دخل سالم الأفطس يوماً علـى المأمون العباسي(1) ، وكان الأفطس آنذاك أحد العلماء المعروفين ، فقام المأمون له احتراماً وتعظيماً ، وأخذ الوسادة وثناها للأفطس بيده فلم يُرع المأمون إلاّ وهو يرى صاحبه قد خرّ ساجداً لله تعالى .
سأل المأمون : فيم هذا السجود ؟
قال الأفطس : تذكرت أموراً ، فسجدت شكراً لله عليها !
قال المأمون : وكيف كان ذلك ؟
قال الأفطس : كنت غلاماً مملوكاً ـ في صغري ـ لأحد القصابين ـ وقد حلّت به يوماً مصيبة ، فنذر لله سبحانه نذراً بأن يعتقني أن خلّصه الله منها . وبعد أيام أوفـى بنذره بعد أن دفع الله تعالى عنه البلاء . لكني وجدت نفسي وحيداً وحائراً إلى أين أذهب ، وماذا أعمل ؟ وفجأة راودتني فكرة اختيار طريق العلم . فمضيت في طلبه وتحصيله ، حتى انتهى بي الحال إلى أن يقوم (الخليفة) بنفسه احتراماً لي واكباراً . ذلك من رحمة ربي وفضل العلم ، فسجدت لله شكراً على هذه النعم المتظافرة .
الشهامة المخضوبة بالدماء !
حكى أحـد العلماء فقال : كنت أصلـي جماعة خلف السيد ابو الحسن الاصفهاني(2)، وكان عدد المصلين يقدّر بالألوف . وفجأة حـدث ضجيج بين المصلين ، أثناء سجود الركعة الثانية ، ارتفعت على أثره أصـوات الاستغاثة ، وصرخ البعض : لقد قتل السيد حسن ! (وهو النجل الأكـبر لإمام المصلين الاصفهاني ) . ترك قسم من المصلين صلاتهم ، وهرعوا إلـى الصف الذي وقع الحادث الفجيع فيه ، ولكن السيد أبا الحسن الاصفهاني استمر في صلاته بكل هدوءٍ وسكينة .
وبعد أن أتمّ صلاته ، التفت إلى الوراء ، فرأي الفاجعة المروعة ، حيث قطع رأس ولده من الوريد إلى الوريد ، والقاتل معروف ومحـاط من قبل المصلين ، وهو ( علي الأردهالي ) .
واجه الاصفهاني ذلك الموقف العسير بصبر جميل وبشهامة منقطعة النظير ، حيث لم يزد شيئاً على أن قـــال بصوت ثابـت : ( لا إله إلا الله ) ثلاثة مرات . ثم عفى عن قاتل ولده !
يتنكر لنفسه من أجل الإسلام
بعد وفاة السيد أبو الحسن الاصفهاني (قدس سره) اجتمعت الكلمة من قبل العلماء والأساتذة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف على اختيار السيد حسين القمي(3) لزعامة الحوزة ، والقيام بأعباء المرجعية .
قال السيد القمي لأصحابه وخواصه : لنذهب إلى مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فأدعوا وتؤمِّنون على دعائي .
وبعد الانتهاء من مراسيم الزيارة ، رفع السيد القمي يـده بالدعاء قائلاً : ( يا رب ، اقسم عليك بحـق صاحب هذا القبر ، إن لم أكن أهلاً للمرجعية العليا وزعامة المسلمين ، ولا يمكنني أداء حقها ، وتحمل الواجبات الملقاة علـى عاتقي . أن تختم حياتي ، واقسم عليك يا رب بأن تعهد بها إلى من ترضاه من خلقك خادماً لدينك وحافظاً لمواثيقك ) .
وبعد انتهاء من الدعاء لم يسمع تأميناً من أصحابه . سألهم : لماذا لم تقولوا: آمين ؟ وقد وعدتموني بذلك ؟
أجاب أصحابه : خوفاً من استجابة الدعاء .
غير انه (قدس سره) أصرّ عليهم بأن يتقيدوا بوعدهم ، ثـم دعـا مرة أخرى ، وأمّن أصحابه . فاستجاب الله سبحانه دعاءه بالفعل ، ففارق الدنيا بعد شهور قلائل من تسلمه أعباء المرجعية العليا .
وفي مستشفى بغداد ، أغمى عليه بعد إجراء عملية جراحية في ظهره ، ثم عاد إلى وعيه ، وأصرّ على الملتفين حوله أن يساعدوه في النهوض من فراشه .
وعندما نهض توجه إلى جانب الباب وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، ثم أغمض عينيه وفارق الحياة . الأمر الذي يظهر منه أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حضره عند لحظة سكرات الموت .
لهذا بقيت الحوزة !
ألقى رئيس شرطة قم ، المقدّم سجادي ، القبض على أحد طلاب العلوم الدينية ظلماً ، وأودعه السجن . ولما بلغ السيد البروجردي(4) الخبر استشاط غيضاً وامتلأ غضباً ، وأمر بإحضار رئيس الشرطة .
وعندما مثل المقدم سجادي أمامه واجهه بالتوبيخ والتقريع ، وأمــره بإطلاق ســـراح الطالب في أسرع وقت ، ثم يغادر المدينة ! فأمتثل سجادي لأوامر السيد فأطلق سراح المعتقل . شاع الخبر بين الناس ، وخاف كثيرون من نتيجة إجراءات البروجردي (قدس سره) . فتوافد عليه الأعيان وبعـض المعارف ، يطالبونه بالعـدول عن قراره طرد سجادي من قم . وعلّلوا ذلك بأن مدير الشرطة رجل فظّ غليظ القلب ، ولا يتورع عن الانتقام وارتكاب الحماقات بحق الآمنين ، ولايبالي بقتلهم وسفك دمائهم ومصادرة أموالهم . لكن السيد ثبت عند موقفه ،
دون أن تزلزله التهديدات أو تزحزحه التهويلات من نتائج موقفه الحازم .
منزلة العلماء
قال الشيخ العراقي ضياء الدين(5) في كتاب ( دار السلام ) : رأيت في المنام أني أعبر تلاً من جهة القبلة من الصحن المطهر(6) . فالتفت إلى الحرم من أجل السلام والتوديع ، لكني فوجئت وأنا على ذلك الارتفاع بأني لم أشاهد من القبّة النوراء شيئاً ، فتعجبت ووقفت حائراً . وإذا بسيدٍ عليه شمائل الفضل والجلالة قد قرب مني ، وسألني عن حيرتي ؟ قلت له : لأنني لا أرى القبّة المطهرة في مكانها.
فقال لي : أنزل من التل إلى الأرض !
قلت : وما الذي سيحدث ؟
فقال : لا تحزن ولا تبتئس ، فإنهم سيرفعون القبّة ثانية ، بوسائل ومعدات ثقيلة ، ثم يضعونها في محلها ، دون أن يبقى أي صدع أو عيب .
يقول العراقي : في تلك اللحظة أفقت من نومي ، فعرفت بعدها أن الشيخ الأنصاري (قدس سره) هو المقصود من هذه الرؤيا .
فأخبرت بعض الأصدقاء بالرؤيا وتفسيرها . وهكذا لم يمض غير زمن قصير حتى انتقلت مقاليد المرجعية من بعد الأنصاري إلى السيد محمد حسن الشيرازي .
1 ـ سابع خلفاء بني العباس ، البالغ عددهم 38 وبدأ حكمهم سنة 132هـ وانهارت دولتهم سنة 432هـ .
2 ـ السيد أبو الحسن محمد الموسوي الأصفهاني ، ولد في اصفهان سنة 1277هـ وتوفى في الكاظمية سنة 1365هـ آلت إليه المرجعية بعد وفاة الشيخ محمد حسين النائيني سنة 1355هـ ، شارك في الحركة الدستورية في إيران كما شارك في ثورة العشرين وعارض تنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق . ترك عدّة مؤلفات منها : وسيلة النجاة ، شـرح كفاية الأصول ، حاشية علـى العروة الوثقى ، حاشية على تبصرة المتعلمين ، منتخب الرسائل .
3 ـ السيد حسين القميّ ، ولد في مدينة قم المقدسة سنة 1282هـ ودرس فيها المقدمات وكذلك في طهران ثم انتقل إلى النجف سنة 1311هـ لحضور درس الشيخ حبيب الله الرشتي والشيخ النهاوندي والشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي ، ثم هاجر إلى سامراء سنة 1321هـ لحضور درس الشيخ محمد تقي الشيرازي وبقي هناك عشرة سنوات . وفي سنة 1331هـ انتقل إلى مشهد الرضا وبدأ بالبحث والتدريس ورجع الناس إليه في التقليد ونُشرت رسالته العملية في أرجاء إيران ثم هاجر إلى كربلاء المقدسة . تصدى لرضا شاه ـ البهلوي ـ سنة 1354هـ الذي اجبر النساء على التبرج والسفور ومنع إقامة الشعائر الدينية . رُشحّ للزعامة الدينية بعد وفاة السيد ابو الحسن الاصفهاني وزادت وجاهته وعظم شأنه ثم هاجر إلى النجف الأشرف وتوفى بعد عدة شهور وذلك في 14 ربيع الأول سنة 1366هـ .
من مؤلفاته : مجمع المسائل ، الذخيرة الباقية في العبادات والمعاملات ، مختصر الأحكام ، طريق النجاة ، منتخب الأحكام ، مناسك الحج ، ذخيرة العباد ، هداية الأنام .
4 ـ السيد حسين بن علي بن احمد بن علي نقي البروجردي ، ولد في بروجرد سنة 1292هـ ، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ، توفى سنة 1380هـ في مدينة قم المقدسة ودفن فـي الجامع الذي بناه في حياته إلى جانب مرقد السيدة معصومة (عليها السلام) . تتلمذ عند الشيخ محمد كاظم الخراساني ، آلت إليه المرجعية بعد وفاة السيد أبو الحسن الإصفهاني . ترك تراثاً فكرياً قوامه خمسين كتاباً ورسالة منها : تجريد أسانيد الكافي ، حاشية على الكفاية الأصول ، حاشية على العروة الوثقى ، بيوت الشيعة ، إصلاح واستدراك رجال الطوسي ، جامع أحاديث الشيعة ، دار السلام في فروع الإسلام وأحكامه .
5 ـ الشيخ ضياء الدين العراقي : ولد في سلطان آباد عام 1278هـ وتوفى سنة 1361هـ ، كان من الأساتذة المعروفين في التدريس والتحقيق والتدقيق ومن الشخصيات العلمية التي يشار لها بالبنان ، درّس في الحوزة العلمية في النجف خمسين سنة متواصلة وانتهل من معين درسه جمع غفير من العلماء والمجتهدين . من مؤلفاته : شرح التبصرة ، حاشية على العروة الوثقى ،كتاب القضاء .
6 ـ لحرم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف .