نزول الملائكة عليها :
السؤال : هل هناك روايات تقول بأنّ الملائكة لم تنزل على السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ؟ وهل هي صحيحة مقابلة مع الروايات الصحيحة والمعتبرة ، التي تقول بأنّ الملائكة قد نزلت عليها (عليها السلام) ؟
وهل أنّ قول الرسول بما معناه : بأنّ الوحي سينقطع من بعده ، هل كان يقصد به الوحي النبوي إن صحّ التعبير ؟
الجواب : لا توجد عندنا روايات تنفي نزول الملائكة على فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، بل العكس هناك روايات تثبت نزول الملائكة عليها (عليها السلام) وتكلّمها معها ، ومن هنا ورد في الروايات أنّ من ألقابها (عليها السلام) محدّثة ، أي أنّ الملائكة كانت تحدّثها بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وهذا ليس ببعيد ، بعدما نقل لنا القرآن الكريم نماذج من النساء تحدّثن وتكلّمن مع الملائكة ، وهن لسن بنبيّات ولا وصيّات ، وإنّما كنّ وليّات من أولياء الله ، منهن :
|
الصفحة 490 |
|
1ـ مريم (عليها السلام) ، قال تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } (1) .
2ـ سارة (عليها السلام) ، قال تعالى : { وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى... وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ... } (2) .
3ـ أُمّ موسى (عليهما السلام) ، قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } (3) .
والاعتقاد بنزول الملائكة على فاطمة الزهراء (عليها السلام) لا يعدّ غلوّاً ، ولا مبالغة في فضلها ، فهي (عليها السلام) سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين ، وأفضل من مريم بنت عمران ، ومن سارة امرأة إبراهيم (عليه السلام) ، ومن أُمّ موسى (عليهما السلام) ، وقد ثبت بالنصوص القرآنية مشاهدتهن للملائكة وتكليمهن لهم ، فأيّ غلوّ في نسبة مثل ذلك لمن هي أفضل منهن ؟
ثمّ أنّ الإيحاء لم يقتصر على الأنبياء والمرسلين ، وعلى من ذكرناهم من النساء ، فقد أوحى الله تعالى إلى كُلّ من :
1ـ النحل ، قال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ... } (4) .
2ـ الحواريون ـ أصحاب عيسى (عليه السلام) ـ قال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ... } (5) .
____________
1- آل عمران : 42 .
2- هود : 69 ـ 73 .
3- القصص : 7 .
4- النحل : 68 .
5- المائدة : 111 .
|
الصفحة 491 |
|
3ـ السماوات ، قال تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ... } (1) .
4ـ الأرض ، قال تعالى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } (2) .
ويظهر من خلال هذه الآيات القرآنية وآيات أُخرى : أنّ الوحي ليس مختصّ بالأنبياء والرسل فقط ، بل هو يتعدّى إلى أولياء الله تعالى ، نعم الوحي هنا في هذه الآيات ، المفهوم منه غير الوحي في إبلاغ الرسالات إلى الأنبياء ، بل هو شأن آخر من الوحي .
فالوحي لغة : الإعلام الخفي السريع ، واصطلاحاً : الطريقة الخاصّة التي يتّصل بها الله تعالى برسله وأنبيائه لإعلامهم ألوان الهداية والعلم ، وإنّما جاء تعبير الوحي عن هذه الطريقة باعتبارها خفية عن الآخرين ، ولذا عبّر الله تعالى عن اتصاله برسوله الكريم بالوحي .
قال تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ... } (3) .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (4) .
وهذه الآية الأخيرة حدّدت معنى الوحي الذي يختصّ بالأنبياء والمرسلين ، أمّا الآيات الأُخرى المتقدّمة الذكر ، فلها معاني آخر للوحي ، والذي نقول به : إنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) إنّما كانت محدّثة من قبل الملائكة بنحو من أنحاء
____________
1- فصلت : 12 .
2- الزلزلة : 5 .
3- النساء : 163 .
4- الشورى : 51 .
|
الصفحة 492 |
|
الوحي ، الذي بيّنته الآيات الآنفة الذكر ، فلا محالة أن تكون قد حدّثت من قبل الملائكة كما دلّ القرآن على إمكان وقوع ذلك .
ولا أدري ، لماذا تقوم قيامة البعض إذا قلنا بأنّ الزهراء (عليها السلام) يوحي لها ، وقد أوحى الله تعالى إلى السماوات والأرض والحشرات وهي لا تعقل ، فما وجه نفي الوحي عن الزهراء (عليها السلام) وهي بشر ، بل أفضل البشر قاطبة ؟
فإنّ من أوحى لأحجار وحشرات لقادر على أن يُوحي لأفضل بريّته بعد رسوله (صلى الله عليه وآله) .
وإذا رجعت إلى مرويّات أهل السنّة لرأيت العجب العجاب في نزول الوحي على محبّيهم ، فلنلق نظرة على كتب الحديث والسيرة والتاريخ عندهم ، لنرى كيف يدعى تحدّث الملائكة مع الكثير من رجالهم :
1ـ أخرج البخاري عن أبي هريرة ، ومسلم عن عائشة : أنّ عمر بن الخطّاب كان من المحدّثين (1) .
وقد حاول شرّاح البخاري أن يأوّلوه بأنّ المراد أنّه من الملهمين ، أو من الذين يلقى في روعهم ، أو يظنّون فيصيبون الحقّ ، فكأنّه حدث ... ، وهو كما ترى تأويل لا يساعد عليه ظاهر اللفظ .
2ـ ممّن أُدّعي أنّ الملائكة تحدّثهم ، عمران بن الحصين الخزاعي ـ المتوفّى سنة 52 هـ ـ قالوا : " كانت الملائكة تسلم عليه حتّى اكتوى بالنار فلم يسمعهم عامّاً ، ثمّ أكرمه الله بردّ ذلك " (2) .
____________
1- أُنظر : صحيح البخاري 4 / 200 ، صحيح مسلم 7 / 115 ، مسند أحمد 2 / 339 ، مسند الحميدي 1 / 123 ، كتاب السنّة : 569 ، كنز العمّال 11 / 577 ، تاريخ مدينة دمشق 44 / 94 ، سير أعلام النبلاء 19 / 546 ، تأويل مختلف الحديث : 152 ، الجامع لأحكام القرآن 13 / 174 ، تاريخ ابن خلدون 1 / 110 ، تهذيب الكمال 21 / 324 .
2- أُنظر : الطبقات الكبرى 4 / 288 و 7 / 11 ، المعجم الكبير 18 / 107 ، شرح نهج البلاغة 1 / 94 .
|
الصفحة 493 |
|
3ـ ومنهم أبو المعالي الصالح ـ المتوفّى سنة 427 هـ ـ رووا أنّه كلّمته الملائكة في صورة طائر (1) .
4ـ أبو يحيى الناقد ـ المتوفّى سنة 285 هـ ـ رووا أنّه كلّمته الحوراء (2) .
وأمثال هذه المرويّات في كتب أهل السنّة غير قليل ، ولم يستنكر ذلك أحد ، ولم يتّهم أصحابها بالغلوّ .
ومن الجدير بالذكر : أنّ الوحي لـه أساليب وأغراض متعدّدة ، ولا تلازم بين الوحي والنبوّة ، وإن كان كُلّ نبيّ لابدّ أن يُوحى إليه ، وكذلك لا تلازم بين الوحي والقرآن ، فبالنسبة للرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن كُلّ ما نزل عليه من الوحي قرآناً ، فهناك الأحاديث القدسية ، وهناك تفسير القرآن وتأويله ، والإخبار بالموضوعات الخارجية ، وأمثال ذلك ، وكُلّها ليست قرآناً .
فاتّضح أنّ تحديث الملائكة للزهراء (عليها السلام) لم يكن من الوحي النبوي ، ولا من الوحي القرآني ، وممّا يدلّ على عدم الملازمة بين تحديث الملائكة والنبوّة : ما رواه صاحب بصائر الدرجات ، عن حمران بن أعين قال : قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : " إنّ علياً كان محدّثاً " ، فخرجت إلى أصحابي فقلت لهم : جئتكم بعجيبة ! قالوا : ما هي ؟ قلت : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : " كان علياً محدّثاً " ، قالوا : ما صنعت شيئاً إلاّ سألته : من يحدّثه ؟ فرجعت إليه فقلت لـه : إنّي حدّثت أصحابي بما حدّثتني قالوا : ما صنعت شيئاً إلاّ سألته من يحدّثه ؟ فقال لي : " يحدّثه ملك " ، قلت : فنقول : إنّه نبيّ ؟ قال : فحرّك يده هكذا ثمّ قال : " أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أو ما أبلغتكم أنّه قال وفيكم مثله " (3) .
ومن الروايات الدالّة على نزول الملائكة على الزهراء (عليها السلام) .
____________
1- أُنظر : صفة الصفوة 2 / 701 .
2- تاريخ بغداد 8 / 463 .
3- بصائر الدرجات : 341 .
|
الصفحة 494 |
|
1ـ عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوماً ، وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها ، وكان جبرائيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذرّيتها ، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة " (1) .
2ـ عن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : " مصحف فاطمة ما فيه شيء من كتاب الله ، وإنّما هو شيء ألقي إليها بعد موت أبيها صلوات الله عليهما " (2) .
3ـ عن حمّاد بن عثمان قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : " إنّ الله تبارك وتعالى لمّا قبض نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ ، فأرسل الله إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فقال لها : إذا أحسست بذلك فسمعت الصوت فقولي لي ، فأعلمته ، فجعل يكتب كُلّما سمع حتّى أثبت من ذلك مصحفاً " (3) .
4ـ عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر محمّد بن علي (عليهم السلام) عن مصحف فاطمة (عليها السلام) ، فقال : " أنزل عليها بعد موت أبيها " ، قلت : ففيه شيء من القرآن ؟ فقال : " ما فيه شيء من القرآن " (4) .
5ـ عن إسحاق بن جعفر بن محمّد بن عيسى بن زيد بن علي قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : " إنّما سمّيت فاطمة محدّثة ، لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها ، كما تنادي مريم بنت عمران ، فتقول : يا فاطمة ، إنّ
____________
1- المصدر السابق : 174 .
2- المصدر السابق : 179 .
3- المصدر السابق : 177 .
4- المصدر السابق : 105 .
|
الصفحة 495 |
|
الله اصطفاك وطهّرك ، واصطفاك على نساء العالمين ، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين ـ إشارة إلى آية 42 من آل عمران ـ فتحدّثهم ويحدّثونها .
فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها ، وإنّ الله عزّ وجلّ جعلك سيّدة نساء عالمك وعالمها ، وسيّدة نساء الأوّلين والآخرين " (1) .
6ـ عن إسماعيل بن بشّار قال : " حدّثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنة قال : حدّثنا سليمان قال : محمّد بن أبي بكر لمّا قرأ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } (2) ولا محدّث ، وهل يحدّث الملائكة إلاّ الأنبياء ؟ قال : إنّ مريم لم تكن نبية وكانت محدّثة ، وأُمّ موسى بن عمران كانت محدّثة ، ولم تكن نبية ، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشّروها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، ولم تكن نبية ، وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت محدّثة ، ولم تكن نبية " (3) .
والمحدّث من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، ولا رؤية صورة ، أو يلهم لـه ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى ، أو ينكت لـه في قلبه من حقائق تخفى على غيره ، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه .
والنتيجة : أنّ الوحي كان ينزل على الزهراء (عليها السلام) ، لا وحي نبوي ، أي يدلّ على نبوّتها ، ولا وحي قرآني ، أي أنّه يحمل لها آيات قرآنية ، بل وحي يوحى لها ، كما أوحي إلى مريم وسارة وأُمّ موسى .
____________
1- علل الشرائع 1 / 182 .
2- الحجّ : 52 .
3- علل الشرائع 1 / 183 .
|
الصفحة 496 |
|
( عبد الله . البحرين . سنّي )