السؤال الثاني : ما بال النبيّ (صلى الله عليه وآله) يغضبه خطبة علي لابنة أبي جهل ، لأنّ ذلك يسيء إلى فاطمة (عليها السلام) ، بينما نجده يغضب لعلي لا عليه حينما أخبره أربعة من الصحابة أنّ علياً اصطفى جارية من السبي عندما أرسله إلى اليمن ، فشكوه في المسجد ، الواحد تلو الآخر على ملأ من المسلمين ، فغضب (صلى الله عليه وآله) عليهم ، وحتّى أبد بعضهم بنظره ، أي نظر إليه نظراً حادّاً ، ثمّ قال : " لا تؤذوني في علي ، لا تشكوا علياً ، إنّ علياً منّي وأنا من علي " .
وقال : " من آذى علياً فقد آذاني ... " إلى آخر ما قال ، فهل اصطفاء علي (عليه السلام) لجارية من السبي لم يبلغ فاطمة (عليها السلام) ، أو بلغها ولم يسئها ذلك ، لأنّها لا تغار منها ؟
السؤال الثالث : ما بال المسور واضرابه لم يسمّوا لنا تلك المخطوبة المحظوظة بهوى علي فيها ، فتركوا أصحاب الحديث والتاريخ والأنساب يخبطون خبط العشواء ، فسمّاها مصعب الزبيري " جويرية " ، فقال في كتابه نسب قريش : " وكان علي بن أبي طالب قد خطب جويرية بنت أبي جهل قبل عتاب ، وهمّ بنكاحها ، فكره ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : " إنّي لأكره أن تجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدوّ الله " ، فتركها علي ، وتزوّجها عتّاب " .
وسمّاها ابن حزم في الجمهرة : الحنفاء ، فقال : " وولد أيضاً أبو جهل الحنفاء ، أراد علي أن يتزوّجها ، فكره ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فتزوّجها عتّاب ابن أسيد " (1) ، وسمّاها ابن حجر في الإصابة العوراء (2) ، فلماذا هذا الاختلاف وبنات أبي جهل كما في كتب الأنساب أربع ؟
____________
1- جمهرة أنساب العرب : 145 .
2- الإصابة 8 / 253 .
|
الصفحة 130 |
|
وإليك أسماؤهن وأسماء أزواجهن نقلاً عن نسب قريش ، المتوّفى 236 هـ ، فهو أقرب زماناً وهوى إلى المسور وإضرابه من رواة تلك الأسطورة .
قال : وكان لأبي جهل أربع بنات : صخرة والحنفاء وأسماء وجويرية ، وأُمّهن أروى بنت أبي العيص .
1ـ كانت الحنفاء بنت أبي جهل عند سهيل بن عمرو بن عبد شمس العامري .
2ـ وكانت أسماء بنت أبي جهل عند الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومي ، فولدت له أُمّ عبد الله بنت الوليد ، تزوّجت أُمّ عبد الله بنت الوليد عثمان بن عفّان ، فولدت له الوليد وسعيد ابني عثمان بن عفّان .
فهل كان زواج عثمان بها بعد موت ابنتي النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟ والجواب عند المسور واضرابه ، لكن ما رواه من قول فاطمة (عليها السلام) لأبيها : " يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك ... " يأبى ذلك .
3ـ وكانت جويرية بنت أبي جهل عند عتّاب بن أسيد بن أبي العيص ... .
قال الزبيري : وكان علي بن أبي طالب قد خطب جويرية بنت أبي جهل قبل عتّاب ، وهمّ بنكاحها ، فكره ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : " إنّي لأكره أن تجمع بين بنت ولي الله وبين بنت عدوّ الله " ، فتركها علي وتزوّجها عتّاب ، فولدت له عبد الرحمن بن عتّاب ، قتل يوم الجمل ، ووقف عليه علي فقال : " هذا يعسوب قريش ، جدعت أنفي ، وشقيت نفسي " .
يا لله من قوم لا يستحيون من الكذب ، أهكذا تبلغ الوقحة بهم أن يرووا ذلك ، هم يترجمون عبد الرحمن بن عتّاب ويذكرون ولادته في آخر حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فيكون عمره يوم قتل 26 سنة ، فهل يعقل أن يقول علي ذلك في إنسان حاربه مع أعدائه ؟ ولم يكن له في تاريخ قريش على اختلاف بيوتاتهم ، وأيّام صولاتهم مقام مشهود ، ولا مقال محمود ، ثمّ يصفه بأنّه يعسوب قريش ، واليعسوب هو سيّد النحل وأميره ... ؟!
|
الصفحة 131 |
|
فبماذا استحقّ منه هذا التقريض ؟ ولماذا منه كلّ هذا التفجّع والتوجّع المزعوم ؟!
ولعلّ قحة قائلهم تبلغ به فيزعم أنّ مبعث ذلك هو حنين نفسه إلى أُمّه ، وليعلم القارئ أنّ جويرية هذه هي التي سبق لها أن قالت يوم فتح مكّة ، وقد سمعت الأذان على ظهر الكعبة : " قد لعمري رفع لك ذكرك ، أمّا الصلاة فسنصلّي ، والله لا نحبّ من قتل الأحبّة أبداً " ، فعلي (عليه السلام) هو أبرز من قتل الأحبّة .
والآن بعد أن بيّنا زيف المسور في روايته ، نعود فنذكّر القارئ مرّة أُخرى بما مرّ منّا سابقاً في أوّل ذكر الرواة ، فنقول : حدث بتلك المثابة من الأهمّية يغضب فاطمة (عليها السلام) ، ويغضب أبوها لغضبها ، فيخرج إلى المسجد ويخطب الناس في ذلك إلى آخر ما مرّ في حديث المسور ، ثمّ لا يرويه من الصحابة الحضور ـ من مهاجرين وأنصار ـ إلاّ المسور ، مع توفّر الدواعي إلى نقله ، خصوصاً عند شانئي علي (عليه السلام) إنّ ذلك لعجيب !!
ولو كان الحدث بحذافيره كما يرويه المسور في حديثه لرواه المخالف قبل المؤالف ، وهذا ليس كفضائله التي أخفاها أولياؤه خوفاً وأعداؤه حسداً ، ومع ذلك شاع من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين .
إذاً ليس من المعقول تصديق المسور في جميع زعمه لتلك القصّة بكامل تفاصيلها ، كما رواها وحده دون بقية الناس الذين خطبهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، اللهم لا يقبل ذلك منه .
والسؤال الآن الذي يفرض نفسه : هل إنّ القصّة مفتعلة أساساً ، أم لها نصيب من الصحّة ولو كان ضعيفاً ؟ إذ ليس من المقبول عقلاً أن يكون المسور على ما هو عليه من البغض والشنآن يختلق قصّة موهومة من عالم الخيال ، فيذيعها لتكون حقيقة ثابتة ، وهي ليس لها أساس لا يعقل ذلك ، إذ لا يوجد دخّان من دون نار ، ولابدّ من منشأ انتزاع .
إذاً ما هو الواقع في ذلك ؟
|
الصفحة 132 |
|
هذا ما يجب أن نبحث عنه بصبر وأناة في مختلف المصادر الحديثية والتاريخية والنسبية ، وقد بحثت فيما وصلت إليه يدي فلم أجد سوى حديث يرويه سويد بن غفلة ، أخرجه الحاكم في المستدرك ، وفيه ما يمكن أن يجعل أساساً لتلك القصّة ، وإليك الحديث بنصّه :
قال الحاكم : " أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي ، حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ، حدّثني أبي ، حدّثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، أخبرني أبي عن الشعبي عن سويد بن غفلة ، قال : خطب علي ابنة أبي جهل إلى عمّها الحارث بن هشام ، فاستشار النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فقال : " أعن حسبها تسألني " ؟
قال علي : " قد أعلم ما حسبها ، ولكن أتأمرني بها " ؟ فقال : " لا ، فاطمة مضغة منّي ، ولا أحسب إلاّ وأنّها تحزن أو تجزع " ، فقال علي : " لا آتي شيئاً تكرهه " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة " (1).
أقول : هذا الحديث لا يخلو أوّلاً سنده من مناقشة في رجاله ، ويكفي وجود الشعبي الذي كان مائلاً لبني أُمية ، ومرّ بيان حاله فيما سبق ، ولا حاجة إلى إعادته .
قال معمر : " وبلغني أنّ الشعبي كان يلعب بالشطرنج ، ويلبس ملحفة حمراء ، ويرمي بالجلاهق ... " (2) .
وثانياً : هو حديث منقطع الإسناد ، لأنّ سويد بن غفلة ، وإن كان معدوداً من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، إلاّ أنّه لم يسمع من النبيّ (صلى الله عليه وآله) حديثه ، ولذلك عقّب الذهبيّ على تصحيح الحاكم ، فقال : مرسل قوي ... إلى أن قال : " فالعجب من الحاكم كيف صحّحه " ؟!
أقول : إذا كان في ذلك ما يبعث على العجب ، فماذا يقول الذهبيّ في
____________
1- المستدرك 3 / 158 .
2- المصنّف للصنعانيّ 10 / 467 .