النظام السياسي الذي تم تطبيقه في التاريخ السياسي الاسلامي بدءاً من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان ، يختلف تماماً عن النظام السياسي الاسلامي الالهي الذي انزله الله تعالى على عبده محمد ليسوس المسلمين في كل الازمان .
ومع الاصرار على الوجود المؤكد لهذا الاختلاف فلا بد من التوضيح بأن حجم هذا الاختلاف متفاوت من شخص الى شخص ومن عهد الى عهد .
ومن نافلة القول ان نؤكد بأن هذا الاختلاف لا يخفى على ذي بصيرة لو تركنا التقليد الاعمى ، لانه لو طبق النظام السياسي الاسلامي بعد وفاة الرسول بالشكل والمضمون الالهيين لما :
1 ـ انهارت دولة الاسلام
2 ـ ولما حدثت تلك الفتن والمذابح .
3 ـ ولما تفرقت الامة الاسلامية .
4 ـ ولما توقف المد الاسلامي المبارك عند هذا الحد ولعم الاسلام العالم كله ، فغير تغييراً جذرياً مجرى التاريخ البشري .
في كتاب تجربة في التاريخ العام ( يقول الفيلسوف الانجليزي ولز ، وهو احد ابرز مفكري العصر الحديث : لو ان الاسلام سار سيرته الاولى ولم تنشب الفتن لفتح العالماجمع ) (1)
وعلماء العالم العربي يعتقدون ـ وهذا مبلغهم من العلم ـ ان نظام الخلافة هو عينه النظام السياسي الاسلامي ، وهو عينه الذي يطالبون باعادة تطبيقه ، مع ان النظام السياسي الاسلامي تكون بصورته النهائية وطبق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ان يتكون نظام الخلافة ، لان الخلافة تعني خلافة النبي . فاذا كان النظام السياسي الاسلامي هو نظام الخلافة ، فما هو النظام الذي طبقه النبي ؟ ان النظام الذي طبقه النبي هو النظام السياسي الالهي السابق لنظام الخلافة والذي طبق بحذافيره قبل ان يعرف نظام الخلافة ، وهو الاصل وهو المثال ، وما سواه فروع واشكال تتمدد وتتكيف بحسب قربها او بعدها من الاصل والمثال .
النظام السياسي الاسلامي
هو النظام الذي طبقه النبي ابان الدعوة على علاقته بتابعيه ، ثم طبقه في عصره الراشد بعد ان تحولت الدعوة الى دولة وخلال رئاسته المباركة للدولة والتي استمرت عشر سنين .
وقبل ان ينتقل الى الرفيق الاعلى اكمل الله الدين واتم النعمة وبين كل شيء ـ كل شيء ـ على الاطلاق . وباستقرائه تجد انه نظام الهي معد ومصاغ ليكون النظام العالمي الامثل لعالم امثل ، لانه النظام الالهي بصورته المثلى وبصياغته الاخيرة والنهائية .
اركان النظام السياسي الاسلامي
يقوم النظام السياسي الاسلامي على اربعة اركان متصلة مع بعضها اتصالاً عضوياً يتعذر الفصل بينها . واذا وقع الفصل بينها يفقد النظام صفته الاسلامية بحجم مقدار هذا الفصل ، وعاجلاً ام آجلاً سيتداعى النظام ، لان هذه الاركان هي التي تميزه عن غيره وتكاملها هو وحده الذي يعطي الثمرة المرجوة من تطبيق هذا النظام .
الركن الاول ـ القيادة السياسية
القيادة السياسية في العقائد الالهية عامة ومنها الاسلام تعين ، او ان شئت فقل : ( ترشح ) من قبل الله مباشرة ، كما حدث لداود وسليمان ومحمد .
فالله سبحانه هو نفسه الذي اختارهم انبياء ورؤساء لدول الايمان ، وتبلغوا القرار الالهي بالذات او غير مباشر كاختياره تعالى لطالوت ليكون القائد السياسي لبني اسرائيل ، فقام نبي بني اسرائيل باخبار الاسرائيليين بأن الله قد اختار لكم طالوت ملكاً ، فاحتج الاسرائيليون فزعموا ان طالوت غير جدير بالملك ، فبين الله انه اهل لذلك لاسباب كثيرة منها : ان الله زاده بسطة في العلم والجسم ، ثم ان الفضل بيد الله وهو الاعلم بمن هو جدير بهذا الفضل ، وكاختياره تعالى لعلي بن ابي طالب ليكون ولياً للامة بعد وفاة وليها ، وتبليغه بهذا الاختيار بواسطة محمد على مرأى ومسمع من مأة الف مسلم في حجة الوداع .
ما هي الغاية من الترشيح الالهي للقيادة السياسية ؟
لان هدف المحكومين المصفى من الغرض والشهوة هو ان يتولى قيادتهم الاعلم والافضل والانسب على وجه الجزم واليقين ، وتلك امور خافية عليهم ويتعذر وفق امكانياتهم ان يجزموا جميعاً بأن هذا او ذاك هو الاعلم والافضل والانسب على وجه الجزم واليقين . فرحمة من الله تعالى بخلقه المؤمنين بين لهم بأن مرادهم هو فلان ... اذا كانوا حقيقة صادقين بالبحث عن الافضل والاعلم والانسب ، لان القيادة عملية فنية واختصاص وهي في الغالب خلافة لنبوة ، ومن مهام النبوة القدوة والتبليغ والبيان وسعة الصدر بالمحكومين ، والقول الفصل ، بحيث يلتقي فهمه تماما مع المقصود الالهي من كل قاعدة من قواعد المنظمومة الحقوقية الالهية ... وتلك امور لا يمكن ان تترك لاهواء الناس المتباينة وامزجتهم المختلفة .
وهذا الركن هو الفارق العملي الوحيد الذي يميز الانظمة الوضعية عن النظام السياسي الاسلامي . فالانظمة الوضعية تترك الامر لاهواء الناس واجتهاداتهم لاختيار القيادة السياسية الاعلم والافضل والانسب على سبيل الفرض والتخمين لاعلى سبيل الجزم واليقين الذي يتحصل باتباع النمط الالهي .
الركن الثاني ـ الصلة العضوية بين العقيدة الالهية وقيادتها
ما انزل الله كتاباً الا على عبد ، ولا خص البشرية بهداية الا ومعها هاد ، ولا ارسل رسالة الا برسول . فالصلة عضوية بين الكتاب والهداية والرسالة من جهة وبين العبد والهادي والرسول من جهة اخرى . فلا بد من بيان الكتاب وتوضيح الهداية والرسالة وسياسة الاتباع بمقتضاها ، ولتكون الفسحة الواقعة بين البداية والنتيجة محطة ترجمة ونقل للمضامين من النص الى التطبيق ، وبالتالي تجربة غنية تثري الرسالة والكتاب والهداية وتبين ما فيها ولو كان مجدياً العكس لأرسل الله نسخا من كتبه السماوية لكل واحد من المكلفين ، لكنها عملية فنية واختصاص . فمحمد بالذات هو الفني وهو المختص الاوحد ببيان الاسلام بياناً يقينياً يتطابق مع المقصود الالهي في كل نص من النصوص ، وهو بالذات الاعلم بالرسالة والكتاب والهداية ، وهو افضل اتباعها وهو الانسب لقيادة هؤلاء الاتباع سياسياً ، وسياستهم وفق احكامها ومن ينسبه النبي لخلافته بناءً على امر ربه هو بالذات المؤهل لادامة هذه الصلة العضوية بين العقيدة الالهية وبين قيادتها السياسية .
الركن الثالث ـ المنظومة الحقوقية الالهية
الامام او القائد السياسي في النظام السياسي الاسلامي ليس حراً ليحكم برأيه انما هو مقيد بالمنظومة الحقوقية الالهية ، بحيث يكون حكمه في اي امر من الامور متطابقاً تماماً مع الادارة الالهية بحيث يكون التكييف هو عين التكييف الالهي والمضمون عين الحكم الالهي ، لان المنظومة الحقوقية هي من صنع الله وهي بمثابة القانون النافذ الواجب تطبيقه على كل الداخلين في ولاية الامام او القيادة السياسية ، وهذه المنظومة الحقوقية ليست من صنع القائد ولا من صنع المحكومين ، انما هي من صنع الله . وما يبدو لنا انه من قول محمد ما هو في الحقيقة الا ثمرة وحي الهي وبيان لما انزله الله . وهذا فارق آخر بين النظام السياسي الاسلامي وبين الانظمة الوضعية . فالانظمة تسن بنفسها قوانينها وتلزم المحكومين على اتباعها ، بينما في النظام الاسلامي الله هو الذي يضع المنظومة الحقوقية ويلتزم الحاكم والمحكوم باتباعها تحت اشراف الله . فالذين ينفذون القوانين ليسوا عبيداً للحاكم ، انما الحكام والمحكومين عبيد الله ينفذون اوامره ، ويخضعون له وحده ولا لسواه .
الركن الرابع : موافقة المحكومين ورضاهم
الشعب يبحث عن منظومة حقوقية مثلى تحدد له الاهداف العامة والخاصة ، وتبين له وسائل بلوغ تلك الاهداف ويبحث عن قيادة سياسية تكون هي الاعلم بالمنظومة الحقوقية ، وهي الافضل بين كل الموجودين ، وهي الانسب لقيادته وهو حاضر بأمره . فجاءت العناية الالهية لتنقذه من هذه الحيرة وتبين له ان المنظومة الحقوقية التي تحقق ما يريد هي الاسلام بقرآنه وسنة نبيه قوله وفعله وتقريره . اما القائد الاعلم بهذه المنظومة والافضل من بين الموجودين والانسب لقيادة الشعب فهو محمد ، وبعد موته هو الذي ينسبه محمد بأمر من ربه ، ثم الذي يليه ثم يليه ... الخ .
فان وافق الشعب على هذا التكييف الالهي للمنظومة الحقوقية وللقيادة السياسية فقد اهتدى ، ودخل الخير من اوسع الابواب بعد ان قبل بهذا التكييف الالهي . وبالتالي يطبقون المنظومة ويوالون القيادة . وان ابى فان الله لن يجره جراً الى الخير انما يتركه ليجرب ويذوق وبال المعصية ، وليحيا حياة ضنكاً لانه عبر عن رفضة للتكليف الالهي بموالاته لقيادة سياسية غير القيادة التي ارادها ورشحها .
بساطة النظام السياسي الاسلامي
كيف تعرف انك سائر على الدرب الالهي ؟ من يوالي القيادة السياسية التي عينها الله تعالى هو مع الله . فالذين والوا محمداً هم من حزب الله ، والذين عادوا محمداً ووالوا غيره هم من حزب الشيطان حتى لو صلوا الليل كله وصاموا العمر كله ، لان الولاية والموالاة هي القول الفصل بعضوية الحزبين ، كذلك من يوالي وليه من بعده او يعاديه يتحدد موقعه بأحد الحزبين وبحجم هذه الموالاة سلباً كانت ام ايجاباً .
لقد كانت الموالاة لمحمد هي الميزان الحق بين الصادق والكاذب . فقد بنى اناس المساجد وصلوا وانفقوا واعتذروا عن عدم خروجهم مع الرسول ، ولكنه تعالى وسمهم بالنفاق لان ولاءهم لمحمد ليس صحيحاً .
المناخ السياسي الذي نشأت فيه نظرية عدالة كل الصحابة
بعد مقتل الفاروق آلت الامور الى عثمان بن عفان ، وهو بطبعه مولع بحب اقاربه . وبتولية عثمان بدأ بنو امية ينزون حوله واحداً بعد الآخر ، وبدأ هو بتجميعهم حتى اصبحوا رجال الخليفة ومستشاريه ، واصبحت مقاليد الامور عملياً بيد مروان بن الحكم ، حتى ان مروان امر بقتل محمد بن ابي بكر وطائفة من الصحابة دون ان يستشير الخليفة حتى مجرد استشارة ، وختم الامر بخاتم الخليفة والخليفة لا يدري ، وبتعبير علي عليه السلام ( صار عثمان سيفه بيد مروان يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبته الرسول ) (2) .
وما ادراك ما مروان ؟ انه طليق ، ومن المؤلفة قلوبهم ، وابوه الحكم بن العاص كان محرماً عليه ان يدخل المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وفي زمن ابي بكر وعمر . وعندما تولى عثمان ادخله معززاً مكرماً واعطاه مائة الف درهم .
ومما ساعد حزب الطلقاء ايضاً على تكوين دولتهم عبد الله بن ابي سرح والي مصر بكل خيراتها . وما ادراك ما عبد الله بن ابي سرح ؟ انه الذي افترى على الله الكذب ، واباح الرسول دمه حتى ولو تعلق بأستار الكعبة ـ كما يروي صاحب السيرة الحلبية في باب فتح مكة ـ وجاء به عثمان يوم الفتح يطلب الامان له ، وسكت الرسول على امل ان يقتل عبد الله خلال فترة سكوته ، ولما لم يقتل اعطاه الامان . ثم ان الغرسة التي زرعت في زمن ابي بكر ، وهي معاوية ، ضربت جذورها في الارض ، فقد ضل والياً على الشام عشرين عاماً يجمع كما يشاء عملياً ويعطي كما يشاء .
مروان الطليق ، ومعاوية الطليق ، وعبد الله بن ابي سرح الطليق ، والوليد بن عقبة الطليق ايضا صلى الصبح اربعا وهو والى الكوفة ، كلهم على مدرسة ابي سفيان حتى ان ابا سفيان حاول ان يخرج عثمان من مدرسته فقال يوما لعثمان : روى الجوهري انه لما بويع لعثمان قال ابو سفيان : كان الامر في تيم وانى لتيم هذا الامر ، ثم صارت لعدي فأبعد وابعد ، ثم رجعت لمنازلها واستقر الامر قراره فتلقفوها تلقف الكرة . وقال لعثمان يوماً : بأبي انت وامي ، انفق ولا تكن كأبي حجر وتداولوها يا بني امية تداول الولدان الكرة ، فوالله ما من جنة ولانار . وكان الزبير حاضراً فقال عثمان لابي سفيان ( اغرب ) فقال ابو سفيان ( يا بني أهاهنا احدا ؟ ) فقال الزبير ( نعم والله لا كتمتها عليك ) (3) .
وبايجاز قال مروان بن الحكم عمليا وبحق ـ كما يروي ابن الاثير في تاريخه الجزء الثالث قبيل مقتل عثمان ـ شاهت الوجوه تريدون ان تسلبوا منا ملكنا ، فقد اصبحت الخلافة في اواخر عهد عثمان ملكا امويا ، فلا تجد مصراً الا وواليه اموي طليق او موال لبني امية . فأي خليفة سيأتي بعد عثمان اما ان يصبح اداة بيد الامويين او يدخل ليلاً مظلماً ويسير على ارض مليئة بالعثرات والالغام .
ونتيجة الفتوحات كثر عدد المسلمين الاحداث والمنتفعين من الدولة كدولة ، وقل عدد الصحابة الاجلاء الذين قامت الدولة المحمدية على اكتافهم ، واصبح الصحابة السابقون كشعرة بيضاء في جلد ثور اسود من حيث العدد ، ومن حيث المصائب المتربصة بهم اصبحوا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ـ على حد تعبير الامام شرف الدين العاملي ـ وتلك امور لم تكن خافية على معاوية الذكي ، فقال معاوية مهدداً قبل قتل عثمان ( ما انتم في الناس الا كالشامة السوداء في الثور الابيض ) .
كل الولايات اموية او موالية لبني امية ، ومعاوية بن ابي سفيان قائد الاحزاب ورضيع هند بنت عتبة اصبح قطب الرحى . فهو والي الشام كلها ، ومركز الدائرة ، وهو الوصي على بني امية ، ومن اعطى نفسه الحق بالمطالبة بدم عثمان او ان شئت فقل : رفع شعار المطالبة بدم عثمان ليضمن استمرار الملك الاموي ، لان القضية ليست قضية قتل عثمان ، فهذا عمر قتل وسارت الامور من بعده ، انها قضية الملك الاموي . هذا الملك الذي نشأ عملياً من الناحية الفعلية يوم ولى ابو بكر يزيد بن ابي سفيان . وتوطد الامر لمعاوية ولبني امية وانقلب في آخر عهد عثمان الى ملك حقيقي . وهذا معنى قول مروان : شاهت الوجوه تريدون ان تسلبوا منا ملكنا !
قتل عثمان ليس قضية ، ومعاقبة القتلة ليس هو المحور ، لان معاوية اصبح الخليفة فيما بعد ولم يعاقب القتلة ، القضية هي الملك ! قتل الروح المؤمنة ليس بذي قيمة ، الم يصدر مروان بن الحكم امرا بقتل محمد بن ابي بكر ومن معه من الصحابة بدون جريرة وذنب ؟ أليس معاوية هو قاتل الحضرمي الذي كتب فيه ابن زياد انه على دين علي ؟ الي معاوية هو قاتل عمرو بن الحمق الذي اخلقت العبادة وجهه ؟ اليس معاوية هو قاتل حجر بن عدي واصحابه العابدين المخبتين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؟ او ليس معاوي هو الذي سلط ابن زياد الذي قتل عباد الله وصلبهم في جذوع النخل . المهم عند معاوية الملك بالدرجة الاولى والانتقام من قاتل جده وخاله وابن خاله واخيه .
وقد انتهز معاوية فرصة حروب الجمل فأخذ يحرض طلحة والزبير وعائشة ويظاهرهم ، وكان يعد طلحة والزبير بالبصرة والكوفة بأن يحكم كل واحد منهما احداهما ، حتى اذا انتهت الحرب بهزيمة من اثاروها اشعل الحرب بينه وبين علي ... (4) .
يقول الاستاذ عباس العقاد في كتابه معاوية في الميزان : كانت لمعاوية حيلته التي كررها واتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومة في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة العلم الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومة بالقاء الشبهات بينهم ، واثارة الاحن فيهم ، ومنهم من كان من اهل بيته وذوي قرباه . كان لا يطيق ان يرى رجلين ذوي خلط على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الاخطار مما يعنيه على الايقاع بينهم (5) .
ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظاً كبيراً من الحيلة والرؤية . فلو انه استطاع ان يجعل من كل رجل في دولته حزباً منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل ، ولو حاسبه التاريخ الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات ، ولكن العبرة لقارىء التاريخ في زنة الاعمال والرجال ان نجد من المؤرخين من يسمّي عامه حين انفرد بالدولة ( عام الجماعة ) لانه فرق الامة شيعاً ، فلا تعرف كيف تتفق اذا حاولت الاتفاق ، وما لبث ان تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعاً شيعاً بين ولاة العهود (6) .
واستعمل معاوية بشر بن أرطاة وبعثه الى المدينة والقى الرعب في قلوب الصحابة واذلهم (7) .
وباختصار حصل معاوية على البيعة بالتقتيل والتدمير والتحريق والتفريق بين الناس ، وشتمه انصار رسول الله واصحابه ، واستغل اموال المسلمين التي جمعها خلال عشرين عاما بولايته على الشام لتوطيد سلطانه بعد ان اخرج اموال المسلمين عن مصارفها الشرعية ، ورتب معاوية عطاء اسمه عطاء البيعة ( رزق البيعة ) يعطى للجند عند تعيين خليفة جديد .
تجاهل الهدف المعلن للخروج على الشرعية
لقد عصى معاوية الخليفة الشرعي مطالبا بمعاقبة قتلة عثمان ، وخرجت عائشة ام المؤمنين للمطالبة بمعاقبة قتلة عثمان ، وعندما استولى معاوية بالقوة على امر المسلمين واغتصب رئاستهم ، لم يعاقب قتلة عثمان ولم تخرج عليه ام المؤمنين ولم تطالبه بمعاقبة قتلة عثمان .
الصحوة من الغفلة
استقام الامر لمعاوية واصبح هو القائم مقام النبي ، وهو خليفته على امة محمد ، مع انه الطليق ابن الطليق ، وقاتل هو وابوه الاسلام بكل فنون القتال ، حتى احيط بهما وبمن شايعهما ، فأسلموا رغبة ورهبة .
كيف حدث هذا الانقلاب ؟ كيف هزم الحق ؟ كيف اصبح المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً ؟ كيف اصبح الطليق افضل من المهاجر ؟ كيف اصبح الذي حاصر الاسلام وابناؤه افضل من الذي تحمل الحصار في سبيل الاسلام ؟
ومن عجيب ان العام الذي هزمت فيه الشرعية وانتصرت فيه القوة سمي عام الجماعة !!! واسقط بيد الصادقين ، وعمهم شعور عميق بالندم والاحباط ، وندموا ولات مندم ، لكأنهم كانوا في غفلة ثم استفاقوا على اثر حلم مرعب ، ولما فتحوا اعينهم وصحوا ، تبين لهم ان الحلم المرعب حقيقة .
المصادر :
1- كتاب شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 173 .
2- تاريخ ابن الاثير وراجع تاريخ الطبري باب مقتل عثمان وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 175 وما فوق .
3- شرح النهج لابن ابي الحديد ج 1 ص 307 و 326 و 327 وكتابنا النظام السياسي في الاسلام .
4- شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 174 ـ 175 .
5- معاوية في الميزان لعباس محمود العقاد ص 64 و 66 .
6- نظام الحكم للقاسمي وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
7- شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 187 ـ 188 .