أمّا سعد بن أبي وقّاص ـ أحد العشرة المبشّرة ـ فيقول لابنه محمّد ، وقد سأله : " أكان أبو بكر أوّلكم إسلاماً ؟ فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين , ولكن كان أفضلنا إسلاماً " (1) .
وأخيراً : كيف يصدّق عاقل بما رواه البكريون آنفا عن علي (عليه السلام) من موجدة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، مع أنّه القائل في خطبة له يصف مقامه عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل " (2) .
أليست خطبته بنت أبي جهل خطلة في فعل ؟ كيف يصدّق ذلك مسلم ؟ حاشا لله .
بقيت بعض الأحاديث تلتقي في مؤدّاها مع حديث المسور ، من غضب فاطمة (عليها السلام) بسبب الغيرة أيضاً ، ولكن لم تكن المرأة التي اشتاقت نفس علي إليها هي ابنة أبي جهل ، وإنّما هي حرّة وأمة :
1ـ أمّا الحرّة فهي أسماء بنت عميس ، وحديثها أخرجه الطبراني (3) ، وعنه الهيثميّ في " مجمع الزوائد " حيث قال : " رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، في إسناده من لم أعرفه " (4) .
إذاً لا يهمّنا بيان حال إسناده ، فلننظر إلى متنه .
قالت أسماء : خطبني علي ، فبلغ ذلك فاطمة ، فأتت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقالت : " إنّ أسماء متزوّجة عليّاً " ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله " .
فنقول : إنّ أسماء كانت أوّلاً عند جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ، فلمّا كانت غزاة
____________
1- تاريخ الأُمم والملوك 2 / 60 .
2- شرح نهج البلاغة 13 / 197 ، ينابيع المودّة 1 / 208 .
3- المعجم الكبير 22 / 405 .
4- مجمع الزوائد 9 / 203 .
|
الصفحة 138 |
|
مؤتة سنة ثمان من الهجرة ـ في جمادى الأُولى أو الآخرة ـ قتل فيها جعفر ، فتزوّجها أبو بكر بعد قتل جعفر ، وبعد يوم حنين ، فإنّ غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان من الهجرة ، والرسول (صلى الله عليه وآله) خرج إليها لست خلون من شوال ، وانتهى إلى حنين في عاشره (1) .
فيكون بين الوقعتين أربعة أشهر وأيّام ، هي بمقدار عدّة المرأة المتوفّى عنها زوجها ، ويعني ذلك أنّ أبا بكر تزوّج أسماء عند خروجها من العدّة ، وعلى هذا دلّ ما ذكره ابن كثير في سيرته قال : " ورثت أسماء بنت عميس زوجها ـ جعفراً ـ بقصيدة تقول فيها :
فآليت لا تنفك نفسي حزينة |
عليك ولا ينفك جلدي أغبـرا |
فلله عيناً من رأى مثله فتى |
أكر وأحمى في الهياج وأصبرا |
ثمّ لم تنشب أن انقضت عدّتها ، فخطبها أبو بكر الصدّيق فتزوّجها ، فأولم ، وجاء الناس للوليمة ، فكان فيهم علي بن أبي طالب ، فلمّا ذهب الناس استأذن علي أبا بكر في أن يكلّم أسماء من وراء الستر فأذن له ، فلمّا اقترب من الستر نفحه ريح طيبها ، فقال لها علي ـ على وجه البسط ـ : من القائلة في شعرها :
فآليت لا تنفك نفسي حزينة |
عليك ولا ينفك جلدي أغبـرا |
قالت : دعنا منك يا أبا الحسن ، فإنّك أمرؤ فيك دعابة " (2) .
على أنّ هناك ما يحمل على الشكّ بصحّة ما رواه ابن كثير ، فقد نسب البيت المذكور إلى عاتكة بنت زيد ، قالته في رثاء زوجها عبد الله بن أبي بكر ، حيث كان يحبّها ، فجعل لها بعض أراضيه على أن لا تتزوّج بعده ، فتزوّجها عمر بن الخطّاب ، فأرسلت إليها عائشة أن ردّي علينا أرضنا ، وكانت عاتكة قد قالت حين مات عبد الله بن أبي بكر :
____________
1- السيرة النبوية لابن كثير 3 / 610 .
2- المصدر السابق 3 / 478 .
|
الصفحة 139 |
|
آليت لا تنفك نفسي حزينة |
عليك ولا ينفك جلدي أغبـرا |
قال : فتزوّجها عمر بن الخطّاب ، فقالت عائشة :
آليت لا تنفك عيني قريرة |
عليك ولا ينفك جلدي أصفرا (1) |
.وهذا الجواب منها ينفي خطبة علي لها ، لأنّ خطبته لها لو كانت لابدّ أن تكون قبل خطبة أبي بكر ، لأنّ أبا بكر مات عنها سنة 13 من الهجرة ، يعني بعد موت فاطمة بثلاث سنين ، فلابدّ أن يفترض أنّ خطبة علي لها كانت قبل خطبة أبي بكر لها ، فكان عليها أن تجيبه بعد عتابه لها على تناسيها رثاءها لأخيه جعفر : أنت أولى منّي بالعتاب ، ألم تسبق إليّ بالخطبة ، ولأشارت إلى ما نسب إليها من زعم أنّ علياً خطبها ، وقول فاطمة (عليها السلام) لأبيها ، وقول أبيها (صلى الله عليه وآله) : " ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله ... " .
لا أن يكون جوابها : دعنا منك يا أبا الحسن ، فإنّك أمرؤ فيك دعابة .
2ـ وأمّا الأمة ، فهي جارية أعطاها له أبو بكر ، وحديثها أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر قال : أعطى أبو بكر علياً جارية ، فدخلت أُمّ أيمن على فاطمة ، فرأت فيها شيئاً كرهته ، فقالت : ما لك ؟ فلم تخبرها ، فقالت : ما لك ؟ فو الله ما كان أبوك يكتمني شيئاً ، فقالت : " جارية أعطوها أبا حسن " .
فخرجت أُمّ أيمن فنادت على باب البيت الذي فيه علي بأعلى صوتها : أما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحفظ في أهله ؟ فقال : " ما هذا الصوت " ؟ فقالوا : أُمّ أيمن تقول : أما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحفظ في أهله ، فقال علي : " وما ذاك " ؟ قالت : جارية بعث بها إليك ، فقال علي : " الجارية لفاطمة " (2) .
فهذا الحديث يرويه ابن عيينة ، وهو ممّن رمي بالاختلاط ، وابن عيينة
____________
1- الطبقات الكبرى 8 / 266 .
2- المصنّف للصنعانيّ 7 / 303 .
|
الصفحة 140 |
|
يرويه عن عمرو بن دينار ، وهذا أيضاً من المجروحين ، كما في كتاب المجروحين لابن حبّان ، حيث قال : " كان ممّن ينفرد بالموضوعات عن الإثبات ، لا يحلّ كتابة حديثه إلاّ على جهة التعجّب .
وسئل ابن معين عنه ، فقال : ليس بشيء (1) ، مضافاً إلى أنّه كان يعرف بقهرمان آل الزبير ، فمن كان كذلك هل يقبل حديثه ؟
على أنّ في نفس حديثه ما يدلّ على كذبه ، وذلك أنّ فاطمة (عليها السلام) التي لم تبق بعد أبيها سوى أيّام أو شهور لم تزد على ستة أشهر ، ثمّ ماتت (عليها السلام) ، وكان علي (عليه السلام) معها في محنتها ، ولم يبايع أبا بكر ما دامت فاطمة حية .
وقالوا : لم يحضر جمعة ولا جماعة مع القوم إلى أن ماتت فاطمة (عليها السلام) ، فانصرفت وجوه الناس عنه ، فبايع هو كما بايع معه العباس وبنوه وجماعة بني هاشم ، وبقية الفئات المعارضة التي اتخذت منه ملجأ يلجؤون إليه ، وسنداً يستندون عليه .
فهل يعقل أنّ أبا بكر يبعث إليه بجارية ، ويقبل ذلك علي (عليه السلام) منه ، وهو بعد لم يزل ساخطاً لما جرى معه ، ومع فاطمة (عليها السلام) من بعد النبيّ ؟
ولو سلّمنا ذلك ، فهل أنّ علياً نسي ما مرّ له في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من استشارته في أمر ابنة أبي جهل ، وأنّ ذلك يسيء إلى فاطمة ، فقال : " لا أفعل شيئاً تكرهه " ، ثمّ ها هو الآن يقبل الجارية ، ويقيم معها ، حتّى تنكر ذلك عليه أُمّ أيمن !!
ثمّ ما بال علي (عليه السلام) وبنيه لم يتبيّنوا تلك الكراهية من فاطمة (عليها السلام) ، وهم يعيشون معها في البيت ، وتبيّنتها أُمّ أيمن التي كانت في بيت غير بيتها ؟! دون من كان يزورها من نساء المهاجرين والأنصار ، وحتّى أسماء بنت عميس التي كانت تمرضّها .
____________
1- كتاب المجروحين 2 / 71 .
|
الصفحة 141 |
|
كلّ ذلك يوحي باختلاق الحديث ، ولا نستبعده من عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير الذي قال فيه ابن حبّان : " كان ممّن ينفرد بالموضوعات عن الإثبات ، لا يحلّ كتابة حديثه إلاّ على وجه التعجّب " .
وما يدرينا لعلّ عبد الرزاق إنّما كتب حديثه في كتابه المصنّف على ذلك الوجه .
ثمّ أعلم أيها القارئ الكريم : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أعطى علياً جارية يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة (1) .
فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك يغيظ فاطمة (عليها السلام) أو لا يغيظها ؟ فإنّ كان يغيظها ، فلم فعله النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟ وإن كان لا يغيظها فما الفرق بين ريطة وغيرها من النساء ، سواء كانت زوجة أو جارية بملك اليمين ، وكلتاهما بحكم الضرائر عند النساء ؟
على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد دافع عن الإمام في اصطفائه الجارية حينما بعثه إلى اليمن ، وشكاه بريدة ، كما في البخاريّ بسنده عن بريدة قال : بعث النبيّ(صلى الله عليه وآله) علياً إلى خالد ليقبض الخمس ، وكنت أبغض علياً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا ؟ فلمّا قدمنا على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذكرت له ، فقال : " يا بريدة أتبغض علياً " ؟ فقلت : نعم ، فقال : " لا تبغضه ، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك " (2) .
أقول : فما بال التسرّي لا يغيظ فاطمة (عليها السلام) إذا بلغها ؟ ويغيظها إذا كان تزويجاً ؟ ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أنّ الحديث السابق عن البخاريّ رواه غيره بأوسع وأوضح ممّا ذكره (3) .