فرية السرداب
فرية تفتّقت عنها عقولٌ شطّت عن الهدى، وسارعت إلى اتّباع الهوى، فجاءت بها شوهاءَ نكراء، وحادت بها عن مسلّمات الشريعة السمحاء، منهم الدكتور عداب محمود الحمش الذي كرر في كتابه أقوال جملة من مُنكري مهدوية المهدي عليه السلام من أهل السنّة، ومنهم ابن القيم، في قوله:
(وهم ينتظرونه كلّ يوم، يقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم: أخرج يا مولانا، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه).
وهذه نغمة الأوّلين، ترددها ببغاوات الآخرين، ويزيدها كلٌّ من عنده ما يشاء، وجميعه بهتان وافتراء.
وهذا افتراء عظيم ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الإِْسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (الصف/ 7).
إن ابن قيم الجوزية (الإمام العلامة!) ما ذكر ذلك في كتابه (النفيس!) إلاّ تبعاً لشيخه ابن تيمية الذي سبقه إلى هذه الفرية، فقال في كتابه منهاج السنة (ج1/ 12 ط بولاق سنة 1321 ط 1 مطبعة الرياض و ص 28، ط محمد رشاد سالم) ننقل منها ما يأتي،(ومن حماقتهم أيضاً أنهم يجعلون للمنتظر عدّة مشاهد ينتظرونه فيها، كالسرداب الذي بسامراء الذي يزعمون أنه غائب فيه، ومشاهد أُخر، وقد يقيمون هناك دابّة ـ إمّا بغلة وإمّا فَرَساًوإمّا غير ذلك ـ ليركبها إذا خرج، ويُقيمون هنــاك ـ إما في طـــرفي النهار وإما في أوقات أُخر ـ من ينــادي عليه بالخروج: <يا مولانا اخرج يامولانا اخرج>.
ويُشهرون السلاح ولاأحد هناك يقاتلهم. وفيهم من يقوم في أوقات الصلاة دائماً لا يصلّي خشية أن يخرج وهو في الصلاة فيشتغل بها عن خروجه وخدمته، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده كمدينة النبي(صلى الله عليه وسلم)، إما في العشر الأواخر من شهر رمضان وإما في غير ذلك، يتوجهون الى المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه. ومن المعلوم أنه لو كان موجوداً وقد أمره الله بالخروج، فإنه يخرج، سواء نادوه أو لم ينادوه، وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم، وأنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه وبمن يعينه وينصره، لا يحتاج أن يوقف له دائماً من الآدميين من ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب له دعاءه، فقال تعالى: ( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (سورة فاطر: 13ـ 14) هذا مع أن الاصنام موجودة، وكان يكون بها أحياناً شياطين تتراءى لهم وتخاطبهم، ومن خاطب معدوماً كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجوداً وإن كان جماداً، فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء.
وإذا قال: أنا اعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك: نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله، فيعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (منهاج السنة 28 ـ 30) 1هـ .
وما كان ابن قيم الجوزية وحده الذي تبع ابن تيمية في مقاله وضلاله في افترائه، بل هناك الذهبي أيضاً في المنتقى من منهاج الإعتدال كما مرّ، ولهم أشباه وأشياع جعلوا من الفرية لحد الشياع. وعلى ما أسس الأولون بنى التالون صروح أوهامهم، فابن خلدون وابن بطوطة والقرماني وأشباههم روّجوا المعزوفة المعروفة (غاب في السرداب وأمّه تنظر إليه وهم ينتظرونه ويقومون على بابه وينادونه ـ ومعهم بغلة أو فرساً ـ أو حمارـ: أُخرج الينا يا مولانا...) ومن المضحك المبكي ـ وشر البلية ما يضحك ـ وأشنع الكذب ما يبكي ـ أنّ المفترين ذهب كلٌّ إلى بلد فيه الشيعة فبهتهم ببُهتانه، فابن بطوطة جعل السرداب مسجداً في الحلة، والقرماني نقل السرداب إلى بغداد، والآخرون قالوا في سامراء، ومن أتى بعدهم وعرف شناعة بهتانهم أطلق السرداب ولم يعيّن له مكاناً، وهكذا راجت تلك الأكاذيب، في حين بين ظهرانيهم يعيش الشيعة، وبين أيديهم تراثهم، فلا هم يمارسون ما بُهتوا به من الوقوف كلّ ليلة، ولا ورد في شيء من كتبهم في الغيبة ما يثبت زعم المفتري.
والأنكى من كلّ ذلك أن نجد من المحدّثين من يزعم لنفسه التخصّص في تحقيق نقد الحديث يذكر ذلك في كتابه عن عمد ثم لا يعلّق عليه بشيء، مع أنه عاش سنين في العراق وعاشر الشيعة وزار بعض علمائهم، وكلّ ما في الأمر في حقيقة السرداب، أنه مكان محفور في الأرض ليقي أهل الدار من لفح الهجير وشدّة الحر في الصيف، كما كان متعارفاً في ذلك الزمان وحتى اليوم في البلاد الحارة. وإنّما يحترم الشيعة ذلك السرداب لأنه تشرّف ـ وشرف المكان بالمكين ـ بثلاثة من الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، فكان مأواهم من حرارة القيظ، وقد صلّوا فيه، ولهم فيه محراب لا يزال أثره حتى اليوم، وقد شيّده الناصر لدين الله العباسي الخليفة العباسي كما سيأتي بيانه، والآن نذكر شيئا عن السرداب ومراحل تعميره، لنعرف حقيقة اعتقاد الإمامية الاثني عشرية فيه.
قال الشيخ المحلاتي في كتابه مآثر الكبراء في تاريخ سامراء ج1/ 246 ط الحيدرية: (العمارة الثالثة) عمارة الملك... احمد بن بويه ... معز الدولة ... وكانت العمارة سنة 337 ... وعمّر القبة وكان في السرداب حوض يجري فيه الماء فأمر باملاء الحوض من التراب...
وقال في ج1/ 285: العمارة السابعة للإمام الناصر العباسي... وذكر ما نظمه المرحوم العلاّمة السماوي في وشايح السراء مشيراً إلى عمارة أحمد الناصر الذي كان في سنة / 606:
ثمّ أتاها الناصر العباسي بفيض جود وضرام باس
فعمّر القبة والمآذنا وزاد في تشييدها المحاسنا
وزيّن الروض بما قد ابتهج وعقد السرداب في صنع الأزج
ومنع الحوض بذاك الروض أن يأخذ امرؤ تراب الحوض
وزبر الأئمة الاثني عشر على نطاق العقد فيما قد زبر
على يد الشريف بدر البعد معد فتى محمد بن معد
وجعل الألواح فيه منبئه عن وقته في الست والستمئة
فنظروا ما قد زها في الدائر وأرّخوا (صبح سعد الناصر)
ثم ذكر الشيخ المحلاتي صفة بناء سرداب الغيبة فقال: ليس اشتهار هذا السرداب بسرداب الغيبة لأن الحجّة عليه السلام غاب فيه ـ كما زعمه من يجهل التاريخ ـ بل لأن بعض الأولياء تشرّف بخدمته عليه السلام ... وحيث أنه مبيت الثلاثة من الأئمة عليهم السلام ومعبدهم في طول المدة، وحظي فيه عدة من الصلحاء بلقاء الحجة عليه السلام صار من البقاع المتبركة... ثم ذكر ما جرى على السرداب من تعميرٍ وتطوير لسنا بصدده.
كما ذكر عمارة الناصر بتفصيل الحجّة المحدّث الشيخ النوري قدّس سره في كتابه كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار الذي هو ردّ على قصيدة وردت من بغداد يقول صاحبها في أوّلها:
أيا علماء العصر يا من لهم خبرُ بكلّ دقيقٍ حار من دونه الفِكرُ
وقد ردّ على القصيدة نظماً من أعلام العصر يومئذ: الشيخ محمد الجواد البلاغي، والسيد محسن الأمين والشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، وقصيدة كاشف الغطاء يمكن أن يقال فيها أنها نظم لما كتبه شيخه المحدّث النوري في كشف الأستار، وقد طبعت ملحقة بالكتاب طبعة سنة 1318 هـ.
فقال الشيخ المحدث النوري في صفحة 42 من كتابه: (التاسع عشر) الناصر لدين الله احمد بن المستضيء بنور الله من خلفاء العباسية، وهو الذي أمر بعمارة السرداب الشريف، وجعل الصفة التي فيه شبّاكاً من خشب ساج منقوش عليه:
(بسم الله الرحمن الرحيم قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور، هــذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام أبو العباس أحمد الناصر لدين الله امير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين الذي طبّق البلاد إحسانه وعدله، وعمّ البلاد رأفته وفضله، قرّب الله أوامره الشريفة باستمرار النجح والنشر، وناطها بالتأييد والنصر، وجعل لأيامه المخلدة حداً لا يكبو جواده، ولآرائه الممجدة سعداً لا يخبو زناده، في عزّ تخضع له الأقدار فيطيعه عوامها، وملك خشع له الملوك فيملكه نواصيها، يتولى المملوك معد بن الحسين بن معد موسوي الذي يرجو الحياة في أيامه المخلّدة، ويتمنى انفاق عمره في الدعاء لدولته المؤبدة، استجاب الله أدعيته، وبلّغه في أيامه الشريفة أمنيته، من سنة ست وستمائة الهلالية، وحسبنا الله ونِعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطاهرين وعترته وسلم تسليماً).
ونقش أيضاً في الخشب الساج داخل الصفة في دائر الحائط:
(بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي ولي الله، فاطمة، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين، محمد بن علي، جعفر بن محمد، موسى بن جعفر، علي بن موسى، محمد بن علي، علي بن محمد، الحسن بن علي، القائم بالحق عليهم السلام، هذا عمل علي بن محمد ولي آل محمد رحمه الله).
ثم قال الشيخ المحدث النوري قدس سره: ولولا اعتقاد الناصر بانتساب السرداب إلى المهدي عليه السلام بكونه محلّ ولادته أو موضع غيبته أو مقام بروز كرامته ـ لا مكان إقامته في طول غيبته كما نسبه بعضُ من لا خبرة له إلى الإمامية، وليس في كتبهم قديماً وحديثاً منه أثر أصلاً ـ لما أمر بعمارته وتزيينه، ولو كانت كلمات عصره متّفقة على نفيه وعدم ولادته لكان إقدامه عليه بحسب العادة صعباً أو ممتنعاً، فلا محالة فيهم من وافقه في معتقده الموافق لمعتقد جملة ممن سبقت إليهم الإشارة(1) وهو المطلوب. وإنّما أدخلنا الناصر في سلك هؤلاء لامتيازه عن أقرانه بالفضل والعلم، وعداده من المحدّثين، فقد روى عنه ابن سكينة وابن الأخضر وابن النجار وابن الدامغاني.
ويحسن بنا أن نقف وقفة تحقيق حول مزاعم ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يقم الأفاكون عليها من برهان. وتلك أكذوبة السرداب، فمنهم من زعم غيبة الإمام المهدي عليه السلام فيه وأمه تنظر إليه، ومنهم من زعم إقامته مدة غيبته فيه، ومنهم من زعم أنّ خروجه منه، ونسبوا في ذلك إلى الشيعة افتراءات عجيبة غريبة، مع أن الشيعة يُنكرون جميع ذلك جملة وتفصيلاً، وتحدّوا جميع الطاعنين أن يأتوا على زعمهم ببرهان يبرز مزاعمهم فلم يأتوا بشيء.
وإذا بحثنا أخبارهم نجدها متناقضة، وذلك أن السرداب إنما هو في بيت الإمام في سامراء، وقد غاب عن السلطة وأزلامها في سنة 265، ولم يقل أحد من الشيعة أنه غاب في السرداب، لكن أول من نبز الشيعة بذلك هو ياقوت الحموي (ت 626) فيما أعلم، فقد ذكره في كتابه معجم البلدان في (سامراء) فقال بعد ذكره درجتها في خط العرض والطول: (وبها السرداب المعروف في جامعها الذي تزعم الشيعة أنّ مهديهم يخرج منه... ثم قال: وخربت ـ سامراء ـ فلم يبق منها إلاّ موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أنّ به سرداب القائم المهدي...).