التخيير والتسيير :
السؤال : تحية طيّبة وبعد ، أنّي تتبعت موضوع القضاء والقدر ، ولكن وجدت إجابات مختلفة في الموضوع ، فما الفرق بين القضاء والقدر ؟ ومسيّر أو مخيّر ؟ وكانت الإجابة : أنّ الإنسان مخيّر لا مسيّر ، وكذلك وجدت إجابة : أنّ الإنسان ما بين البينين ، وكانت تحت معنى آخر ، وهو الجبر والتفويض .
وسؤالي : هل يوجد فرق بالمعنى والفهم بين مسيّر ومخيّر ؟ والجبر والتفويض ؟
الجواب : إنّ معنى القدر هو : الحدّ والمقدار ، قال ابن فارس : القدر هو حدّ كلّ شيء ومقداره وقيمته وثمنه .
وقال الراغب : القدر والتقدير : تبيين كمّية الشيء .
وأمّا القضاء : قال ابن فارس : القضاء أصل صحيح يدلّ على أحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته .
قال الإمام الرضا (عليه السلام) : ( القدر هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين ) (2) .
والقضاء والقدر كلاهما عينيّ وعلميّ :
فالعينيّ : يمثّل كيفية الخلقة وشعبها ، والخلق من مراتب التوحيد ، وهو
____________
1- الكافي 1 / 155 .
2- الكافي 1 / 158 .
|
الصفحة 239 |
|
التوحيد في الخالقية ، وأنّه ليس على صفحة الوجود خالق مستقلّ سواه .
وكون التقدير والقضاء العينيّين منه سبحانه ، لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار ، لأنّ المفروض أنَّ الحرّية والاختيار من الخصوصيّات الموجودة في الإنسان .
فالله سبحانه قدَّر وجود الإنسان بخصوصيّات كثيرة ، منها كونه فاعلاً بالاختيار .
وأمّا القضاء والقدر العلميّان : وهذه هي المزلقة الكبرى للسطحيين الذين مالوا إلى الجبر .
وبيانه : أنّ علمه سبحانه لم يتعلّق بصدور أيّ أثر من مؤثّره على أيّ وجه اتفق ، وإنّما تعلّق علمه بصدور الآثار عن العلل ، مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل .
فإن كانت العلّة علّة طبيعية فاقدة للشعور والاختيار ، كصدور الحرارة عن النار ، أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار ، كصدور الارتعاش في الإنسان المرتعش، فتعلّق علمه سبحانه بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصيّات .
أمّا لو كانت العلّة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة ، كالإنسان فقد تعلّق علمه سبحانه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيّات ، وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرّية ، فلا يلزم من قضاء الله وقدره العلميّين القول بالجبر .
وقد تبيّن ممّا قدّمناه : أنّ الإيمان بالقضاء والقدر لا يجرّ إلى القول بالجبر قطعاً .
وأمّا سؤالك عن الفرق بين معنى التسيير والتخيير ، ومعنى الجبر والتفويض ، فإنّ التسيير بمعنى الجبر ، والتخيير يعني أنّ الإنسان مخيّر في فعله غير مجبور ، والتفويض يعني أنّ الله فوّض أفعال الإنسان للإنسان ولا دخل له بها ، ونحن نقول : أنّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، كما
|
الصفحة 240 |
|
أوضح ذلك أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، والمراد من ذلك الأمر هو نفس معنى { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (1) .
وكذلك قولنا : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وببساطة نقول : أنّ المسبّب لأفعالنا والذي يعطينا الحول والقوّة والقدرة على فعل ما نشاء هو الله سبحانه ، وبشكل متواصل ومستمر ، ولو شاء قطع ذلك بإرادته ، ولما استطعنا فعل شيء أبداً ، فتكون مشيئتنا وإرادتنا تابعة لمشيئة الله وإرادته ، وكذا حولنا وقوّتنا تابعة لاستمرار عطاء الله تعالى وتقديره لنا فعل ما نريد ، فلو شاء أعطى وأقدر ، ولو شاء منع وأعجز .
وأمّا الفاعل المباشر المختار فهو الإنسان الفقير ، الذي يمدّه الله تعالى بالحول والقوّة لفعل ما يريد ، ولكن بمشيئة الله تعالى ، لأنّ الله تعالى هو المعطي ويستطيع المنع في أيّ آن من الآنات التي يشاء ، فنبقى محتاجين فقراء لعطاء الله دائماً ، لا كما قال المفوّضة من أنّ الإنسان مستقلّ بفعله . ولا ما قاله المجبّرة من أنّ الإنسان مجبور على فعله غير مخيّر ؛ إذ يلزم على الأوّل عدم سعة قدرته ، وعلى الثاني قبح عقابه على المعصية .
( فاطمة راشد عبد الكريم . البحرين . 20 سنة . توجيهي )
الشقاوة والسعادة مع اختيارية الإنسان :
السؤال : ما معنى العبارة التالية في العقيدة الإسلاميّة : ( السعيد سعيد في بطن أُمّه ، والشقيّ شقيّ في بطن أُمّه ) (2) ؟ وكيف تتناسب هذه العبارة واختيارية الإنسان وعدم إجباره ؟ وشاكرين لكم حسن تعاونكم معنا ، وجزاكم الله خيراً .
الجواب : إنّ هذا الحديث وإن ورد في بعض المصادر المعتبرة لدى الإمامية ،
____________
1- التكوير : 29 .
2- شرح أُصول الكافي 1 / 235 .
|
الصفحة 241 |
|
إلاّ أنّه قد رفضه بعض الأجلاّء مثل بهاء الدين العامليّ (قدس سره) ، ونسبه إلى الوضع ، إلاّ أنّه لو ثبت ففي ضوء الأدلّة التي تحتّم علينا الالتزام بأنّ لا جبر ولا تفويض والأمر بين الأمرين توضيح هذا الحديث بنحوٍ لا يتنافى مع هذا المبدأ ، وقد قيل في ذلك شيء كثير .
ويمكن أن يفسّر بأنّ الحديث يكشف عن أنّ من يسعد في عمله وعقيدته بعد الولادة ، وبلوغه حدّ التكليف ، معلوم لله سبحانه ، كما أنّ من يشقى باختياره فساد العقيدة والعمل معلوم لله سبحانه أيضاً ، ومعلوم أنّ العلم لا يكون علّة للمعلوم ؛ لأنّه كاشف وغير مؤثّر وتابع وليس متبوعاً ، فعلمك بأنّك تموت يوماً ما جزماً ويموت جميع من على الأرض يوماً من الأيّام ، ليس يعني أنّك بعلمك قاتل لهم ، هذا هو أبرز التفاسير وأحسنها ، وقلنا هناك تفاسير أُخرى ، والله ولي التوفيق .
وبناء على ظاهر النصّ المقتضي تحقّق الشقاوة ، والإنسان جنين في رحم أُمّه، فإنّ أُريد الشقاوة الدنيوية من الصحّة والمرضية البدنية والنفسية ، والفقر والغنى ، فهي إمّا من تقدير الله سبحانه ابتلاءً منه للعباد حسب اقتضاء الحكمة البالغة ، التي لا تصل إليها ادراكات عقولنا ، وإمّا بعض منها بفعل الأباء والأُمهات ، ومعنى الشقاوة التعب والمشقّة ، التي يبتلى بها الناس . وإن أُريد بها الشقاوة الأُخروية ، فالمراد بها ما يؤول إليه أمر الجنين نتيجة سوء التصرّف منه ، ومن الأبوين كأن يكون ابن زنى ، وهو على هذا جناية أبويه ، فيكون معظم وزره عليهما ، مثل من كان سبباً لضلال أحد .
( نوفل . المغرب . 26 سنة )
فعلنا بإرادتنا وبقدرة من الله :
السؤال : هل الإنسان بإرادته هو الفاعل ؟ أم الله هو خالق الإرادة ، والإنسان متروك له حرّية الاختيار ؟ { وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ، وشكراً جزيلاً .
|
الصفحة 242 |
|
الجواب : إنّ أصحاب المناهج الفكرية في مسألة أفعال الإنسان ، اعتقدوا بأنّ الأمر ينحصر في القول بالجبر أو التفويض ، وأنّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه الإنسان الباحث لتفسير أفعال العباد ، فقد كان الجنوح إلى الجبر في العصور الأُولى لأجل التحفّظ على التوحيد الأفعالي ، وأنّه لا خالق إلاّ هو ، كما أنّ الانحياز إلى التفويض كان لغاية التحفّظ على عدله سبحانه .
فالأشاعرة جنحوا إلى الجبر حرصاً على الأصل الأوّل ، والمعتزلة إلى الثاني حرصاً على أصل العدل ، وكلا الطرفين غفل عن نظرية ثالثة يوافقها العقل ويدعمها الكتاب والسنّة ، وفيها الحفاظ على كلّ من أصلي التوحيد والعدل ، مع نزاهتها عن مضاعفات القولين ، فإنّ في القول بالجبر بطلان البعث والتكليف ، وفي القول بالتفويض الثنوية والشرك .
فهذه النظرية الثالثة هي مذهب الأمر بين الأمرين ، الذي لم يزل أئمّة أهل البيت (عليه السلام) يحثّون عليه ، وخلاصة هذا المذهب :
أنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ، ونحن أسبابها الطبيعية ، وهي تحت قدرتنا واختيارنا ، ومن جهة أُخرى هي مقدورة لله تعالى ، وداخلة في سلطانه ، لأنّه هو مفيض الوجود ومعطيه ، فلم يجبرنا على أفعالنا حتّى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي ، لأنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل ، ولم يفوّض لنا خلق أفعالنا حتّى يكون قد أخرجها عن سلطانه ، بل له الخلق والحكم والأمر ، وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد .
وهذا بحث دقيق شريف ينبغي الاطلاع عليه ، وللتوسعة يراجع كتاب الإلهيّات للشيخ السبحانيّ ، بحث مناهج الاختيار ، وكتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفّر (قدس سره) .
أمّا آية { وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (1) ، فالظاهر من السياق أنّ ( ما )
____________
1- الصافّات : 96 .
|
الصفحة 243 |
|
موصولة بقرينة قوله تعالى : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } (1) ، ويكون معنى الآية : أتعبدون الأصنام التي تنحتونها ، والله خلقكم أيّها العبدة والأصنام التي تعملونها .
فتتمّ الحجّة على المشركين بأنّهم ومعبوداتهم مخلوقات لله سبحانه ، فلا وجه لترك عبادة الخالق وعبادة المخلوق ، أمّا لو قلنا بأن ( ما ) في الآية مصدرية، فتفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى ، ويكون مفاد الآيتين : أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيّها العبدة وخلق أعمالكم وأفعالكم ؟
والحال أنّه ليس لعملهم صلة بعبادة ما ينحتونه ، ولو قلنا بذلك لتمّت الحجّة لغير صالح نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) ولانقلبت عليه ، إذ عندئذ ينفتح لهم باب العذر بحجّة أنّه لو كان الله سبحانه هو الخالق لأعمالنا ، فلماذا توبّخنا وتنددنا بعبادتنا إيّاهم .
( حيدر عبد الأمير . العراق . ... )