منه تقبيل الأضرحة :
السؤال : عقلي يمنعني من تقبيل الأضرحة ويقول : هذه الأفعال تهين المذهب ، هل عقلي على حقّ أم إيماني ضعيف ؟ كما يصفني أصدقائي .
الجواب : إنّ تقبيل الأضرحة تعتبر من مسائل التبرّك الذي معناه التيمّن ، وهو طلب اليمن ، أي البركة ، وهي النماء في الخير والزيادة فيه ، فالبركة هي الخير الدائم الثابت في الشيء والنامي فيه .
ومبدأ فعله إمّا الحبّ والودّ والتعزيز والتكريم ، وإمّا الاتباع ، فالحبّ يكون مؤدّياً للتبرّك بالحبيب ولوازمه وآثاره ، فحبّ الأنبياء والصلحاء يجرّ كلّ مؤمن إلى حبّ كلّ ما تركوه من آثار ، حتّى أبنيتهم وألبستهم وأولادهم ، حتّى قال الشاعر :
|
الصفحة 54 |
|
أمرّ على الديار ديـار ليلى |
أُقبّلُ ذا الجدار وذا الجدارا |
وما حبُّ الديار شغفن قلبي |
ولكنْ حبُّ من سكن الديارا |
وأمّا المبدأ الثاني لفعل التبرّك فهو الاتّباع ، فقد ثبت شرعاً أنّ الصحابة كانوا يتبرّكون برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم ينههم (صلى الله عليه وآله) عن ذلك ولم يزجرهم ، ولم يبيّن بأنّ أفعالهم لا تجوز ، بل كان (صلى الله عليه وآله) يتركهم يفعلون ذلك ويفعله أيضاً ، من تكثير الطعام أو الشراب عند فقدانه أو نقصانه ، وتحنيكه الأطفال بريقه الشريف ، أو إشفائهم ببصاقه ، كما فعل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في غزوة خيبر وغيرها .
وقد ثبت في القرآن الكريم فعل ذلك في قصّة يوسف (عليه السلام) ، قال تعالى : { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ... فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا } (1) .
فهذان المبدآن يثبتان جواز التبرّك بل استحبابه لفعل الأنبياء (عليهم السلام) له ، وكذلك يثبت أنّ التبرّك ينفع المتبرّك من شفاء مرض أو اكتساب نور ، أو إثبات عافية ، أو تثبيت إيمان ومحبّة ، وغير ذلك من الأُمور الراجحة .
____________
1- يوسف : 93 ـ 96 .
|
الصفحة 55 |
|
( عقيل . الكويت . ... )
السؤال : ما هو تفسير قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (1) ، و { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } (2) ، و { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } (3) .
الجواب : اختلفت الأقوال في تفسير العرش ، فقد جاءت فيه تفاسير ثلاثة :
الأوّل : الأخذ بالمدلول اللغويّ للعرش ، وما يكون هو المتبادر الأوّلي إلى الأذهان ، وهو المكان الخاصّ الذي يجلس فيه من له امتياز على غيره ، كالملوك والأُمراء ، بل وبعض الكبراء ، كرؤساء القبائل وأمثالهم .
وبهذا يفسّرون العرش : بأنّه المكان الذي يجلس فيه الله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (4) أي جلس على عرشه .
وهناك تفسير للكرسي في قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } (5) ، حيث قالوا : بأنّ العرش يمتاز عن الكرسيّ ، بأنّ العرش
____________
1- طه : 5 .
2- القلم : 42 .
3- الرحمن : 27 .
4- الأعراف : 54 .
5- البقرة : 255 .
|
الصفحة 56 |
|
هو الذي يجلس عليه الله تعالى ، والكرسيّ موضع قدميه .
وهذا التفسير ـ بوجهيه ـ لا يمكن الأخذ به بأيّة حال ، لأنّه يقتضي التشبيه والتجسيم الصريح غير المؤوّل ، وهذا مالا تقرّ به طوائف المسلمين ، سوى الشاذّ منها .
وأمّا التنصّل من مشكلة التشبيه والتجسيم بأن نقول : بأنّ الله تعالى يجلس جلوساً واقعياً على عرشه بلا كيف ، ولا نقول : كيف حتّى يستلزم التشبيه والتجسيم ، وهو كلام خالٍ من أيّ معنى معقول .
التفسير الثاني : أنّ الاستواء بمعنى الاستيلاء ، وهذا يلتزم به من يأبى التشبيه والتجسيم بالنسبة إلى الله تعالى ، ويستدلّون بالبيت المعروف : ( قد استوى بشر على العراق ) أي استولى ، وهذا التفسير الثاني فيه المجاز في كلمة الاستواء ، أي بمعنى الاستيلاء .
التفسير الثالث : أنّ الاستواء على العرش كناية على التدبير ، والأخذ بزمام إدارة من له حقّ الإدارة ، والإشراف والتدبير عليه ، وهذا هو المقصود بما يذكره المؤرّخون ، من تواريخ الجلوس على العرش للملوك والأمراء ، بمعنى استوى عليه : بأن جعله تحت قدرته ، ومنع غيره من الجلوس عليه إلاّ بإذنه ، كما نقول : استوى زيد على داره بعد ستة سنوات ، معناه : أنّ داره كانت مغصوبة ، ثمّ عادت إليه ، بأن استولى عليها .
وهذا المعنى ليس المقصود من الآية الكريمة ، بل المقصود القيام بالتدبير ، وإدارة شؤون من له القدرة عليه ، والاستيلاء عليه ، والاستيلاء بمعنى التسلّط عليه ، فالله تعالى حينما يذكر { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } يعني : أنّ الله تعالى خلق خلقه ، ثمّ قام بتدبير أمرهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } (1) .
____________
1- يونس : 3 .
|
الصفحة 57 |
|
استوى على العرش نوع من المجاز ، الذي كان يفهمه السامعون يوم نزول القرآن الكريم ، بحيث يقال لهم : أنّه قام بالتدبير بلا استعارة للاستواء على العرش ، ما كانوا يفهمونه بدقّة كاملة .
فالله تعالى يقول : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يعني : قام بتدبير الأُمور ، فيضيف إليه قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ، وهذا المعنى الصحيح من هذا التعبير متى ورد في القرآن الكريم ، ومتى ورد في السنّة الصحيحة ؟
وأمّا قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، فله تفسيران :
الأوّل : الأخذ بالمعنى الظاهريّ ، ويستدلّون عليه بالحديث الوارد عند غير الإمامية ، ويصرّون على أنّه حديث صحيح : بأنّ أُمم يوم القيامة تمتاز بعضها عن بعض ، فيبقى المسلمون ، فيأتيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فيأخذ بهم إلى حيث بيت الله تعالى ، فيطرق باب الجنّة ، فيخرج إليهم سبحانه وتعالى ، فيقولون له : نحن نريد أن نعرف ربّنا ؟ فيسألهم : هل ترون لربّكم علامة ؟ يقولون : نعم ، إنّ العلامة أثر في ساق ربّنا ، فيكشف الله تعالى عن ساقه ، فيرون العلامة ، فيقعون سجّداً لله تعالى ، إلاّ المنافقين الذين تتقلّب ظهورهم ، فلا يمكنهم السجود .
وأمّا التفسير الثاني : وهو الذي يأخذ به علماء الإمامية ، ومن تبعهم { يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ليس معناه ساق الله تعالى ، وإنّما كناية عن جدّة الأمر وحدّته ، فالذي يريد أن يقوم بعمل وهو جادّ ، يعبّرون عنه بأنّه كشف عن ساقه ، أو شمّر ثوبه ، أو كشف ذراعيه ، وليس معناه أنّ كلّ عامل جدّ لابدّ وأن يكشف عن ذراعيه ، أو يكشف عن ساقه ، وإنّما يقصد به المعنى اللازم لهذا العمل ، وهو الوقوع في موقع جدّيّ ، والقيام بالعمل الجدّ .
فالله تعالى يقول : أنّ الذين لم يؤمنوا بالله في حياتهم الدنيا عابثون لا يقدّرون الموقف ، وسيأتي عليهم يوم يكشف فيه عن ساق ، يعني ذلك اليوم يوم جدّ لا عبث فيه ، وهنالك هؤلاء يعجزون عن أداء ما عليهم من العبادة
|
الصفحة 58 |
|
لربّهم سبحانه وتعالى ، الذين كانوا ينكرونه في حياتهم الدنيا ولا يعبدونه .
وأمّا قوله تعالى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } (1) .
التعبير العربيّ كان يوم ذاك ولا زال محبوب عند القبائل ، أنّهم كانوا يعبّرون عن رعاية الكبير ـ سواء كان شيخ عشيرة ، أو أمير بلد ، أو ملك ، أو صاحب سلطة ـ بأنّهم يراعون وجهه ، ويعبّرون عن أنفسهم بأنّهم جالسون أمامه ، ووجوههم في وجهه ، فلا يستطيعون مخالفته ، فيقولون ولا زال التعبير إلى يومنا هذا : بخاطر وجهك .
فالله تعالى يعتبر التقرّب إليه بأن يكون العمل خالصاً له { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ } (2) .
فالوجه هنا عبارة عن الذات الإلهيّة ، والتوجّه إليه تعالى توجّهاً كاملاً ، والتقرّب إليه وحده سبحانه ، بلا شريك ، ولا دخل لغيره .
وهنا حينما يقول : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } أي يبقى ربّك ، لأنّ كلّ معبود سيفنى ، والمعبود الذي يبقى هو الله تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } (3) ، وهذا هو المقصود من الوجه ، أي إلاّ الله تعالى ، هذا التعبير ، يعني تقريب المعقول عن طريق التشبيه بالمحسوس ، أصل جار في كثير من الآيات الكريمة .
( حيدر . السويد . ... )