لقد اثار اعداء الاسلام من جاهليين قدامى ومستشرقين جدد الشبهات الكثيرة حول الوحي القرآني، وكانت تستهدف هذه الشبهات في الغالب التأكيد على ان الوحي القرآني ليس مرتبطاً بالسماء وانما هو نابع من ذات محمد (ص).
وقد اشار القرآن الكريم الى بعض هذه الشبهات في مواضع مختلفة(1) وردد بعض المستشرقين هذه الشبهات وغيرها وحاول اضفاء طابع البحث والدراسة وسمات الموضوعية عليها كما هي الطريقة المتبعة لديهم في مثل هذه الحالات.
ويحسن بنا ان نكون فكرة واضحة عن الوحي الذي نحن بصدد بحث الشبهة حوله ومناقشتها تمهيداً للدخول في صلب الموضوع.
ما هو الوحي ؟
الوحي لغة : هو الإعلام في خفاء(2) ولكن ما هو الوحي الالهي الذي اختص به اللّه سبحانه النبيين من عباده وتجلى بشكل واضح في القرآن الكريم ؟.
وبصدد الاجابة عن هذا السؤال يمكن ان نقول : ان كل فكرة يدركها الانسان فهي ترتبط في وجودها - بسبب او بآخر - باللّه سبحانه وتعالى خالق الإنسان ومدبر اموره. ولكن شعور الإنسان تجاه مصدر هذه الفكرة - بالرغم من إدراكه العقلي لهذه الحقيقة - قد يكون مختلفاً. ونذكر انحاء ثلاثة لهذا الشعور :
أ - ان يشعر بان الفكرة نابعة من ذاته، ووليدة جهده الخاص وادراكه الشخصي، وهذا الشعور هو ما نحسه في حالات الإدراك الاعتيادية تجاه أفكارنا العادية. فاننا - مع اعتقادنا بأن افكارنا منسوبة الى اللّه تعالى على اساس انه الخالق المدبر لعالم الوجود بجميع مقوماته، ومنه قدرتنا على التفكر - نشعر وكأن هذه الفكرة وليدة هذا المزيج المركب في ذات انفسنا وناتجة عن مجموعة المواهب والقدرات الشخصية لنا.
ب - أن يشعر الإنسان بأن الفكرة، قد ألقيت اليه من طرف علوي وجاءته من خارج ذاته، وشعوره هذا بدرجة من الوضوح بحيث يحس بهذا الالقاء والانفصالية بين الذات الملقية والذات المتلقية. ولكنه مع ذلك كله لا يكاد يحس بالاسلوب والطريقة التي تمت فيها عملية القاء الفكرة. وهذا النحو من الشعور تجاه الفكرة هو ما يحصل في حالات (الالهام) الالهي(3).
ج - ان يصاحب الشعور الحسي الذي شرحناه في فقرة (ب)، شعور حسي آخر بالطريقة والاسلوب الذي تتم به عملية الالقاء والاتصال وهذا الحس والشعور - سواء الحس بان الفكرة جاءت من اعلى أو الحس بان مجيئها كان بالاسلوب الخاص - لابد فيه ان يكون واضحاً وجلياً وضوح ادراكنا للاشياء بحواسنا العادية. وهذا هو ما يحدث في حالات الوحي إلى الانبياء، أو على الاقل ما حدث في وحي القرآن الكريم الى نبينا محمد (ص).
إذن فهناك فرق بين الإدراك العادي الذي يكون نتيجة الموهبة، وبين الإلهام، والوحي.
لأن ادراك الموهبة في الحقيقة، يعبر عن فكرة يدركها الانسان، مع شعوره بأنها نتيجة للجهد الشخصي، وإن كان يدرك بشكل عقلي ومنطقي انها مرتبطة بسبب أو بآخر باللّه سبحانه.
والإلهام : عبارة عن فكرة يدركها الإنسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بأنها ملقاة من طرف اعلى منفصل عن الذات الانسانية، وإن كان لا يدرك الانسان شكل الطريقة التي تم فيها هذا الالقاء.
والوحي : عبارة عن فكرة يدركها الإنسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بانها ملقاة من طرف اعلى منفصل عن الذات الانسانية، وشعور آخر واضح بالطريقة التي تم فيها الالقاء.
الشبهة حول الوحي :
هناك ارتباط وثيق بين هذا الموضوع وبحث اعجاز القرآن، لأننا نتعرف من خلال ذلك البحث، على أن القرآن ليس ظاهرة بشرية، وبالتالي
ليس من صنع محمد (ص)، وإنما يكشف بجوانب التحدي فيه عن ارتباطه بعالم الغيب وما وراء الطبيعة، كما اشرنا الى ذلك في بحث اعجاز القرآن.
وعلى هذا الاساس : نجد أن مناقشة الشبهات، التي تثار حول الوحي القرآني، لابد وأن تعتمد بصورة رئيسية على نتائج بحث إعجاز القرآن. ولذا فنحن نذكر هنا، بعض ما يثار حول الوحي، نقصد بذلك أن نعالج بعض التفاصيل ذات العلاقة بهذه الإثارة دون الجانب الأساسي للمسألة.
ولعل من اخبث الأساليب في اثارة الشبهة حول الوحي، هو الاسلوب الذي يحاول أن يضفي على النبي محمد (ص)، صفات الصدق والامانة والاخلاص والذكاء، الامر الذي أدى به ان يتخيل نفسه انه ممن يوحى اليه، وهو ما يسمى بالوحي النفسي.. فإن هذا الاسلوب يحاول ان يسترد دوافعه المغرضة، بمظاهر الإنصاف والمحبة والاعجاب.
القرآن وحي نفسي لمحمد (ص)
وخلاصة ما قيل في صياغة هذه الشبهة : أن محمداً (ص) قد ادرك بقوة عقله الذاتية، وبما يتمتع به من نقاء وصفاء روحي ونفسي.. بطلان ما كان عليه قومه من عبادة الاصنام، كما ادرك ذلك أيضاً افراد آخرون من قومه. وان فطرته الزكية - بالاضافة الى بعض الظروف الموضوعية كالفقر - حالت دون ان يمارس اساليب الظلم الاجتماعي من الاضطهاد، واكل المال بالباطل. أو الانغماس بالشهوات، وارتكاب الفواحش كالاستمتاع بالسكر والتسري وعزف القيان وغير ذلك من القبائح.
وانه طال تفكيره من اجل انقاذهم من ذلك الشرك القبيح وتطهيرهم من تلك الفواحش والمنكرات.
وقد استفاد من النصارى الذين لقيهم في اسفاره أو في مكة نفسها
كثيراً من المعلومات عن الانبياء والمرسلين، ممن بعثهم اللّه في بني اسرائيل وغيرهم، فأخرجوهم من الظلمات الى النور. كما انه لم يقبل جميع المعلومات التي وصلت اليه من هؤلاء النصارى، لما عرض للنصرانية من الأفكار الوثنية والانحرافات، كألوهية المسيح وامه، وغير ذلك من البدع.
وانه كان قد سمع أن اللّه سيبعث نبياً مثل اولئك الانبياء من عرب الحجاز بشر به عيسى المسيح وغيره من الانبياء، وتولد في نفسه امل ورجاء في أن يكون ذلك النبي الذي آن اوانه. واخذ يتوسل الى تحقيق هذا الأمل بالانقطاع الى عبادة اللّه تعالى في خلوته بغار حراء.
وهنالك قوي ايمانه وسما وجدانه، فاتسع محيط تفكيره وتضاعف نور بصيرته، فاهتدى عقله الكبير الى الآيات والدلائل البينة في السماء والارض، على وحدانية اللّه سبحانه خالق الكون ومدبر اموره. وبذلك اصبح اهلا لهداية الناس واخراجهم من الظلمات الى النور.
ثم ما زال يفكر ويتأمل ويتقلب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنه هو النبي المنتظر، الذي يبعثه اللّه لهداية البشرية، وتجلى له هذا الإعتقاد في الرؤى المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك يلقنه الوحي في اليقظة.
واما المعلومات التي جاءته من هذا الوحي، فهي مستمدة في الاصل من تلك المعلومات، التي حصل عليها من اليهود والنصارى، ومما هداه اليه عقله وتفكيره، في التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح. ولكنها كانت تتجلى وكأنها وحي السماء، وخطاب الخالق عز وجل، يأتيه بها الناموس الاكبر، الذي كان ينزل على موسى بن عمران وعيسى بن مريم، وغيرهما من النبيين عليهم السلام.
مناقشة الشبهة
واذا أردنا ان ندرس هذه النظرية (نظرية الوحي النفسي)، لا نجدها تصمد امام النقد والمناقشة العلمية، إذ يمكن ان يلاحظ عليها من خلال جوانب ثلاثة :
الاول : ان الدلائل التاريخية، وطبيعة الظروف التي مر بها النبي (ص) تأبى التصديق بهذه النظرية وقبولها.
الثاني : إن المحتوى الداخلي للظاهرة القرآنية، بما يضم من تشريع واخلاق وعقائد وتأريخ، لا يتفق مع هذه النظرية في تفسير الوحي القرآني.
الثالث : إن موقف النبي محمد (ص) من الظاهرة القرآنية، يشهد بوضوح على رفض تفسيره الظاهرة القرآنية بنظرية الوحي النفسي.
أ - الدلائل التاريخية تناقض نظرية الوحي النفسي :
لقد ذكر السيد رشيد رضا - بصدد مناقشته للمقدمات التاريخية وغيرها التي رتبها (در منغام) لعرض نظرية الوحي النفسي - عشر ملاحظات : وسوف نقتصر على تلخيص بعضها :
الاولى : ان اكثر المقدمات التي بنى عليها اصحاب النظرية بنيانهم ونظريتهم، لا تقوم على اساس تاريخي صحيح، وانما تنطلق من نقطة مفروضة على البحث بشكل مسبق، وهي ان الوحي القرآني ليس وحياً منفصلاً عن الذات المحمدية، الامر الذي كان يدعو اصحاب النظرية الى اختلاق الحوادث والاخبار، أو تخيلها من اجل اكمال الصورة ووصل بعض الحلقات
ببعضها الآخر.
ومن الامثلة على ذلك ما يذكرونه من تفاصيل في مسألة لقاء الراهب بحيرا مع محمد (ص) وهو بصحبة عمه ابي طالب، الامر الذي يدعوهم الى الاستنتاج وافتراض محادثات دينية وفلسفية معقدة.
وما يذكرونه ايضاً بصدد تعليل اطلاعه على اخبار عاد وثمود، من أنه كان نتيجة مروره بأرض الاحقاف، بالرغم من أن هذه الارض لا تقع على الطريق الاعتيادي لمرور القوافل التجارية، كما ان التاريخ لم يذكر لنا مرور النبي بها الى غير ذلك من الاحداث والقضايا.
الثانية : ان افتراض تعلم النبي محمد (ص) من نصارى الشام وغيرهم لا يتفق مع واقع الحيرة والتردد في موقف المشركين من رسول اللّه. لأن مثل هذه العلاقة لا يمكن التستر عليها امام اعداء الدعوة من المشركين وغيرهم، الذين عاصروه وعرفوا اخباره وخبروا حياته العامة بما فيها من سفرات ورحلات. وبالرغم من ان هؤلاء لم يمسكوا عن اطلاق شتى التهم والأراجيف، وافترضوا في الوحي الفروض المتعددة، ومنها فرض التعلم والتلقي من اشخاص معينين. كالرومي الحداد في مكة(4). ولكن مع ذلك كله لم يكن ليفرضوا ان يكون قد تعلم من نصارى الشام او غيرهم.
الثالثة : انه لم يعرف عن الرسول محمد (ص): أنه كان ينتظر ان يفاجئ بالوحي. او يأمل ان يكون هو الرسول المنتظر. لينمو ويتطور هذا الامل في نفسه. فيصبح واقعاً نفسياً. بالرغم من تدوين كتب السيرة النبوية لأدق الاحداث والتفصيلات عن حياة الرسول الشخصية.
ولعل من القرائن التاريخية التي تشهد بكذب هذا الافتراض : هو
ما ذكرته كتب السيرة من اضطراب النبي وخوفه. حين فاجأه الوحي في غار حراء.
الرابعة : ان هذه النظريةتفرض أن يكون إعلان النبوة نتيجة مرحلة معينة من التكامل العقلي والنفسي. ونتيجة مراحل طويلة من المعاناة والتفكير والتأمل والحساب... وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن ينطلق الرسول في اللحظة الاولى من دعوته الى طرح مفاهيمه وأفكاره ومناهجه عن الكون والحياة والمجتمع بجوانبه المتعددة. لأن المفروض ان الصورة كانت متكاملة عنده نتيجة التفكير الطويل... مع ان التاريخ يؤكد ان اسلوب الدعوة وطريقتها كانا يختلفان عن ذلك تماماً وإن كانت البداية هي الخوف والاضطراب ثم الدعوة الى التوحيد ومن ثم الانطلاق الى المجالات الاخرى بشكل تدريجي مع ما كان يتخلل ذلك من ركود وانقطاع في الوحي.
ب - المحتوى الداخلي للظاهرة القرآنية يناقض نظرية الوحي النفسي :
إن لسعة النظرية القرآنية وآفاقها المتعددة ومجالاتها المتشعبة، اهمية كبرى في رفض نظرية الوحي النفسي. إذ ان هذا الاتساع والشمول لا يتفق مع طبيعة المصادر التي تفرضها النظرية. ويتضح ذلك عندما نلاحظ الامور التالية : -
1 - ان الموقف العام للقرآن الكريم تجاه الديانتين اليهودية والمسيحية هو موقف المصدق لهما والمهيمن عليهما. فقد صدق القرآن الكريم الاصل الالهي لهاتين الديانتين وارتباطهما بالمبدأ الاعلى. كما جاء مهيمناً ورقيباً وحاكماً على ما فيهما من ضلالات.
وجاءت هذه الرقابة دقيقة شاملة. فلم تترك مفهوماً او حكماً او
حادثة الا ووضعت القياس الصحيح فيه. ولا يمكن ان نتصور محمداً (ص) وهو يأخذ عن اهل الكتاب - يتمكن من ان يصفهم بالجهل والتحريف والتبديل بمثل هذا اليقين والثبات. ويوضح الموقف الصحيح في المسائل الكبرى التي اختلفوا فيها او خالفوا الواقع الصحيح للديانة ثم تأتي نظريته بعد ذلك كاملة شاملة ودقيقة ليس فيها تناقض ولا اختلاف... ولكن محمداً لم يكن قد اخذ منهم شيئاً. وإنما تلقى كل ذلك عن الوحي الالهي الذي جاء مصداقاً لما سبقه من الوحي. ومهيمناً على الانحراف والتحريف معاً.
2 - ونجد القرآن أيضاً يخالف التوراة والانجيل في بعض الأحداث التاريخية، فيذكرها بدقة متناهية ويتمسك بها باصرار، في الوقت الذي كان بامكانه ان يتجاهل بعضها على الاقل، تفاديا للاصطدام بالتوراة والانجيل.
ففي قصة موسى : يشير القرآن الى ان التي كفلت موسى هي امرأة فرعون، مع أن سفر الخروج يؤكد انها كانت ابنته. كما ان القرآن يذكر غرق فرعون بشكل دقيق لا يتجاهل، حتى مسألة نجاة بدن فرعون من الغرق مع موته وهلاكه «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وان كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون» يونس 92. في الوقت الذي نجد التوراة تشير الى غرق فرعون بشكل مبهم، ويتكرر نفس الموقف في قضية العجل حيث تذكر التوراة ان الذي صنعه هو هارون، وفي قصة ولادة مريم للمسيح عليهما السلام وغيرهما من القضايا..
ولا يصح لمحمد (ص) وهو الانسان الصادق الامين الذكي أن يذكر هذه التفاصيل، فيصطدم بالتوراة والانجيل دون سبب معقول، لولا ان يكون قد تلقى ذلك عن طريق الوحي الالهي الذي لا يستطيع مخالفته.
3 - ان سعة التشريع الاسلامي وعمقه وشموله للمجالات المختلفة من الحياة، مع دقة التفاصيل التي تناولها، والانسجام الكبير بين هذه
التفصيلات، برهان واضح على تلقيه ذلك عن طريق الوحي. إذ لم يكن لمحمد وهو الانسان الامي، الذي كان يعيش في ذلك العصر المظلم، كما انه قضى اكثر حياة دعوته في خضم الصراع الاجتماعي.. ليتمكن كانسان ان يفعل ذلك لولا ان يكون قد تلقى ذلك عن طريق الوحي والسماء.
ج - موقف النبي من الظاهرة القرآنية شاهد على رفض نظرية الوحي النفسي(1)
لقد كان
النبي محمد (ص)، يدرك بشكل واضح، الانفصال التام بين ذاته المتلقية والذات الالهية الملقية من أعلى. وهذا الادراك هو حقيقة الوحي الذي اشرنا اليه سابقاً، وقد صور الرسول (ص) هذا الوعي والادراك في مناسبات متعددة، وأوضحه للمسلمين فيما روي عنه حيث قال : (احياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو اشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال. واحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول).
وقد انعكس هذا الشعور الواعي بالانفصال في الوحي، بين الذات الآمرة المعطية والذات المخاطبة المتلقية.. على الظاهرة القرآنية. وكان له مظاهر عديدة نذكر منها الأشكال الثلاثة التالية :
الشكل الاول :
الصورة التي يبدو فيها النبي من خلال الظاهرة القرآنية عبداً ضعيفاً
لخصنا هذا الموضوع عن الدكتور صبحي الصالح في كتابه مباحث علوم القرآن 28 - 38 وهو بدوره اخذه كما يظهر من كتابة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) ومالك بن نبي في كتابه (الظاهرة القرآنية).
للّه سبحانه، يقف بين يدي مولاه يستمد منه العون ويطلب منه المغفرة ويمتثل اوامره، ونواهيه، ويتلقى منه العقاب بمختلف مراتبه واشكاله.
والامثلة القرآنية على ذلك كثيرة :
فالقرآن يصور محمداً في صورة الانسان المطيع الذي لا يملك لنفسه شيئاً، ويخاف ربه إن عصاه، فيلتزم الحدود التي وضعها له ويرجو رحمته وليس من شيء يأتيه الا من قبل ربه، فهو يعترف بالعجز المطلق تجاه إرادة اللّه أو تبديل حرف من القرآن :
(واذا تتلى عليه آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن ابدله من تلقاء نفسي إن اتبع الا ما يوحى الي، إني اخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل لو شاء اللّه ما تلوته عليكم ولا ادراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله افلا تعقلون)(5).
(قل انما انا بشر مثلكم يوحى الي انما الهكم اله واحد)(6).
(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً الا ما شاء اللّه ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)(7).
(قل لا اقول لكم عندي خزائن اللّه ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحى إلي)(8).
ومن يقرأ هذه الآيات القرآنية ونظائرها ويترك لوجدانه الحكم، لا يسعه الا أن يقتنع من اعماق قلبه ونفسه، بالفرق بين الذات الالهية الآمرة الملقية والذات المحمدية المطيعة المتلقية.
ثم يزداد هذا الفرق وضوحاً بين ذات اللّه المتكلم منزل الوحي وصفاته وبين ذات رسوله المخاطب متلقي الوحي وصفاته، في الآيات التي يعتب اللّه فيها على نبيه عتاباً خفيفاً أو شديداً، أو يعلمه فيها بعفوه عنه وغفرانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر :
فمن العتاب الخفيف المقترن بالعفو خطابه لرسوله في شأن من أذن لهم بالقعود عن القتال في غزوة تبوك (عفا اللّه عنك لم اذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)(9) (ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر)(10).
واشد من هذا ما يوجه الى الرسول (ص) من الانذار والتهديد في مثل قوله تعالى : «يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس» وقوله تعالى «وان كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا اليك لتفتري علينا غيره اذاً لاتخذوك خليلاً. ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً اذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا(11).
وهذا الانذار يبلغ القمة، فيستصغر بعده كل تهديد وكل وعيد حين يقول اللّه : (ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حاجزين)(12).
ومن خلال هذه الآيات المتوعدة والمنذرة، وتلك العاتبة المؤدبة يبدو لنا رسول اللّه (ص) مخلوقاً ضعيفاً بين يدي ربه ذي القدرة القاهرة،
والقوة الكبرى والارادة التي لا معقب لها.
ويبدو لنا ايضاً : كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات اللّه الآمرة، وبوعيه الكامل هذا كان عليه السلام يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين احاديثه الخاصة التي كان يعبّر عنها بإلهام من اللّه. لذلك نهى عليه السلام اول العهد لنزول الوحي عن تدوين شيء عنه سوى القرآن لكي يحفظ للقرآن صفته الربانية. ويحول دون اختلاطه بشيء ليست له هذه الصفة القدسية بينما كان عند نزول الوحي - ولو آية أو بعض آية - يدعو احد الكتبة فوراً ليدون ما نزل من القرآن.
الشكل الثاني :
يبدو النبي في القرآن الكريم بمظهر الخائف من ضياع بعض الآيات القرآنية ونسيانها، الأمر الذي كان يدعوه الى ان يعجل بقراءة القرآن، قبل ان يقض اليه وجد ويأخذ بترديده ويجهد نفسه وفكره من اجل ان لا يفوته شيء من ذلك، ويتضح هذا في قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علماً)(13) (لا تحرِّك به لسانك لتعجل به. إنَّ علينا جمعه وقرآنه. فاذا قرأناه فاتَّبع قرآنه. ثم ان علينا بيانه)(14).
ولا يسعنا ازاء هذه الحقيقة الا ان نعترف باستقلال ظاهرة الوحي عن ذات النبي استقلالاً مطلقاً. وتفردها عن العوامل النفسية تفرداً كاملاً فالنبي لا يملك حتى حق استخدام ذاكرته في حفظ القرآن، بل اللّه
يتكفل بتحفيظه اياه، وقانون التذكر نفسه بطل الآن سحره وعفا اثره تجاه ارادة اللّه. فكيف لا يعي النبي - بعد هذا كله - الفرق العظيم بين ذاته المأمورة وذات اللّه الآمرة وهو يرى بنفسه انه لا يملك من امر نفسه شيئاً ؟!
الشكل الثالث :
يبدو النبي من خلال تاريخ نزول القرآن انه كان مقتنعاً بأن التنزيل القرآني مصحوب بانمحاء ارادته الشخصية، وانه منسلخ عن الطبيعة البشرية حتى ما بقي له عليه الصلاة والسلام اختيار فيما ينزل اليه او ينقطع عنه. فقد يتتابع الوحي ويحمى حتى يشعر انه يكثر عليه. وقد يفتر عنه وهو يشعر انه أحوج ما يكون اليه.
فقد كان الوحي ينزل على قلبه صلوات اللّه عليه في احوال مختلفة :
انه ليأوي الى فراشه فما يكاد يغفو اغفاءة حتى ينهض ويرفع رأسه مبتسماً فقد اوحيت اليه سورة الكوثر : الخير الكثير. وانه ليكون وادعاً في بيته وقد بقي من الليل ثلثه.فتنزل عليه آية التوبة في الثلاثة الذين خافوا (حتى اذا ضاقت عليهم الارض بما رحبت. وضاقت عليهم انفسهم. وظنوا ان لا ملجأ من اللّه الا اليه ثم تاب عليهم ليتوبوا ان هو الله التواب الرحيم)(15).
ان الوحي لينزل على قلب النبي في الليل الدامس والنهار الاضحيان وفي البرد القارس او لظى الهجير، وفي استجمام الحضر او اثناء السفر، وفي هدأة السوق او وطيس الحرب.
ثم ها هو ذا الوحي ينقطع عن النبي، وهو اشد ما يكون اليه شوقاً
وله طلباً، فبعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق : (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فتر الوحي ثلاث سنوات فحزن النبي. ثم حمى الوحي وتتابع فاستبشر النبي وتبدل انتظاره الحزين فرحة غامرة، وايقن ان هذا الوحي الذي استعصى عليه ولم يوافه طوع ارادته، مستقل عن ذاته خارج عن فكره، فاستقر في ضميره الواعي ان مصدر هذا الوحي هو اللّه علام الغيوب.
ومن ذا الذي ينسى كيف ابطأ الوحي بعد (حديث الافك) الذي رمى به المنافقون زوج النبي (ص)، واثاروا به حولها الفضيحة حتى عصفت بقلب الرسول الريبة. من ذا الذي لا يدرك ان هذه المدة التي تصرمت على الحادثة من غير ان يتلقى النبي خلالها وحياً، كانت اثقل عليه من سنين طويلة. بعد ان خاض المنافقون في زوجه خوضاً باطلاً ؟ فما بال النبي الذي كان فريسة للشك والقلق يظل صامتاً ينتظر واجماً يتربص حتى نزلت آيات النور تبرئ ام المؤمنين ؟.
وما له لا يسرع الى التدخل في امر السماء، فيرتدي مسوح الرهبان، ويهيئ الاسجاع ويطلق البخور، ويبرئ زوجه من قذف القاذفين ؟
ولقد كان النبي يتحرق شوقاً الى تحويل القبلة الى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة الى البيت الحرام ولكن رب القرآن لم ينزل في هذا التحويل قرآناً رغم تلهف رسوله الكريم اليه، الا بعد قرابة عام ونصف العام (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام)(16).
فلما لم يسعف النبي نفسه بوحي عاجل يحقق ما يصبو اليه ويتمناه ؟. ان الوحي ينزل ويكثر على محمد حين يشاء رب محمد. ويفتر اذا شاء له
رب محمد الانقطاع، فما تنفع التعاويذ والاسجاع، ولا تقدم عواطف محمد ولا تؤخر في امر السماء.
وحين نلتفت الى هذه الاشكال الثلاثة بصورها المختلفة، ونضيف اليها الجانبين الآخرين، لا يبقى لدينا مجال لأي تردد في شأن حقيقة الظاهرة القرآنية، وانفصالها عن الذات المحمدية، وبطلان الوحي النفسي وما اليه من شبهات قد تثار.
الهوامش:______________________________
(1) منها الانبياء : 21 والدخان : 14 والفرقان : 5 والنحل 103 وغيرها.
(2) لسان العرب 15/381 مادة : وحي.
(2) قارن بهذا ما ذكره الدكتور صبحي الصالح في كتابه (مباحث في علوم القرآن).
(4) (ولقد تعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين) النحل 103.
(5) يونس : 15 - 16.
(6) الكهف : 11.
(7) الاعراف : 118.
(8) الانعام : 50.
(9) التوبة : 43.
(10) الفتح : 2.
(11) الاسراء 74 - 75.
(12) الحاقة 44 - 47.
(13) طه : 114.
(14) القيامة : 16 - 19.
(15) التوبة : 118.
(16 )البقرة : 144.
source : www.tebyan.net