السؤال: إنّه ليحزّ في نفسي أن أجد مثل هذه الإجابة الفجّة الخاطئة من منسوبي طائفة نكنّ لها كلّ الودّ والحبّ ، ولم يدر في خلدي أبداً أنّ إخواننا الإمامية سوف يقعون في نفس المستنقع الذي وقع فيه غيرهم من دعاة الفرقة والتناحر ، الذين يكيلون التهم جزافاً ، ويرمون المؤمنين بما هم منه براء ، طلباً منهم إلى إشباع رغباتهم ، وتحكيم أهوائهم بلا دليل ولا برهان ، وإمعاناً منهم في زيادة الهوة ومساهمة في توسيع دائرة الفرقة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ونقول : مع الأسف لقد جازف المجيب في كثير من المعلومات التي أوردها ولم يحالفه التوفيق ، لأنّه لم يراع حرمة الأمانة العلمية ، ولم يتوخّ الدقّة والإنصاف فيما أورده .
وبالرغم من أنّني لن أردّ على جميع الأخطاء التي وردت في مجمل إجابتك ، لكن سوف أُعلّق على بعض النقاط ، آمل أن تجد عندكم إنصافاً ، وأن تأخذ مكانها كملحق على الإجابة السابقة .
أوّلاً : كأنّك تشير بطرف خفي أنّ جميع الأحاديث الواردة في مدى الحبّ والتقدير الشديدين من الإمام الصادق (عليه السلام) للإمام إسماعيل تعتبر عن مجرد احترام ظاهر ، وكأنّك تريد أن تقول : إنّ الإمام جعفر (عليه السلام) كان يبطن شيئاً آخر اتجاه ابنه الأكبر إسماعيل ، وهذا ما تنفيه الروايات الصحيحة عنه في كتب السيرة ، وفي كتب الإمامية على وجه الخصوص .
ثانياً : أردت أن تحوّر الحادثة الفريدة ، والتصرّف الذي لم يسبق له مثيل عند كشف جنازة الإمام إسماعيل ، والإشهاد عليها ، لتلويها بما يوافق هواك .
فلئن كان الصادق (عليه السلام) يتخوّف على محبّي إسماعيل من اعتقاد إمامته ، فإنّ هذا لعمري لأكبر دليل أنّ الأمر قد تفشّى في الشيعة أنّه الإمام بعد أبيه ، وقد كان بإمكانه أن ينصّ على أحد أبنائه الآخرين جهراً ، وينفي الإمامة منه بدلاً من أخذ الشهادات على وفاته بهذه الطريقة الغريبة .
وممّا لا جدل فيه : إنّ كثيراً من الشيعة يعلمون أنّ الإمامة في إسماعيل
|
الصفحة 279 |
|
في حياة الصادق (عليه السلام) بشهادة الكثير من الإمامية ، ومنهم على سبيل المثال النوبختي في كتاب فرق الشيعة وغيره ، وبشهادتك نفسك حيث قلت : وعلى هذا الرأي أكثر الإسماعيلية ، الذين عاصروا الإمام الصادق (عليه السلام) .
ومن فمك أدينك ، وفي هذا ما يدلّ على أنّ الهوى قد حجبك عن رؤية الحقيقة .
ثالثاً : قولك : إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم ينصّ يوماً ما على أنّ الإمام بعده إسماعيل .
فهو قول تخالفه الروايات والوقائع التاريخية ، ورويتم مثل ما روينا أنّ الإمامة في إسماعيل ، وعندما أعيتكم الحيل لجأتهم إلى أنّ المشيئة الإلهية قد تغيّرت إرضاء لهواكم ، فاخترعتم نظرية البداء الباطلة ، بقولكم المزعوم : " ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل " (1) ، فلا تحاولوا تفسيرها بشيء من التلفيق والتأويل المعوج عندما انكشفت للجميع وظهر بطلانها ، ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر .
رابعاً : ادعاؤك أنّ الإسماعيلية ترى أنّ الجانب الباطني للشريعة أهمّ من الجانب الظاهري ، فقول من جانبه الصواب ولم ينظر بعين الإنصاف ، فالإسماعيلية المحقّة أتباع الأئمّة الفاطميين الأطهار ، تطفح تآليفهم بالردّ على من يدّعي ترجيح أيّ جانب على الآخر ، وإنّما يرون أنّهما سيّان ، يؤكّد كلّ منهما الآخر ، ويشدّه ويؤيّده ، وإن استطعت أن تنقل لنا مصدر معلوماتك فأورده مشكوراً لنتدبّره ، ولا أظنّك تستطيع .
أمّا قولك : وإنّ الاهتمام لابدّ وأن يكون بباطن الشريعة ، وأمّا ظاهر الشريعة فلا يتقيّدون به أبداً فأطم وأشنع ، ومن يكيل التهم جزافاً فالله حسيبه .
وقولك : أنّ الإمام المعزّ لدين الله هو الذي أعاد أحكام الشريعة فبهتان عظيم ، وقول مفترى عار عن الصحّة ، تكذّبه الحقائق التاريخية ، ومؤلّفات
____________
1- المسائل العكبرية : 100 ، تفسير القمّي 1 / 40 .
|
الصفحة 280 |
|
علمائنا عن بكرة أبيهم ، وليس له سند علمي ولا تاريخي ولا نقلي ، وإنّي أربأ بإخواننا الإمامية ، وهم الذين اكتووا وتضرّروا كثيراً من أقوال المشنّعين المفترين ، أن يسلكوا هذا المسلك المخزي من الكذب والبهتان والمجازفة بالتهم الشنيعة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وأربأ بهم عن كيل الأباطيل على طائفة كبيرة ملأت الأرض نوراً وعلماً ، وأعادت للإسلام ولمذهب أهل البيت (عليهم السلام) رونقه وبهاءه بعد اندراسه ، وأحيوا ما أماته الظالمون منه ، فعاد غضّاً طرياً كما كان بديئاً ولو كره الظالمون .
خامساً : أمّا افتراءاتك على الإمام الحاكم بأمر الله معزّ الإسلام وبدر التمام ، صاحب العلوم المضيئة والأنوار البهية فكسابقتها مبنية على غير أساس ، فمن يتصدّر للإجابة والفتوى فيما لا يعلم فتلك مصيبة عظيمة ، ومنقصة لا تليق بإخواننا الإثنا عشرية ، وكان الأولى بك أن ترجع إلى الكتب التي ألّفها الإمام الحاكم ودعاته الأبرار في الردّ على انحراف الدروز واعتقادهم الفاسد ، وتبرئ الإمام الحاكم من باطلهم وكفرهم لا أن تحكّم الهوى ، وتبني أحكامك على أقوال المتخرّصين من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) ، راجع على سبيل المثال : كتاب الرسالة الواعظة في الردّ على ترهات الدروز وضلالهم ، من تأليف حميد الدين أحمد بن عبد الله الكرماني ، أكبر دعاة الإمام الحاكم بأمر الله ، فقد أتى فيها من الحجج والبراهين بما يفنّد زورك وكذبك .
سادساً : أمّا كلامك الموجّه إلى الآغاخانية في عدم تقيّدهم بشيء من ضروريّات الدين ، فليس لدي المعرفة الكافية عن ممارساتهم ، وعيب بي أن أتصدّر للردّ نيابة عنهم حمية بلا علم ولا دليل ، والتهمة متوجّهة إليهم والردّ متحتّم عليهم .
هذا ما أحببت أن أضيفه ، والله يجمع أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) إلى ما فيه صلاحها ، وأن يبعدها عن ما يوقعها في شباك الفرقة والتنابز بالألقاب ، ورمي الغافلين بما هم منه براء .
|
الصفحة 281 |
|
الجواب : لعلّ من الطبيعي أن تدافع عن عقيدتك بهذا الدفاع ، وترى ما يقال عنها خاطئاً ، ولكن مثل ما تدعو جميع الفرق للبحث عن الحقيقة ومعرفة الفرقة الناجية ، لابدّ أن يكون الكلام شاملاً لكم ولنا أيضاً ، فنحن ندعو جميع المسلمين للبحث الموضوعي البعيد عن التعصّب والعاطفة ، ومن حقّك أن تستمر في متابعة أقوالنا ، ولك الحقّ في الردّ على أيّ قول لا تراه صحيحاً ، حتّى نتوصّل وإيّاك إلى معرفة الحقيقة .
وهذا لا يعني أنّنا نسعى للفرقة والتناحر ، بل نحن مع الحوار الهادئ المبني على الودّ والمحبّة لجميع من يطلب الحقيقة ، ونحن نجيب عن النقاط التي ذكرتها ونرجو الوصول إلى الحقّ من دين محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) .
أوّلاً : أنّ ما يبطنه الإمام الصادق (عليه السلام) لإسماعيل هو أنّه ليس الإمام بعده ، وإن كان يظهر له الحبّ والاحترام هذا ما كنّا نعنيه ، وإذا وردت من الروايات ما يشير إلى وجود احترام وتقدير ، فإنّ الإمامة الصحيحة لا تعرف بالحبّ والاحترام ، بل تحتاج إلى تعريف من الله تعالى أنّه هو الإمام ، والإمام الصادق (عليه السلام) كان يعلم أن إسماعيل ليس هو الإمام بعده لعلامات موجود فيه ، يعرفونها منذ ولادته ، ويتناقلونها أباً عن جدّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فالتعامل معه كان لا يتعدّى الحبّ والتقدير لأحد أبنائه بل أكبرهم .
ثانياً : نحن لا ننكر أنّ بعض الشيعة قد توهّم أنّ الإمام بعد الصادق (عليه السلام) هو إسماعيل ، باعتبار أنّه أكبر الأولاد ، وهذا التوهّم لا يكفي في جعل إسماعيل إماماً ، بل لابدّ من نصّ ، والنصّ موجود في حقّ أخيه ، وما فعله الإمام الصادق (عليه السلام) من أخذ الشهادات هي شيء إضافي ، ليثير انتباه المتوهّمين ، وللتأكيد عدم الإمامة في إسماعيل ، وهذا الوهم الحاصل عند بعض الشيعة الناتج من كون إسماعيل أكبر الأولاد هو الذي أشرنا إليه بقولنا : وعلى هذا أكثر الإسماعيلية.
ونحن نذكر لك نصّاً واحداً أشار فيه الإمام الصادق (عليه السلام) على إمامة موسى الكاظم ، وهناك المزيد ، فعن أبي جعفر الضرير ، عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه ، فسألته عن قبالة الأرض ، فأجابني فيها ،
|
الصفحة 282 |
|
فقال له إسماعيل : يا أبه ، إنّك لم تفهم ما قال لك !
قال الراوي : فشقّ ذلك عليّ ، لأنّا كنّا يومئذ نأتمّ به بعد أبيه ، فقال الإمام لإسماعيل : " إنّي كثيراً ما أقول لك : الزمني وخذ منّي فلا تفعل " ، قال : فطفق إسماعيل وخرج ، ودارت بي الأرض ، فقلت : إمام يقول لأبيه : إنّك لم تفهم ، ويقول له أبوه : " إنّي كثيراً ما أقول لك تقعد عندي ، وتأخذ منّي ، فلا تفعل " !
قال : فقلت : بأبي أنت وأُمّي ، وما على إسماعيل أن لا يلزمك ؟ ولا يأخذ عنك ، إذا كان ذلك وأفضت الأُمور إليه ، علم منها الذي علمته من أبيك حين كنت مثله ؟ قال : فقال : " إنّ إسماعيل ليس منّي كأنا من أبي " .
قال : فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ثمّ إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فمن بعدك بأبي أنت وأُمّي ؟ فقد كانت في يدي بقية في نفسي ، وقد كبرت سنّي ، ودقّ عظمي ، وجاء أجلي ، وأنا أخاف أن أبقى بعدك ، قال : فرددت عليه هذا الكلام ثلاث مرّات ، وهو ساكت لا يجيبني ، ثمّ نهض في الثالثة وقال : " لا تبرح " ، فدخل بيتاً كان يخلو فيه ، فصلّى ركعتين ، يطيل فيهما، ودعا فأطال الدعاء ، ثمّ دعاني ، فدخلت عليه ، فبينا أنا عنده ، إذ دخل عليه العبد الصالح ، وهو غلام حدث ، وبيده درّة ، وهو يبتسم ضاحكاً ، فقال له أبوه : " بأبي أنت وأُمّي ، ما هذه المخفقة التي أراها بيدك " ؟
فقال : " كانت مع إسحاق يضرب بها بهيمة له ، فأخذتها منه " ، فقال : " أدن منّي " ، فالتزمه وقبّله وأقعده إلى جانبه ، ثمّ قال : " إنّي أجد بابني هذا ما كان يعقوب يجد بيوسف " .
قال : فقلت : بأبي أنت وأُمّي ، زدني ... .
قال الإمام الصادق : " قم ، فخذ بيده ، فسلّم عليه أي على الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) فهو مولاك وإمامك من بعدي ، لا يدّعيها فيما بيني وبينه أحد إلاّ كان مفترياً ، يا فلان إن أخذ الناس يميناً وشمالاً فخذ معه ، فإنّه
|
الصفحة 283 |
|
مولاك وصاحبك ، أمّا أنّه لم يؤذن لي في أوّل ما كان منك " .
قال : فقمت إليه فأخذت بيده فقبّلتها ، وقبّلت رأسه ، وسلّمت عليه ، وقلت: أشهد أنّك مولاي وإمامي ... ، إلى أن يسأل الراوي الإمام : بأبي أنت وأُمّي أخبر بهذا ؟ قال : " نعم ، فأخبر به من تثق به ، وأخبر به فلاناً وفلاناً رجلين من أهل الكوفة وارفق بالناس ، ولا تلقين بينهم أذى " .
قال : فقمت فأتيت فلاناً وفلاناً ، وهما في الرحل ، فأخبرتهما الخبر ، وأمّا فلان فسلّم ، وقال : سلّمت ورضيت ، وأمّا فلان فشقّ جيبه ، وقال : لا والله لا أسمع ولا أطيع ، ولا أقرّ حتّى أسمع منه ... .
فلمّا جاء إلى الإمام قال له : " ابني موسى إمامك ومولاك بعدي ، لا يدّعيها أحد فيما بيني وبينه إلاّ كاذب ومفتر " (1) .
والحادثة الفريدة التي ذكرناها تصرّف طبيعي من إمام معصوم ، وزعيم لطائفة الحقّ في أن يدفع عن اتباعه أيّ توهّم ، كأن يعتقدوا بقاء إسماعيل حيّاً وغيبته ، ولا يحكم العقل بأنّه لا يكون مثل هذا التصرّف من الإمام (عليه السلام) إلاّ إذا كان أكثر الشيعة يعتقدون بإمامة إسماعيل ، بل العقل يحكم بالعكس ، وأنّ وظيفة الإمام (عليه السلام) الذي هو لطف من الله تحتّم عليه دفع الشبهات ، حتّى عن العدد القليل من أصحابه ، بل الواحد ، بل قد يحصنهم قبل الشبهة ، والشواهد من الروايات على ذلك كثيرة ، فاستفادة أكثر الإسماعيلية من فعل الإمام بإسماعيل هنا ما هو إلاّ توهّم ومبالغة .
فقولك : فإنّ هذا لعمري لأكبر دليل أنّ الأمر قد تفشّى في الشيعة لهو تسرّع في القول لا يقبله العقل العلمي ، ولابأس من الإشارة أنّه بعد أن فعل الإمام (عليه السلام) بإسماعيل ما فعل عاد الكثير ممّن كانوا يتوهّمون أنّ الإمامة ستكون في إسماعيل إلى الحقّ بإمامة موسى الكاظم (عليه السلام) ، وهي الفائدة المرجوة من فعل
____________
1- الإمامة والتبصرة : 66 .