السؤال: من المتعارف عليه بين أبناء الشيعة الإمامية إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، ويصاحب ذلك في كثير من الأحيان اللطم ، أو ما عرف بالعزاء .
وهو إنشاد القصائد الرثائية في أهل البيت ، ويصحب ذلك اللطم على الصدور ، وحسب اطلاعي المتواضع ، فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يحيون هذه الأيّام ، ولكن لم يرد بأنّهم كانوا يلطمون على صدورهم ، أو كانوا يحثّون على ذلك ، ولو كانت هذه العادة هي شعيرة خاصّة ، أو لها أهمّية لجاءت أخبار الأئمّة بالحثّ عليها ، بل ربما هناك ما يتعارض مع مثل ذلك .
فنحن نعرف وصية الإمام الحسين (عليه السلام) لأخته زينب (عليها السلام) ليلة العاشر : بأن تتعزّى بعزاء الله ، ولا تشقّ عليه جيباً ، أو تلطم عليه خدّاً ... مع أنّ السيّدة زينب ليست بحاجة لذلك ، إلاّ أنّ الإمام ربما قال لها ذلك من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة .
كذلك سمعت من البعض : بأنّ أوّل ظهور لهذه العادة كان في عصر الشيخ المفيد ، وكان الشيخ يقف موقفاً سلبياً ممّن يمارسون هذه العادة ، أُودّ أن أسمع تعليقكم حول هذا الموضوع بالتفصيل ؟ شاكراً ومقدّراً لكم .
الجواب : نلخّص الجواب في نقاط :
1-هناك كلّية صحيحة يرجع إليها في الاستدلال ، وهي : كُلّ ما يأمر به ، أو يحثّ عليه ، أو يفعله أو يقرّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، أو الإمام (عليه السلام) فهو جائز بالمعنى العام ، أي أعمّ من الواجب والمستحبّ والمباح .
|
الصفحة 502 |
|
وهناك قضية يأتي بها المغالطون كثيراً على أنّها كلّية صحيحة يمكن الاستدلال بها ، ليموّهوا على مناقشيهم بنوع من المغالطة ، وهي : إنّ كُلّ جائز وليس الواجب يجب أن يفعله النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أو الإمام (عليه السلام)، وهي عكس الأُولى ، وهذه الكلّية غير صحيحة وباطلة ، ولم تثبت لا عقلاً ولا شرعاً .
ومن راجع علم المنطق يعرف : إنّ العكس المستوي في الموجبة الكلّية يكون موجبة جزئية ، فعكس القاعدة الأُولى : كُلّ ما يفعله الإمام فهو جائز ، وهي موجبة كلّية ، يكون : بعض ما هو جائز يفعله الإمام ، وهي موجبة جزئية ، ثمّ إنّه لم يثبت في الشرع أنّ كُلّ شيء جائز سواء كان مستحبّاً أو مباحاً يجب أن يفعله الإمام .
ملاحظة : نحن اقتصرنا في القضية على فعل الإمام (عليه السلام) لأنّ المخالفين الذين يتعمّدون المغالطة يحتجّون دائماً علينا بأنّ الإمام لم يفعل كذا ، ولم يفعل كذا ، فهو غير جائز ، ولا يحتجّون علينا بعدم فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ نادراً .
أمّا نحن ، فإنّ هذه القاعدة واضحة عندنا ، فلا نحتجّ عليهم بعدم فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) لشيء لإثبات عدم جوازه إلاّ من باب النقض .
ومن هنا عرفت الجواب على كُلّ من يعترض على فعل ما بأنّ الإمام (عليه السلام) لم يفعله ، أو لم يثبت فعله له ، ومنها الاستدلال بعدم فعل الإمام (عليه السلام) للطم .
2-تبيّن أنّ إقرار النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) لفعل ما يدلّ على جوازه بالمعنى الأعم ، ولا يثبت به الوجوب ، فهو يحتاج إلى دليل آخر .
وفي موردنا جاءت عدّة روايات تثبت إقرار الإمام(عليه السلام) لما فعله الآخرون من اللطم أمامه ، أو لم ينكر على من ذكر اللطم على الإمام الحسين (عليه السلام) ، ويبيّن له المنع من ذلك .
منها : ما رواه الشيخ الطوسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : " وقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود ، الفاطميات على الحسين بن علي (عليهما السلام) ، وعلى مثله
|
الصفحة 503 |
|
تلطم الخدود ، وتشقّ الجيوب " (1) .
ومنها ما رواه الشيخ الصدوق : إنّ دعبل الخزاعي انشد الإمام الرضا(عليه السلام) قصيدته التي فيها :
أفاطم لو خـلت الحسـين مجـدّلاً |
وقـد مـات عطشـانـاً بشط فراتِ |
إذاً لـلطمـت الخـدّ عنـده |
وأجريت دمع العين في الوجنات"(2) |
فلم يعترض عليه الإمام (عليه السلام) بأنّ فاطمة (عليها السلام) لا تفعل الحرام ، وهو اللطم ، بل بكى (عليه السلام) .
ومنها : ورد في زيارة الناحية المقدّسة : " فلمّا رأين النساء جوادك مخزيّا ونظرن سرجك عليه ملويّا ، برزن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، الوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ... " (3) ، وغيرها .
3-إنّ استنباط الحكم الشرعي لقضية معيّنة يتمّ من خلال قواعد مقرّرة في أُصول الفقه وعلم الفقه ، ويستدلّ بها من القرآن والسنّة والعقل والإجماع ، ولا ينحصر الدليل بقول المعصوم أو فعله ، وإذا فقد الدليل من هذه الأربعة يرجع إلى الأُصول العملية التي تحدّد الوظيفة العملية للمكلّف باتجاه هذه القضية .
وقد قرّروا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأتِ فيه تحريم ، فإذا سلّمنا بفقد الدليل على اللطم ، نرجع إلى هذا الأصل الأوّلي فيه وهو الإباحة ، ولم يثبت في هذه القضية أصل ثانوي من أنّه إضرار بالنفس ، وعلى فرض ثبوته فليس كُلّ ضرر وإن كان لا يعتدّ به حراماً .
____________
1- تهذيب الأحكام 8 / 325 .
2- بحار الأنوار 45 / 256 .
3- المزار : 504 .
|
الصفحة 504 |
|
4-ومثل هذا يثبت بخصوص خروج المواكب في الطرقات وإنشاد المراثي ، على أنّ شعائر خروج المواكب في الطرقات كان من عهد البويهيين في بغداد في القرن الرابع الهجري ، وهو عصر علماء عظام من الإمامية كالمفيد وابن قولويه والمرتضى والرضي ولم يسمع من أحد منهم الاعتراض والنهي عن ذلك ، ولم نعرف المصدر الذي نقلت منه موقف الشيخ المفيد السلبي بخصوص ذلك ، فنرجو أن تذكر المصدر حتّى ننظر فيه .
5-وأمّا ما أوردته من الرواية عن الإمام الحسين (عليه السلام) يخاطب زينب (عليها السلام) : بأن تتعزّى بعزاء الله ، ولا تشقّ عليه جيباً ، أو تلطم عليه خدّاً ... ، فإنّ متن الرواية هكذا : " انظرن إذا أنا قتلت ، فلا تشقّقن عليّ جيباً ، ولا تخمشن عليّ وجهاً ... " (1) .
وليس فيها : " ولا تلطمن عليّ خدّاً " حتّى تستدلّ بها على النهي عن اللطم .
بل عن رواية الأقدم منهما وهو أبو مخنف المتوفّى 158 هـ عن الحارث بن كعب وأبي الضحّاك عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) ، أنّ المخاطبة كانت زينب (عليها السلام) ، إذ قال لها الحسين (عليه السلام) : " يا أُخية ، إنّي أُقسم عليك فابري قسمي : لا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور ، إذا أنا هلكت " (2) .
مع ملاحظة أنّ القضية في كُلّ الروايات واحدة ، وهي خبر إنشاد الحسين لعدّة أبيات التي أوّلها : يا دهر أُفٍّ لك من خليل ... ، ليلة عاشوراء ، فمرّة مخاطباً النساء معاً ، ومرّة مخاطباً زينب (عليها السلام) وحدها ، إضافة إلى أنّ رواية السيّد ابن طاووس مرسلة .
نعم ، قد يستدلّ برواية أُخرى في " دعائم الإسلام " عن الإمام الصادق (عليه السلام)
____________
1- اللهوف في قتلى الطفوف : 50 .
2- مقتل الحسين لابن مخنف : 111 .
|
الصفحة 505 |
|
: أنّه أوصى عندما احتضر فقال : " لا يلطمن عليّ خدّ ، ولا يشققن عليّ جيب ، فما من امرأة تشقّ جيبها إلاّ صدع لها في جهنّم صدع ، كلّما زادت زيدت " .
ولكن بغضّ النظر عمّا قيل في توثيق كتاب " دعائم الإسلام " ، فقد قال السيد الخوئي بخصوص هذه الرواية وغيرها : " إلاّ أنّ الأخبار لضعف إسنادها لا يمكن الاعتماد عليها في الحكم بالحرمة بوجه " (1) .
ولذا أفتى علماؤنا بجواز شقّ الثوب على الأب والأخ فراجع .
فيتّضح أنّ ما تقدّم من الروايات لا تنهض حجّة لمقاومة الأدلّة التي ذكرناها .
____________
1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 9 / 232