان ذلك مستحيلا لأن وقوعه قبل وقته خلاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية من بقاء الخلق، و إرشادهم إلى كمالهم. و يستحيل على الحكيم أن يجري في أعماله على خلاف ما تقتضيه حكمته.
ثانيها: أن يأتي باللّه بأن يقابلوه، و ينظروا اليه. و ذلك ممتنع لأن اللّه لا تدركه الأبصار، و إلا لكان محدودا في جهة، و كان له لون و له صورة. و جميع ذلك مستحيل عليه تعالى.
ثالثها: تنزيل كتاب من اللّه. و وجه استحالة ذلك أنهم أرادوا تنزيل كتاب كتبه اللّه بيده، لا مجرد تنزيل كتاب ما، و إن كان تنزيله بطريق الخلق و الإيجاد، لأنهم لو أرادوا تنزيل كتاب من اللّه بأي طريق اتفق لم يكن وجه معقول لطلبهم إنزاله من السماء، و كان في الكتاب الأرضي ما في الكتاب السماوي من الفائدة و الغرض، و لا شك ان هذا الذي طلبوه مستحيل لأنه يستلزم أن يكون اللّه جسما ذا جارحة.
تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
و أما الأمور الثلاثة الاخرى فهي و إن كانت غير مستحيلة، لكنها لا تدل على صدق دعوى النبوة. فإن فجر الينبوع من الأرض، أو كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مالكا لجنة من نخيل و عنب مفجرة الأنهار. أو كونه يملك بيتا من زخرف، امور لا ترتبط     

                   البيان في تفسير القرآن، ص: 115


 بدعوى النبوة، و كثيرا ما يتحقق أحدها لبعض الناس ثم لا يكون نبيا. بل فيهم من يتحقق له جميع هذه الأمور الثلاثة، ثم لا يحتمل فيه أن يكون مؤمنا، فضلا عن أن يكون نبيا، و إذا لم ترتبط هذه الأمور بدعوى النبوة، و لم تدل على صدقها كان الإتيان بها في مقام الاحتجاج عبثا، لا يصدر من نبي حكيم.
و قد يتوهم متوهم أن هذه الأمور الثلاثة لا تدل على صدق النبوة، إذا وجدت من أسباب عادية مألوفة. أما إذا وجدت بأسباب غير عادية فلا ريب أنها تكون آيات إلهية، و تدل على صدق النبوة.
الجواب:
إن هذا في نفسه صحيح، و لكن مطلوب المشركين أن تصدر هذه الأشياء و لو من أسبابها العادية، لأنهم استبعدوا أن يكون الرسول الإلهي فقيرا لا يملك شيئا.
وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‌ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «43: 31».
فطلبوا من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكون ذا مال كثير. و يدلنا على ذلك أنهم قيدوا طلبهم بأن تكون الجنة و البيت من الزخرف للنبي دون غيره، و لو أرادوا صدور هذه الأمور على وجه الإعجاز لم يكن لهذا التقييد وجه صحيح، بل و لا وجه لطلب الجنة أو البيت، فإنه يكفي إيجاد حبة من عنب أو مثقال من ذهب.
و أما قولهم: «حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا» فلا يدل على أنهم يطلبون الينبوع لهم لا للنبي و إنما يدل على أنهم يطلبون منه فجر الينبوع لأجلهم، و بين المعنيين فرق واضح. و لم يظهر النبي لهم عجزه عن الإتيان بالمعجزة كما توهمه هؤلاء القائلون. و إنما أظهر بقوله: «سبحان ربّي» أن اللّه تعالى منزّه عن العجز، و أنه قادر على كل أمر ممكن، و أنه منزّه عن الرؤية و المقابلة. و عن يحكم عليه بشي‌ء من    

                    البيان في تفسير القرآن، ص: 116


 اقتراح المقترحين و أن النبي بشر محكوم بأمر اللّه تعالى، و الأمر كله للّه وحده يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
و من الآيات التي استدل بها القائلون بنفي المعجزات للنبي عدا القرآن قوله تعالى:
لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ «10: 20».
و وجه الاستدلال: أن المشركين طالبوا النبي بآية من ربه، فلم يذكر لنفسه معجزة. و أجابهم بأن الغيب للّه، و هذا يدل على أنه لم يكن له معجزة غير ما أتى به من القرآن.
و بسياق هذه الآية آيات اخرى تقاربها في المعنى، كقوله تعالى:
وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ 13: 7. وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى‌ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «6: 37».
الجواب:
أولا: هو ما تقدم. فإن هؤلاء المشركين و غيرهم لم يطلبوا من النبي إقامة آية ما من الآيات التي تدل على صدقه، و إنما اقترحوا عليه إقامة آيات خاصة. و قد صرح القرآن بها في مواضع كثيرة، منها ما تقدم.
و منها قوله تعالى:
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ 6: 8. وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ   

                     البيان في تفسير القرآن، ص: 117


 لَمَجْنُونٌ‌
 15: 6. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ: 7. وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً 25: 7. أَوْ يُلْقى‌ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً: 8.
و قد علمنا أن الآيات المقترحة لا تجب الاجابة إليها، و يدلنا على أن المشركين إنما يريدون الإتيان بما اقترحوه من الآيات: أنهم لو أرادوا من النبي أن يأتي بآية ما، تدل على صدقه لأجابهم على الأقل بالإتيان بالقرآن الذي تحدى به في كثير من مواضعه. نعم يظهر من الآيات المتقدمة التي استدل بها الخصم، و مما يشبهها من الآيات أمران:
1- إن تحدي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعامة البشر إنما كان بالقرآن خاصة من بين سائر معجزاته. و قد أوضحنا فيما سبق أن الأمر لا بد و أن يكون كذلك، لأن النبوة الأبدية العامة تستدعي معجزة خالدة عامة، و هي منحصرة بالقرآن، و ليس في سائر معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يتصور له البقاء و الاستمرار.
2- إن الإتيان بالمعجزة ليس اختياريا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما هو رسول يتبع في ذلك اذن اللّه تعالى، و لا دخل لاقتراح المقترحين في شي‌ء من ذلك. و هذا المعنى ثابت لجميع الأنبياء. و يدل عليه قوله تعالى:
وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 13: 38. وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ 40: 78.  

                      البيان في تفسير القرآن، ص: 118


 ثانيا: ان في القرآن أيضا آيات دالة على صدور الآيات من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
منها قوله تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ 54: 1. وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ: 2. وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‌ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ 6: 124.
و يدلنا على أن المراد من الآية هنا هي المعجزة: أنه عبّر برؤية الآية، و لو كان المراد هو آيات القرآن لكان الصحيح أن يعبر بالسماع دون الرؤية و أنه ضم إلى ذلك انشقاق القمر. و أنه نسب إلى الآية المجي‌ء دون الإنزال و ما يشبهه. بل و في قولهم:
 «سحر مستمرّ» دلالة على تكرر صدور المعجزة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إذا: فلو سلمنا دلالة الآيات السابقة على نفي صدور المعجزة عنه، فلا بد و أن يراد من ذلك نفيه في زمان نزول هذه الآيات الكريمة، و ما بمعناها، و لا يمكن أن يراد منه نفي الآية حتى بعد ذلك.
و حاصل جميع ما ذكرناه في هذا المبحث امور:
1- إنه لا دلالة لشي‌ء من آيات القرآن على نفي المعجزات الاخرى سوى القرآن، بل و في جملة من الآيات دلالة على وجود هذه المعجزات التي يدّعي الخصم نفيها.
2- إن إقامة المعجزة ليست أمرا اختياريا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن ذلك بيد اللّه سبحانه.
3- إن اللازم في دعوى النبوة هو إقامة المعجزة التي تتم بها الحجة و يتوقف عليها التصديق. و أما الزائدة على ذلك، فلا يجب على اللّه إظهارها و لا تجب على النبي الإجابة إليها.  

                      البيان في تفسير القرآن، ص: 119


 4- إن كل معجزة يكون فيها هلاك الامة و تعذيبها، فهي ممنوعة في هذه الامة.
و لا تسوغ إقامتها باقتراح الامة، سواء أ كان الاقتراح من الجميع أم كان من البعض.
5- إن المعجزة الخالدة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التي تحدّى بها جميع الأمم إلى يوم القيامة، إنما هي كتاب اللّه المنزل اليه. و أما غيره من المعجزات، فهي و إن كثرت إلا أنها ليست معجزة باقية، و هي في هذه الناحية تشارك معجز

                      البيان في تفسير القرآن، ص: 119

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمامة من خلال حديث الإمام الصادق(عليه السلام)
سلوني قبل أن تفقدوني
اهداف ثورة الامام الحسين (عليه السلام)
إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية
تربية الفتاة الاقتصادية
محطات قدسيّة .. في عالم النور (السيّدة زينب عليها ...
أُسطورة ابن سبأ وما فيها من مخالفات للواقع
ماهية الصلاة البتراء والأحاديث الناهية عنها عند ...
الدور التأريخي للصحيفة السجّاديّة
الأمانة

 
user comment