علمه بالطعام المسموم :
السؤال : هل المعصوم من أهل البيت (عليهم السلام) يعلم أنّ الأكل الذي يأكله مسموم أم لا يعلم ؟
الجواب : الجواب عن هذه الشبهة يتمّ بأحد وجهين :
الأوّل : إنّ الأئمّة (عليهم السلام) أقدموا على القتل وشرب السمّ ، مع علم ويقين منهم على ذلك ، وأمّا أنّهم لا يعلمون بما يجري عليهم ، ولو علموا لم يقدموا لأنّه من الإلقاء في التهلكة ، فهذا ينافي صريح الأخبار عنهم في هذا الشأن .
فهذا الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : " إنّ الإمام لو لم يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير ، فليس ذلك بحجّة الله على خلقه " (3) .
وهذا الإمام الرضا (عليه السلام) يقول لـه الحسن بن الجهم : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد عرف قاتله ، والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ، وقولـه لما سمع صياح الأوز في الدار : " صوائح تتبعها نوائح " .
وقول أُمّ كلثوم : " لو صلّيت الليلة داخل الدار ، وأمرت غيرك أن يصلّي بالناس " ؟ فأبى عليها ، وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ،
____________
1- الأنبياء : 27 .
2- التحريم : 6 .
3- بصائر الدرجات : 504 .
|
الصفحة 367 |
|
وقد عرف (عليه السلام) أنّ ابن ملجم قاتله بالسيف ، كان هذا ممّا يجز تعرّضه ؟ فقال (عليه السلام) : " ذلك كان ولكنّه خيّر في تلك الليلة ، لتمضي مقادير الله عزّ وجلّ " (1) .
وهكذا كان الجواب منهم (عليهم السلام) عن شأن حادثة الإمام الحسين (عليه السلام) (2) ، وإلى كثير من أمثال هذه الأحاديث والأجوبة .
ولكن أجمعها لرفع هاتيك الشبهة ، وأصرحها في الغرض خبر ضريس الكناسي ، فإنّه قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول ـ وعنده أناس من أصحابه ـ : " عجبت من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمّة ، ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم ، كطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم ، فينقصونا حقّنا ، ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا ، والتسليم لأمرنا ، أترون أنّ الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ، ثمّ يخفى عنهم أخبار السماوات والأرض ، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يراد عليهم ممّا فيه قوام دينهم " .
فقال لـه حمران : جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ ذكره ، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم ، والظفر بهم حتّى قُتلوا وغلبوا ؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : " يا حمران إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم ، وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ، ثمّ أجراه فبتقدّم علم إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قام علي والحسن والحسين ، وبعلم صمت من صمت منّا ، ولو أنّهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل بهم من أمر الله عزّ وجلّ ، وإظهار الطواغيت عليهم ، سألوا الله تعالى أن يدفع عنهم ذلك ، وألحّوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم ، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم ،
____________
1- الكافي 1 / 259 .
2- المصدر السابق 1 / 258 .
|
الصفحة 368 |
|
ثمّ كان انقضاء مدّة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدّد ، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه ، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها ، فلا تذهبنّ بك المذاهب فيهم " (1) .
وبعد هذا البيان الجلي ، والحجّة الناصعة ، تحصل القناعة لكُلّ عارف بصير ، فالحاصل : أنّ التسليم بما هو قضاء الله وقدره ليس من الإلقاء للنفس في التهلكة .
الثاني : إنّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) كانوا مجبورين في حياتهم الشخصية ، وأمام الأحداث والظواهر على العمل بعلمهم العادي المتأتّي من العلل الطبيعية ، والأسباب المتداولة المتوفّرة للجميع .
ويؤكّد على ذلك استسلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمام إرادة الله تعالى ، جاء في التاريخ : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان في المسجد ، فأخبروه بسوء حال ابنه إبراهيم ، فذهب (صلى الله عليه وآله) إلى البيت واحتضن ابنه ، فقال لـه ـ وهو ينظر إليه ـ : " يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من الله شيئاً ، إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، ونهانا عن الصياح ، ولولا أنّه وعد صادق وموعود جامع وجدنا عليك يا إبراهيم وجداً شديداً ما وجدناه " (2) .
وكان بإمكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن طريق الإعجاز والولاية ، تلك الولاية التي كانت للسيّد المسيح (عليه السلام) في معجزاته في إحياء الموتى ، وإعادة صحّة وسلامة المرضى من أمراضهم الصعبة ، أن يعيد سلامة ابنه .
كان بإمكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ببركة الدعاء المستجاب الذي منحه الله تعالى أن يغيّر الحالة التي كانت لابنه ، وكان بإمكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن طريق العلم الغيبي أن
____________
1- المصدر السابق 1 / 261 .
2- السيرة الحلبية 3 / 434 .
|
الصفحة 369 |
|
يقضي على عوامل المرض لكي لا يمرض ابنه ، ولكنّه (صلى الله عليه وآله) لم يستخدم في هذا الأمر ، ولا في الأُمور الأُخرى هذه الأسباب المؤثّرة ، ولم يخطُ خارج الأحداث الطبيعية والأسباب العادّية ، لماذا ؟!
لأنّ هذه الأسباب غير العادّية أُعطيت للنبي (صلى الله عليه وآله) لأهداف أُخرى ، وأنّه عليه أن يستخدمها فيما يخصّ بإثبات الولاية ، أو في المواقف التي يحتاج إليها فيها ، لا في المسائل الصغيرة والأعمال الشخصية العادّية .
نعم ، إنّه يستطيع استخدام هذه الأسباب عندما يقترن الأمر بإذن إلهي ، عندما يريد أن يثبت ويبرهن نبوّته وارتباطه بمقام الربوبية مثلاً .
ومن أسباب عدم استخدام هذه الأُمور رعاية الجوانب التربوية ، فإنّ حياة الزعيم القائد والإمام لو كانت بعيدة عن المصائب والمشاكل ، والبلايا والأمراض مثلاً ، لم يستطع أن يوصي الآخرين بالصبر والتحمّل في المشاكل والمصائب ، أو يدعو الأُمّة للمقاومة وتحمّل الصعاب والصبر عليها ، إذ لاشكّ في أنّ صبر القائد والإمام في المصائب والمشاكل ، ومقاومته وإيثاره في ميادين الجهاد قدوة للآخرين ، لأنّ الشخص الذي لا يعرف الألم وعدم الراحة ، ولم يلمس طوال حياته المصائب والمشاكل ، لا يمكنه أن يكون نموذجاً في الأخلاق ، وقدوة لحياة الإنسان .
ولهذا ترى في التاريخ أنّ الشخصيات الإلهية كانت تسعى كالآخرين لحلّ مشاكلها ، ومواجهة مصائبها بالوسائل العادّية .
ويؤكّد على ذلك ما نشاهده في أسلوب حياة المعصومين (عليهم السلام) من أنّه لا يختلف كثيراً عن حياة الآخرين ، كانوا يمرضون مثلهم ، ويتوسّلون لشفائهم بالأدوية التي كانت في زمنهم ، وفي الحياة الاجتماعية ، أو المعارك الجهادية يستخدمون نفس الوسائل التي يستخدمها الآخرون ، ويرسلون الأشخاص ليأتوهم بالتقارير عن المعارك ، فإنّ كُلّ ذلك يدلّ على أنّهم لم يكونوا ليستفيدون من الوسائل الإعجازية .
|
الصفحة 370 |
|
فصفوة البحث : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة يعلمون الغيب ، ولكن لا يستخدمون ذلك العلم إلاّ في المواقف الخاصّة ، لا في حياتهم اليومية العادّية .
فكانوا (عليهم السلام) يعلمون أنّ هذا الطعام الذي يأكلونه مسموم ، ولكنّهم يسلّمون لأمر الله تعالى وقدره .
( السيّد الموسوي الساري . البحرين . ... )