السيد عادل العلوي
قال الله تعالى: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) المؤمنون / 115 . (وَمَا خَلَقْنَا السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ) الأنبياء / 16.
مهما بلغ الإنسان في سير تقدّمه العلمي وتمدّنه الحضاري المزدهر بأحدث الصناعات التكنولوجية، فإنه لا يزال يدور في فلك من المجهولات في الآفاق والأنفس، فلو تسَلّق سُلّم العلوم والفنون وسخّر الفضاء والقمر، فإنه لا يكاد يرى إلاّ أنه في بداية الطريق، وأن معلوماته وما كشفه ليس إلاّ كالقطرة أمام البحر الهائج من مجهولات الكون وأسراره، ولو وضع جهله تحت قدميه لنطح رأسه السماء السابعة، مع أنّ جبال المجهولات ما زالت لم تفتح قممها الشامخة التي تعلو السحاب، ( وَمَا أُوتِيتُم مّنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلاً ) الإسراء / 85 . ( وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) يوسف / 76.
ولكن مهما كان الأمر فإن الإنسان خُلق مفطوراً على التفكير، وقد أودع الله سبحانه فيه حب الاستطلاع وكشف الحقائق وفكّ رموز أسرار الحياة، فهو بجبلته ـ لحكمة ربانية ـ يمتاز بالطموح والعمل الدؤوب المتواصل، يبحث دوماً عن المجهولات الكونية، ليكشفها ويرفع القناع والستار عن حقيقتها وذاتها، فلا يفتر في طلب العلم، وإنه يسفك المُهج ويخوض اللّجج من أجله.
ومن أعظم وأكبر مجهولاته، والذي ساير موكب البشرية منذ البداية إلى يومنا هذا أو ربما غداً، هو أن يكشف سر الحياة وفلسفة الخلقة والهدف من هذا الكون الرّحب، فما هي فلسفة الحياة؟!
مهما تعمّق الباحث عن الحقيقة في هذا السؤال الرهيب، فإنه يرى نفسه قد انغمر في بحار متلاطمة الأمواج بعيدة الغور والمدى وبلا ساحل يُرتجى. وفي مثل هذه العجالة من الصعب، بل كاد أن يكون مستحيلاً أن أوفّي وأقضي حق الموضوع، ولكن أوّل الغيث قطرة، وبالميسور لا يسقط المعسور، فوددت أن أذكر رؤوس أقلام في جواب هذا السؤال، عسى أن أفتح قلاع أفكار القارئ الكريم، إذ فيه انطوى العالم الأكبر كما جاء في الأثر:
(( أتزعـم أنك جِرمٌ صغير *** وفيك انطوى العـالم الأكبرُ ))
السؤال الكبير
فأقول مقدمةً: إن الإنسان منذ أن خُلق وعرف نفسه يسأل عن علّة وجوده وحكمة خلقه وفلسفة حياته، ومن ثمَّ ما هو الهدف والغاية من خلقة هذا الكون العظيم الدقيق بكل ما فيه من ذرّاته إلى مجرّاته؟ ولماذا هذه الدنيا التي تحنّت بألوان الشقاء والعذاب والأهوال والأحداث كالزلازل والفيضانات والحروب ؟!
أجوبة مختلفة:
وقد اختلف الجواب عن ذلك، فمن كان متوغلاً في الملاذ والشهوات وتغلّبت عليه القوة البهيميّة، وجذبته المادة وزخارف العيش، يجيب عن السؤال بأننا خُلقنا للأكل والشرب والتزوّد من الملذات الدنيوية، وأن السعيد من حاز على نصيب أوفر منها دون إيمان بالمعاد وبحياة أخرى، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا الاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلّا يَظُنّونَ ) الجاثية/ 24 , ( وَالّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) محمد / 12.
ومنهم من يُجيب بأننا خُلقنا للشقاء، فإن الحياة كلّها شقاء ونصب وتعب. ومنهم من يقول: خُلق بعضنا للسعادة والبعض الآخر للشقاء، وهذا رأي الأشاعرة. وهذا كله من الجهل والرجم بالغيب.
وقال بعض المتكلمين: إن التكليف من الله سبحانه هو وجه الحكمة الذي لأجله حَسُن من الله تعالى خلق العالم بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد، فالله سبحانه خلق كل شيء للإنسان وخلق الإنسان ليكلّفه ثم يُثيبه، فإن الثواب هو العطاء ألاستحقاقي والنفع المستحق على الله تعالى على سبيل التعظيم والإجلال ولا يكون إلاّ للمكلّفين، كثمرة للتكليف حسب استحقاقهم ذلك.
وقال بعضهم: خلق الله الخلق لأن الأمر أمرهُ، والملك ملكه، لا لينفعهم ولا ليضرّهم . . .
وقال آخر: خلق الله الخلق لإظهار قدرته وقوته، فبعض الخلق للنار والبعض للجنة.
وذهب بعض الحكماء: إلى أن الخلق لا لغرض أعلى من صدوره لغرض، لما فيه من احتمال النقص لو صدر لغرض.
بينما يرى بعض الفلاسفة خلاف ذلك بأن الخلق لا لغرض هو الذي يدل على النقص.
الرأي الصائب:
معتقد الأمامية، أنّ الله خلق الأشياء من أجل الإنسان ( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) الجاثية / 13 . وخُلق الإنسان من أجل تكامله، فخُلقنا لنتكامل ونتزوّد بالعلم والمعرفة والتقوى لنيل النعيم الأبدي، فخُلقنا من الرحمة الإلهيّة ونشأنا بالرحمة، ونرجع بالعلم والعبادة إلى رحمة الله تعالى، كما عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وزبدة المخاض أن فلسفة الحياة هي التكامل، وذلك بالرحمة والعلم والعبادة.
توضيح ذلك: أن المعاني والمفاهيم على قسمين: إمّا حقيقيّة ـ كالإنسان والحيوان ـ بحيث لا يتوقف تصوّرها وتعقّلها على معان أخرى، وإمّا إضافية ـ أي بالإضافة إلى الغير ـ فإن تعقّلها وتصوّرها يتوقّفان على معان أخرى كالعلم والعشق، حيث العلم رابط بين العالم والمعلوم، وإنما نتصور العشق بعد تصور العاشق والمعشوق.
والخلق مصدر من ( خَلَقَ، يَخلُقُ، خلقاً )، ويتوقف تصوّره على معنى الخالق والمخلوق فهو رابط بينهما والحاصل منهما فإذا أردنا أن نقف على سر الخلق والخليقة فلا بد أن نتصوّر سر الخالق وسر المخلوق، وبعبارة أخرى سرّ العلّة الأولى وسرّ المعلول، فإن الله سبحانه وتعالى على حسب تعبير فلاسفة المشّاء هو علّة العلل.
ربّما يُقال: إنّ الله سبحانه وتعالى فوق أن يوصف بذلك، فهو خالق العلّة والمعلول فكيف يتأطر بمخلوقه ويدخل ضمن نظام العلّة والمعلول، كما يلزم قدم العالم بقدم علّته، إذ لا انفكاك بين العلّة والمعلول، فيلزم أن يكون موجباً ويسلب منه القدرة والاختيار، وكيف يكون ذلك ولازمه نفي الذات إذ القدرة عينها.
فلا بد من معرفة الخالق والمخلوق حتى نُشرف على سر الخلق. وهذا يعني أنه علينا أن نسلّط الأضواء على غاية خلق هذا الكون تارة من ناحية الصانع والخالق الموجد الأوّل: بأنه لماذا خلق وصدرت عنه المخلوقات بمراتبها وعدم نهايتها ؟
وأخرى نبحث من ناحية المخلوقات بأنّها لماذا صدرت عن الله سبحانه ؟ وما هو السر وهو الحكيم العليم الخبير؟ ولم يخلق السماوات والأرض عبثاً ولا لهواً ولا لعباً، كما يحكم بذلك العقل السليم والفطرة المستقيمة، وتشير إليه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
ربما يُقال لا يمكن معرفة سرّ الخالق، إذ إن الإنسان الممكن الفقير في وجوده وبقائه محاط بعلم الله وقدرته، فإن الله هو المحيط العليم القدير، فكيف يدرك المحاط المحيط، وكيف يدرك بالإنسان سرّ الله سبحانه في خالقيته ؟ يستحيل ذلك.
ولكن الحديث ليس في ذات الله وسرّ كنهه حتى يلزم الضلال والحيرة والكفر ـ فقد نُهينا عن أن نفكّر في ذات الله سبحانه، وأُمرنا أن نفكّر في صفاته وأسمائه ـ بل الحديث عن صفة من صفات الفعل، وهي صفة الخالقية، والله هو الخالق والصّانع والمصوّر الأوّل، وإليه تنتهي سلسلة العلل والمعاليل من الممكنات والمخلوقات، وربما من هذا المنطلق يمكن أن نستضيء ببصيص من نور واجب الوجود لذاته، لنعلم به من علمه السرّ في خلقه.
سر الخلق: الرحمة، العلم، العبادة:
فلما كان سبحانه وتعالى هو الوجود المطلق المستجمع لجميع الصفات الجمالية والكمالية على نحو الإطلاق وبلا نهاية، فهو العالم القادر الحي المطلق في علمه وقدرته وحياته، كما تدل على ذلك البراهين الواضحة والأدلة الساطعة، فهو الكمال المطلق والمطلق في الكمال.
والمطلق في صفاته الثبوتية الذاتية والفعلية من كماله المطلق: أن تتجلّى صفاته في مصنوعاته ومخلوقاته فإنّ يُجيد هندسة الطائرة النفّاثة، إنما تظهر جودته وكماله في هندسته، لو صنع لنا الطائرة، وفاق أقرانه في إيجادها وإتقانها وطيرانها، فلولا الصنع لما عرفنا كماله، ومن الوجدانيات ـ والوجداني من البديهيات ـ أن من يملك الصوت الجميل مثلاً، فإنّه يحاول بين الأقران والأخلاّء أن يُغرّد ويظهر صوته، فيتغنّى ويترنم، بل حتى لو كان وحده فإنه يصدح ويعلو صوته، وذلك من كمال الصوت الجميل، فمقتضى الكمال وطبيعته الذاتية أن يظهر نفسه، فهو الظاهر بنفسه والمظهر لغيره كالنور.
ولما كان الله سبحانه مطلق الكمال والكمال المطلق فمقتضى ذاته ـ ولا يعلمها إلاّ هو ـ أن يتجلّى في صفاته وجماله وجلاله، فيظهر في علمه وقدرته وحياته وأسمائه الحسنى.
ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه: (( كنتُ كنزاً مخفياً فخلقت الخلق لكي أعرف ))، خلق الخلق ليظهر قدرته كما في الحديث الشريف، والخلق مظهر لأسماء الله وصفاته.
وإنّما يقف على كُنه هذه الحقيقة وسرّها الأنبياء والأوصياء والأولياء الأمثل فالأمثل، كما جاء في الزيارة الجامعة في زيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام): (( السلام على حملة سرّ الله )) فأهل البيت ( عليهم السلام ) حملة الأسرار وأدرى بما في البيت، فلا نطرق باب سر الخالق أكثر من أن نقول ـ إن صحّ التعبير والقول ـ إن الله سبحانه هو الكمال المطلق ومن كمال كماله أن يتجلّى في كل شيء ـ كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام ): (( ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده )) وقد ورد في دعاء سحر شهر رمضان (( اللهم إني أسألك من كمالك بأكمله وكل كمالك كامل، اللهم إني أسألك بكمالك كلّه )) وإن الله جميل ويحب الجمال ومن جماله أن يظهر جماله (( اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل، اللهم إني أسألك بجمالك كلّه )).
هذا وإنما نطلق العنان في سر المخلوق، فإن الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما من أجل الإنسان كما في قوله تعالى: ( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) الجاثية /13 . وجاء في الحديث القدسي: (( خلقتُ الأشياء من أجلك وخلقتُك من أجلي )). فإن الله جلّ جلاله خلق الكائنات وما في الطبيعة وما وراءها من أجل الإنسان، وخلق الإنسان ذلك الكائن الذي لا يزال مجهولاً من أجل الله، فهو خليفة الله في الأرض ( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة / 30. والقرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم يُلخّص لنا سرّ الخلق وفلسفة الحياة في حقائق ثلاثة: الرّحمة والعلم والعبادة.
قال تعال: ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود / 118و 119.
وقال سبحانه: ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنّ لِتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَي ءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَي ءٍ عِلْمَاً ) الطلاق / 12.
وقال جلّ جلاله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات / 56 .
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله ( إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) أي (( إلاّ ليعرفون )) ، فإن العبادة لا تتم ولا تصح إلاّ بعد المعرفة، فما خلقَ الجن والإنس إلاّ ليعرفوه وإذا عرفوه عبدوه، فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.
في كتاب تحف العقول عن الإمام أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال: (( لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل، ومن عرف دلّته معرفته على العمل . . . )).
وجاء في علل الشرائع (ص9) بسنده عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: (( خرج الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) على أصحابه فقال: أيّها الناس إن الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال (عليه السلام): معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي عليهم طاعته )).
قال مصنف الكتاب الشيخ الصدوق (عليه الرحمة ): يعني بذلك أن يعلم أهل كل زمان أن الله هو الذي لا يُخلّيهم في كل زمان عن إمام معصوم، فمن عبد رباً لم يقم لهم الحجة، فإنما عبد غير الله عزّ وجل.
وإن الأئمة الأطهار ـ كما هو ثابت في محله ـ هم باب الله الذي منه يؤتى، ولولاهم لما عُرف الله سبحانه.
عن ابن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: (( إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاُ، ولم يتركهم سُدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويُوصلهم إلى نعيم الأبد )).
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ): (( يقول الله تعالى: يا ابن آدم لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ، فاتخذني بدلاً من كل شيء فإني ناصر لك من كل شيء )).
عن أبي بصير قال سألت الإمام أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله عزّ وجلّ: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: (( خلقهم ليأمرهم بالعبادة ))، قال وسألته عن قول الله عزّ وجل: ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال (( خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم )) .
عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ): جعلت فداك ما معنى قول الله عزّ وجلّ: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) فقال: (( خلقهم للعبادة )) ، فقلت: خاصّة أم عامة؟ قال: (( بل عامّة )).
وجاء في تفسير الميزان (1) للعلامة الطباطبائي ( قدس سره ): قوله تعالى: ( إِلّا لِيَعْبُدُونِ) اللاّم فيه للغرض، إذ إنه استثناء من النّفي، ولا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضاً، وأن الغرض العبادة، بمعنى كونهم عابدين لله، لا كونه معبوداً، فقد قال ( لِيَعْبُدُونِ ) ولم يقل ( لأعبد ) أو (لأكون معبوداً لهم) فالعبادة غرض لخلقة الإنسان، وكمال عائد إليه، ولو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله ، كان هو الغرض الأقصى والعبادة غرضاً متوسطاً ـ وربما هذا معنى قول الإمام (عليه السلام): ((ليعرفون)) ـ.
لا يقال كون اللاّم في ( لِيَعْبُدُونِ ) للغرض يعارضه قوله تعالى: ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) فإن الظاهر كون الغرض من الخلقة الاختلاف.
كما يعارض قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ ) الأعراف / 179 . فظاهره كون الغرض من خلق كثير من الجن والإنس دخول جهنم.
لأنه يقال: أما الآية الأولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، وأما الثانية فاللاّم للغرض لكنّه غرض تبعي وبالقصد الثاني، لا كما في
( لِيَعْبُدُونِ).
فإن قلت: مراد الله لا يتخلّف عن إرادته، فإذا أراد الله شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلو كانت اللاّم للغرض لما تخلّف الناس عن العبادة، ومن المعلوم المشاهَد أن كثيراً من الناس لا يعبدونه تعالى، فاللاّم ليست للغرض.
فالجواب: إنما يرد الإشكال لو كانت اللاّم من الجن والإنس للاستغراق، فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له وتخلّفاً عن الغرض، والظاهر ـ والظواهر حجة ـ أن اللاّم فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقق للغرض، ولا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد. نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، ولله سبحانه في النوع غرض، كما أن له في الفرد غرضاً.
وإن قيل: اللاّم للغرض ولكن المراد من العبادة العبادة التكوينية وليس التشريعية ـ التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية التي فيها الثواب والعقاب ـ فيكون كما في قوله تعالى: ( وَإِن مِن شَيْ ءٍ إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ ) الإسراء / 44 . فالعبادة تكوينية للجن والإنس كالتسبيح التكويني لكل شيء.
فالجواب: لو كانت تكوينيّة، فلماذا خصص الله الجن والإنس بهما ؟ كما أن سياقها سياق توبيخ الكفار على ترك عبادة الله التشريعية، وتهديدهم على إنكار المعاد، وذلك يتعلق بالعبادة التشريعية دون التكوينية.
فاللاّم في ( لِيَعْبُدُونِ) ، للغرض، وفي ( الْجِنّ وَالْإِنسَ ) للجنس، والمراد من العبادة العبادة التشريعية، بمعنى أن ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام وركوع ونحوهما، غرض مطلوب لأجل غرض آخر، هو المثول بين يدي الله سبحانه.
فحقيقة العبادة نصْبُ العبد نفسه في مقام الذلّة والعبودية، وتوجيه وجهه إلى مقام ربّه، وهذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة، يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة، وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كل شيء ويذكر ربّه الغني المحض والعزيز المطلق، فيرى نفسه فقيراً مملوكاً لربّ العالمين، فيسلّم أمره إليه، فإنه هو الضار وهو النافع. والإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا نشوراً.
وأوّل العلم معرفة الجبار، وآخر العلم تفويض الأمر إليه، والإنسان الكامل بين المعرفة والتفويض: ( قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ) الفرقان / 77 . وعبادتكم، فإن (( الدعاء مخّ العبادة )) ـ كما ورد في الخبر الشريف ـ والعبادة هي غرض الفعل، أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل.
ويظهر من النفي والاستثناء في الآية الشريفة، الذي هو من القصر ـ كما في علم البلاغة ـ أن لا عناية لله بمن لا يعبده ـ كما يفيده قوله تعالى: ( قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ) وهذا يدل على أهمية الدعاء والعبادة. ولعل تقديم الجن على الإنس في آية ( لِيَعْبُدُونِ) لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى: ( وَالْجَانّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ) الحجر / 27.
ثم قد وقع نزاع بين الأعلام في علم الكلام في معرفة الله سبحانه، بأنها اكتسابية ونظرية، أو أنها بديهية وضرورية، والحق أنها من النظريات كما عند محققي المتكلمين في قولهم: إن النظر أوّل الواجبات على المكلّفين.
وإن الآيات القرآنية والروايات الشريفة تحث الإنسان على النظر والاستدلال والتعقّل والتفكّر والتدبّر في المعرفة بالله تعالى وتوحيده وكمال قدرته وعلمه وغاية حكمته. قال الله تعالى: ( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْ ءٍ ) الأعراف /185.
وقال سبحانه وتعالى: ( الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) الملك / 2.
فخلقنا برحمة الله للعبادة بعلم ومعرفة، وإنما الدنيا دار امتحان، والغاية منه تكميل النفوس وتقرّبها إلى بارئها فإلى الله المنتهى، وإن الإنسان كادح إلى ربّه كدحاً فملاقيه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
المعرفة الحقة:
والمعرفة لا تكون نصيب النفوس المنافقة والمريضة الرجسة والمتلوّثة بالذنوب والمعاصي والصفات الرذيلة، بل لابد من قلب زكي نقي طاهر لا فساد فيه ولا مرض، ولا يكون ذلك إلاّ بالعبادة والخضوع لله سبحانه والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، فبرحمة الله خلق الإنسان، ولإيصال رحمة الله ـ الرحمانية والرحيميّة ـ كلّف العباد من غير حاجة منه سبحانه في خلقهم ولا في تكليفهم ولا ليربح عليهم، وما أرسل الرسل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب، إلاّ لتعميق وترسخ هذه المعرفة، وتركيز الحب الإلهي والعشق الربّاني الصمداني في النفوس الطاهرة والأرواح الزكيّة
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) النحل / 36. فلا بد في إيمان العبد ومعرفته من إثبات ( أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ ) ورفض ( وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) فعلى الإنسان أن يبذل كل ما في وسعه في تحصيل معرفة الله، ويبلغ الغاية التي خلق لأجلها.
وبالمعرفة يصل الإنسان الكامل إلى قاب قوسين أو أدنى، إلى جنة عرضها السماوات والأرض ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّماوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) آل عمران / 133.
رأس التقوى المعرفة والعلم:
أجل: العلم والعبادة جوهران، لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما بينهما، ولأجلهما أُنزلت الكتب من السماء وأُرسلت الرسل، فهما كل شيء.
وحقيق علينا وعلى كل إنسان فهم الحياة وكشف سرّ الخلقة، أن لا يشتغل إلاّ بهما ولا ينظر إلاّ فيهما فما سواهما لغو لا حاصل له . . ولمثل هذا يقول الإمام السجاد (عليه السلام): (( لو علمتم ما في طلب العلم لطلبتموه ولو بسفك المُهج وخوض اللُّجج )) هذا في مقدار وكيفية السعي، وأمّا في الزمان فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (( اطلب العلم من المهد إلى اللحد )) أي طيلة الحياة، وأمّا في المكان فقد قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (( اطلبوا العلم ولو في الصين )) كناية عن البعد المكاني.
وأشرف الجوهرين: العلم، فقد جاء في (الكافي ج1 ص33) عن مولانا الباقر (عليه السلام): (( عالم ينتفع بعلمه ـ هو ينتفع بعلمه كما أن الناس ينتفعون من علمه ـ أفضل من سبعين ألف عابد )).
فلابد للعلم من عمل وعبادة، وهذا معنى العلم النافع والانتفاع به، وإلاّ كان العلم هو الحجاب الأكبر، ولم يزد صاحبه من الله إلاّ بُعداً ـ كما ورد في الخبر ـ فالعلم بلا عمل كليلة بلا قمر ـ كناية عن الظلام والظلمة ـ وإن العلم بمنزلة الشجرة اليانعة، والعمل والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها، فالشرف للشجرة، إذ هي الأصل، لكن الانتفاع بثمرتها، فلا بد أن يكون لنا من كلا الأمرين حظ ونصيب ـ فمن أخذ أخذ بحظ وافر ـ وإن العلم علم الدين والباقي فضل إنما العلم ثلاث: آية محكمة ـ علم العقائد ـ وفريضة عادلة ـ علم الفقه ـ وسُنّة قائمة ـ علم الكلام ـ وما سواهن فهو فضل(2) فعلم الدين فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبالعلم يكون الإيمان، والعبادة الصحيحة تورث في القلب صفاءً يجعله مستعدّاً لحصول نور فيه، وليس العلم بكثرة التعلم، إنما العلم نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه(3)، ومن علم وعمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، ومن تعلّم لله وعمل لله وعلّم لله دُعي في السماوات عظيماً.
إن تحصيل العلم مقدّم على العبادة، وإن من لم يعرف المعبود ولا صيغة العبادة ولا آثارها أنّى تأتي له العبادة؟ وكيف يكون عمله صائباً؟
فثمر العلم الطاعة والعبادة، وإن العلم أمام العمل والعمل تابعه.
والعبادة على قسمين:
1 ـ العبادة الظاهرة التي هي من تقوى الجوارح والأبدان، كفعل الطاعات الظاهرة، كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك من العبادات والمعاملات، وترك المعاصي الواضحة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك مما يوجب دخول النار، ويسمّى العلم بالمتعلق بذلك: علم الشريعة وعلم الفقه.
2 ـ العبادة الباطنة التي هي من تقوى القلوب والأرواح، وإذا صلح القلب صلحت الجوارح، فإن القلب سلطان البدن، والناس على دين ملوكهم، فتقوى القلب وإصلاح السريرة والسيرة أبلغ في الوصول من العمل بالجوارح، كالتخلّق بالصفات الحميدة من الإخلاص والتوكّل على الله والصبر والشكر وغير ذلك، والتجنّب عن الملكات الرذيلة كالحسد والكبر والعجب والرياء وقول الزور والظلم، وسمّي العلم المتعلق بذلك: علم السرِّ وعلم الأخلاق.
وكلتا العبادتَين فريضة على كل مسلم ومسلمة، لورود الأمر بهما جميعاً في الكتاب والسّنة كقوله تعالى: ( وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الأنعام / 151 . والتكليف بكلتيهما إنما هو بقدر الوسع والطاقة ( لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَهَا ) آل عمران / 282. والقلوب أوعية ولكن خيرها أوعاها، فلكل منها درجات في الكمال والنقص وزيادة القرب من الحق بحسب اختلاف الناس ودرجاتهم في تحمّلها والعلم بها، وإن الطرق لله بعدد أنفاس الخلائق.
ولكن الناس في العبادة على أقسام ثلاثة ـ كما ورد في الخبر ـ منهم من يعبد الله خوفاً من ناره وعذابه ، وهذا مثل عمل وعبادة العبيد، و منهم من يعبد الله طمعاً في جنّته وثوابه ، وهذا مثل فعل التجار، فعملهم إنما هو للرّبح، الأكثر فالأكثر، ومن الناس ـ وهم أولياء الله المقرّبون والخُلّص من عباده ـ من يعبدونه شوقاً وحباً وشكراً على نعمائه وآلائه، ووجدوا الله أهلاً للعبادة.
النتيجة:
فغاية الخلق وسر الحياة: العلم والعبادة المتبلورة بالرحمة الإلهّية، والجن والإنس كلّفوا بكسب العلم والعبادة، وعلى كل فرد أن يكون عارفاً بالله عابداً ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ) الحمد / 3.
وأما الامتحان والابتلاء والبلاء الإلهي والفتن والحوادث الكونية، إنّما هي ليعلم الناس أيّهم أحسن عملاً، ومن ثمَّ أحسن عقلاً ومعرفة، إذ حسن العمل والعبادة بعد حسن المعرفة والعلم بعلم الله وقدرته ونتيجة ذلك تكامل الإنسان وبلوغ القمة والوصول إلى الله سبحانه.
وما أروع ما يقوله صدر المتألهين الشيرازي(4): (فلا غاية له ـ أي الله سبحانه ـ في فعل الوجود إلاّ أفاضة الخير والجود، بل ليس لجوده غاية سوى وجوده، إذ هو غاية الغايات ونهاية النهايات، إليه ينتهي كل موجود، وبه يقضى كل حاجة ومقصود، إنما الغاية في فعله لما سواه من ذوي الفقر والحاجة وأولي المسكنة والفاقة، هو إيصال كل واحد إلى كماله، وإرواء كل وارد من مشرب جماله، إذ لم يخلق هذا الجسماني الفسيح والفلك الدوّار المسيح، إلاّ لأمر عظيم خطير، أعظم من هذا المحسوس الحقير).
فالغاية والمقصود من المخلوقات (هو إيصال كل واحد إلى كماله).
وقد ورد عن الإمامين الصادقين (عليهما السلام): (( الكمال كل الكمال: التفّقه في الدين والصبر على النائبة والتقدير في المعيشة )) وهذا يعني أن كمال الإنسان في كل أبعاده، العلمي والعملي، الفردي والاجتماعي، المادي والمعنوي، إنما هو في درجات ثلاث(5).
1 ـ الحركة العلمية (التفقه في الدين) فإن الفقه بمعنى الفهم، وهو يرادف العلم أو يلازمه.
2 ـ الحركة الخُلُقية (الصبر على النائبة) فإن أساس الأخلاقيات هو الصبر، والفرد الشاخص له هو الصبر على النائبة.
3 ـ الحركة الاقتصادية (التقدير في المعيشة) فيكون عيشه بقدر معلوم من دون إفراط وتفريط، يراعي الجانب الاقتصادي في حياته.
وخلاصة الكلام:
فلسفة الحياة ـ التكامل بالرحمة والعلم والعبادة ـ الإنسان بدايته: خلافة الله في الأرض، نهايته إلى الله.
هذا وللدعاء والتوسل بالله وبشفاعة أوليائه، التأثير البالغ في تكامل روح الإنسان وتعاليه وبلوغ مناه، فنسأله بلطفه وكرمه وجوده أن يوفّقنا لكل خير ولما يحب ويرضى ويسعدنا في الدارين.
ــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان / ج 18 / ص 386.
2 ـ لقد ذكرنا بيان هذه الرواية النبوية في كتاب (عقائد المؤمنين) و (درس اليقين في معرفة أصول الدين) فراجع.
3 ـ جاء في الخبر ذلك (البحار / ج1/ ص225).
4 ـ الواردات القلبية في معرفة الربوبية/ ص58.
5 ـ لقد ذكر بيان ذلك في كتاب (عقائد المؤمنين) و (دروس اليقين في معرفة أصول الدين) وكتاب (التوبة والتائبون) فراجع.
source : http://www.alhassanain.com/arabic/show_articles.php?articles_id=705&link_articles=beliefs_library/general/ma_hoa_ser_alkhalifa_wa_falsafat_alhayat