* نسبه الشريف :
ينتمي الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى الأسرة العلوية المباركة من آل بيت النبي محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) ، فهو امتداد لسلسلة الأئمّة الأطهار ( عليهم السلام )، فأبوه الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام )، وجدّه الإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) ، ابن الإمام محمّد الباقر بن الإمام علي زين العابدين ، ابن الإمام السبط الشهيد الحسين ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، صهر النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وزوج الزهراء البتول ( عليها السلام ) ، فحقّ لنا أن نقول : إنّ الإمام الرضا ( عليه السلام ) هو ابن أمير المؤمنين وابن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت الرسول الأعظم محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) .
وقد علّق الإمام أحمد بن حنبل على إسناد رواية فيها هذه السلسلة الذهبية فقال : ( لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنّته )(1).
وأمّا أُمّه فهي : نجمة ، وقيل : تكتم ، وقيل : غير ذلك(2) ، وقد تحلّت بالصفات الحميدة وفضائل الأخلاق التي تسمو بها المرأة المسلمة ؛ من العفّة ، والطهارة ، وسموِّ الذات ، وقد كانت ( أَمَة ) وهذا لا ينقص من مكانتها ؛ لأنّ الإسلام جعل التقوى والعمل الصالح هو الميزان والمقياس في تفاوت الناس وتفاضلهم حيث قال تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(3).
وقد ورد في كيفية زواج الإمام الكاظم( عليه السلام ) بهذهِ السيّدة عدّة أقوال ، نذكر منها ما رواه هشام بن أحمد حيث قال : ( قال أبو الحسن الأول ( عليه السلام ) : هل علمت أحداً من أهل المغرب قدِم ؟.
قلت : لا .
فقال (عليه السلام ) : بلى ، قد قدم رجل احمر فانطلق بنا ، فركب وركبنا معه حتّى انتهينا إلى الرجل ، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق .
فقال له : اعرض علينا ، فعرض علينا تسع جوار ، كلّ ذلك يقول أبو الحسن ( عليه السلام ) : لا حاجه لي فيها ، ثمّ قال له : اعرض علينا .
قال: ما عندي شئ .
فقال له : بلى ، اعرض علينا .
قال : لا والله ما عندي إلاّ جارية مريضة .
فقال له : ما عليك أن تعرضها ؟ فأبى عليه ، ثمّ انصرف .
ثمّ إنّه أرسلني من الغد إليه ، فقال لي : قل له كم غايتك فيها ؟ فإذا قال : كذا وكذا . فقل : قد أخذتها .
فأتيته فقال : ما أريد أن أنقصها من كذا .
فقلت : قد أخذتها ، وهو لك .
فقال : هي لك ، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس .
فقلت : رجل من بني هاشم .
فقال : أيّ بني هاشم ؟.
فقلت : من نقبائهم .
فقال : أريد أكثر منه .
فقلت : ما عندي أكثر من هذا .
فقال : أُخبرك عن الوصيفة : إنّي اشتريتها من أقصى بلاد المغرب ، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب ، فقالت : ما هذه الوصيفة معك ؟
فقلت : اشتريتها لنفسي .
فقالت : ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك ! إنّ هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض ، فلا تلبث عنده إلا قليلا حتّى تلد منه غلاماً يدين له شرق الأرض وغربها .
قال : فأتيته بها ، فلم تلبث عنده قليلا حتّى ولدت له عليا ـ عليه السلام ـ )(4).
كما ورد أنّ هذه الجارية كانت مِلكا لحميدة المصفّاة ، أمّ الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام )، وقد وهبتها لولدها ، فرزقه الله منها الإمام الرضا ، فسمّاها الإمام بعد ذلك بالطاهرة(5).
وقد كانت هذه السيّدة جارية مولدة ـ أي ولدت بين العرب ، ونشأت مع أولادهم ، وتأدّبت بآدابهم ـ وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها ، وإعظامها لمولاتها حميدة ، حتّى أنّها ما جلست بين يديها مذ ملكتها ، إجلالا لها ، ولذا نرى حميدة تقول في حقها : ( إنّ تكتم جارية ما رأيت جارية قطّ أفضل منها )(6) ، وكانت شديدة التقوى والعبادة حتّى أنّها طلبت مَن تعينها على إرضاع ولدها ، فقيلَ لها : ( أَنقص الدر ) ؟
قالت : ( ما اكذب ما نقصَ الدر ولكن عليّ ورد من صلاتي وتسبيحي )(7) . فلقد هامت بحبّ الله وانقطعت إليه حتّى طلبت من يعاونها على إرضاع ولدها ؛ لأنّه يشغلها عن أورادها من الصلاة والتسبيح .
* ولادته المباركة :
ولد الإمام الرضا ( عليه السلام ) في المدينة المنورة ، سنة مئة وثمان وأربعين للهجرة ، في أكثر الأخبار والروايات(8) وتحديداً : في الحادي عشر من ذي القعدة(9).
وقد أدخل نبأ ولادته الفرح والسرور على قلب أبيه الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ؛ لأنّه الإمام من بعده ، والوصيّ الذي يليه ، والوريث الذي يرث الإمامة ، لذا سارع إلى السيّدة زوجته يُهنيها بوليدها ، قائلاً : ( هنيئاً لك يا نجمة كرامة ربّك … ) وأخذ وليده ، فأذّنَ في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، وحنّكه بماء الفرات ، ثمّ ردّه إلى أمّه قائلاً : ( خذيه فإنّه بقيّة الله في أرضه )(10) .
وسمّى الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وليده المبارك باسم جدّه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؛ تبرّكاً وتيمناً بهذا الاسم الذي يرمز لأعظم شخصية خلقت في دنيا الإسلام بعد النبي محمد ( صلّّى الله عليه وآله ) ، وكان الأئمّة يحبّون اسم الإمام عليّ ( عليه السلام ) ، ويسمّون أبناءهم دائماً باسمه ، حتّى إنّك تجد أنّ مَن له ابنان يسمّيهما باسم ( عليّ ) ، فهذا الحسين ( عليه السلام ) يسمّي أبناءه بعليّ الأكبر وعلي الأصغر ، ويقول : ( لو ولد لي مئة لأحببت أن لا أسمّي أحداً منهم إلاّ عليّاً )(11) ، وهذا يعكس علاقة أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأبيهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام وشدّة حبّهم له وتعلقهم به.
* ألقابه وكُناه :
ولقّب الإمام عليّ بن موسى بكوكبة من الألقاب الكريمة ، أشهرها ( الرضا ) ، وقد أضفى عليه الإمام الكاظم ( عليه السلام ) هذا اللقب ، فقد روى سليمان بن حفص ، قال : ( كان موسى بن جعفر سمّى ولده علياً الرضا ، وكان يقول : ادعو لي ولدي الرضا ، وقلت : لولدي الرضا ، وقال لي : ولدي الرضا . وإذا خاطبه قال : يا أبا الحسن )(12) .
وقد روي عن الإمام الكاظم قوله : ( وقد نحلته كنيتي )(13) ، وكان سلام الله عليه يكنّى بـ ( أبي الحسن ) .
وقد أعتاد أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) بتكنية أبنائهم منذ صغرهم ، وهذا من محاسن التربية الإسلامية الهادفة إلى ازدهار الشخصية المسلمة ، وبعث روح الاعتماد فيها ، وجعلها كياناً يعتدّ به .
* نشأته ( عليه السلام ) :
دخل عبد الله بن مطرف بن ماهان ـ وهو من أعلام الفكر ولأدب في عصره ـ على المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا ( عليه السّلام ) ، فقال له المأمون ـ أحد الخلفاء في عصر الإمام ( عليه السّلام ) : ( ما تقول في أهل هذا البيت ؟
فقال عبد الله : ما قولي في طينة عُجنت بماء الرسالة ، وغُرست بماء الوحي ، هل ينفح منها إلاّ مِسك الهُدى ، وعنبر التقى ؟! ) .
لقد حضيَ أهل البيت بعناية الباري عزّ وجلّ ؛ لعلمه ـ سبحانه وتعالى ـ بأنّ هذه الطينة المباركة سوف تحمل من الفضائل والمكارم ما يفوق بقية البشر ، فوهبهم علمه وحكمته ، وجعلهم أبواباً لرحمته ، وعصمهم من الدَّنس والزلل ، وطهّرهم تطهيراً ، ولذا نراهم ( سلام الله عليهم ) ـ ومنذ طفولتهم ـ يتمتّعون بذكاء منقطع النظير ، ويحملون من العلم ما لا يحمله أحداّ من العالمين .
وتُحدِثنا الأخبار عن عجائب وغرائب جَرَت منذ طفولتهم ، من قبيل : تكلُّمهم أثناء الولادة، وانبعاث النور في المكان الذي يولدون فيه ، وأشباهها ، فالعناية الإلهية واليد الغيبية كانت العنصر الأوّل المؤثّر في نشأة أفراد هذا البيت الطاهر .
والإمام الرضا ـ عليه السّلام ـ هو أحد أغصان تلك الشجرة المباركة ، وفرعٌ زاكٍ من فروع بيت الوحي والإمامة ، وقد حضي بعناية المولى والتسديد الغيبي ؛ حتّى إنّ نجمة ( والدته ) لم تشعر بثقل الحمل ، وكانت تسمع في منامها أثناء الحمل تسبيحاً وتمجيداً من بطنها ، فيفزعها ذلك ، وعندما تنتبه لا تسمع شيئاّ ، وتقول إنّها لمّا ولدته : ( وقع على الأرض واضعاً يديه على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء ، يحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم )(14) .
ثمّ إنّ التربية والمحيط العائلي لهما الأثر الكبير في بناء شخصية الإنسان المسلم وتقويم سلوكه ، والإمام الرضا ـ عليه السّلام ـ نشأ في بيتٍ من أجلّ البيوت وأرفعها في الإسلام ، إنّه بيت النّبوة ، ومهبط الوحي والتنزيل ، فقد عاش الإمام في ذلك البيت الذي لم يسمع فيه إلاّ الذكر الكريم واللسان الصادق ، ولم يرَ إلاّ العمل الطيب ، وكلّ ما يقرّب الإنسان إلى ربّه زلفى . إنّه بيت أَذِن الله له أن يرفع وان يُذكر فيه اسمه .
لقد عاش الإمام في كنف أبيه الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) ، وتلقّى على يديه أرقى وأروع ألوان التربية الإسلامية ، وكان الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) كثير الاهتمام والرعاية لولده الرضا ، لأنّه وريثه في الخلافة والإمامة ، وكان يسعى جاهداً ومنذ طفولة ولده أن يهيئ له القاعدة الاجتماعية ، ويعرّف الناس أنّه الإمام من بعده ، فكان يضعه في حجره ويقبِّله ويمصُّ لسانه ، ويضعه على عاتقه ويضمُّه إليه .
يقول المفضل : ( دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليه السّلام ) وعلي ( عليه السّلام ) ابنه في حجره ، وهو يقبّله ويمصّ لسانه ويضعه على عاتقه ويضمّه إليه ، ويقول : بأبي أنت وأمّي ، ما أطيب ريحك وأطهر خلقك ، وأبين فضلك ! قلت : جُعلت فداك ، وقع في قلبي لهذا الغلام من المودّة ما لم يقع لأحد إلاّ لك ؟!
فقال لي : يا مفضل ، هو منّي بمنزلتي من أبي ـ عليه السّلام ـ ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .
فقال المفضل : هو صاحب هذا الأمر من بعدك ؟
قال: نعم، من أطاعه رشد ... )(15) .
كما ورد أنّ الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) كان يقول ابتداء منه ومن دون سؤال : ( هذا أفقه وُلدي ـ ويشير إلى الرضا عليه السّلام - وقد نحلته كنيتي )(16) .
وقد جمع بعض أصحابه ذات يوم وأخبرهم بأنّ ولده الرضا خليفته من بعده ، قائلاً : ( أتدرون لما جمعتكم ؟
قالوا : لا .
قال : اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيّي ، والقيّم بأمري ، وخليفتي من بعدي ، من كان له عندي دين ، فليأخذه من ابني هذا ، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه ، ومن لم يكن له بدّ من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه )(17) .
وفي نص آخر عن محمّد بن يزيد الهاشمي ، قال : ( الآن تتّخذ الشيعة عليّ بن موسى ( عليه السّلام ) إماماً !
قلت : وكيف ذلك ؟
قال : دعاه أبو الحسن موسى بن جعفر ( عليه السّلام ) فأوصى له)(18) .
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المصرِّحة بتقدّمه ، ونصّ أبيه عليه ( سّلام الله عليهم أجمعين ) .
فالإمام الكاظم كان شديد العناية والاهتمام بولده ، وكان حريصاّ على تهيئة القاعدة الجماهيرية للإيمان بإمامة الرضا من بعده ، رغم الظروف العصبية التي عاشها مع خلفاء العبّاس ...
وعاش الإمام الرضا ( عليه السلام ) بعد أبيه وهو يحمل بين طيّات نفسه المحن والكروب التي حدثت لأبيه وأهل بيته وشيعته ، ومن ثمّ توالت عليه ضروب المصائب والآلام الفادحة التي ما انفكّ أصحاب السلطة المعاصرة له يصطنعوها له ، ويفتعلوها ضدّه ، لعلمهم بمكانته من الدين ، وإرثه النبوي ، فأخذوا يلجُونه المحن الفادحة ، والمصائب العظمى ... لكنهم وإن قتلوه وواروا جسده الثرى إلاّ أنّ تعاليمه القيّمة لم توارَ ، ومبادئه السامية بقيت سامقة الجذور متناطحة الفروع لا يكاد يرقون إلى غصنٍ منها فضلاً عن بعضها .
ــــــــــــــــــ
2 ـ إعلام الورى للطبرسي : 2/ 40 .
6 ـ عيون أخبار الرضا : 1/ 40 ، كشف الغمة للأربلي : 3/ 105 .
7 ـ عيون أخبار الرضا : 1/ 24-25.
8 ـ أصول الكافي للكليني : 1/ 486 ، الإرشاد للمفيد : 2/ 246 ، إعلام الورى للطبرسي : 2 /40 .
10 ـ عيون أخبار الرضا : 1/ 30 .
11 ـ عيون أخبار الرضا : 1/ 30 .
12 ـ بحار الأنوار : 49/ 4 ، كشف الغمة : 3/ 89 .
13 ـ أصول الكافي : 1/311 ، كفاية الأثر : 271 ، بحار الأنوار : 49/ 13 .
14 ـ عيون أخبار الرضا 2 : 29 .
15 ـ عيون أخبار الرضا 2 : 40 .
16 ـ عيون أخبار الرضا 2 : 32 .