المراد من البداء عند الشيعة الإمامية ليس إلاّ تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة. فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً بل هو بعد مخيّر في أن يغيره بصالح أعماله وبطالحه ، حتى أنَّ هذا (تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل) أيضاً جزء من تقديره سبحانه.
فبما أنه سبحانه ?كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأْن?(الرحمن:29). وبما أنَّ مشيئته حاكمة على التقدير ، وبما أنَّ العبد مختار لا مسيّر ، فله أن يغير مصيره ومقدره بحسن فعله ويخرج نفسه من عداد الأشقياء ويدخلها في عداد السعداء ، كما أنَّ له عكس ذلك.
وبما أنَّ الله ?لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ?(الرعد:11) ، فالله سبحانه لا يغير قدر العبد إلاّ بتغيير من العبد بحسن عمله وسوئه ولا يعد تغييرالتقدير الإلهي بحسن الفعل وسوئه معارضاً لتقديره الأول سبحانه ، بل هوأيضاً جزء من قدره وسنته. فإنَّ الله سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، لم يقدره ولم يقضه عليه على وجه القطع والحتم، بحيث لا يتغير ولا يتبدل ، بل قضاؤه وقدره على وجه خاص، وهوأنَّ ما قدّر للعبد يجري عليه ما لم يغير حاله بحسن فعله وسوئه، فإذا غيّر حاله تغيّر قَدَر الله وقضاؤه في حقه وحلّ مكان ذلك القدر قَدَرٌ آخر، ومكان ذلك القضاء قضاء آخر. والجميع (من القضاء والقدر السابقين واللاّحقين) قضاء الله وقدره، وهذا هوالبداء الّذي تتبناه الإمامية من مبدأ تاريخها إلى هذا الوقت. ولأجل إيقاف الباحث على صدق هذا المقال نأتي ببعض النصوص لأقطابها القدماء حتّى يعرف أنَّ ما نسب إليها من معنى البداء أمر لا حقيقة له.
قال الشيخ الصدوق (ت 306 ـ م 381 هـ) في باب الاعتقاد بالبداء: "إنَّ اليهود قالوا: إنَّ الله تبارك وتعالى قد فرغ من الأمر، قلنا: بل هو تعالى ?كُلَّ يَوْم هُوَفِي شَأْن?(الرَّحمن:29) لا يشغله شأن عن شأن ، يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويفعَل ما يشاء. وقلنا: ?يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ?(الرعد:39)"1.
وقال الشيخ المفيد (ت 336 ـ م 413 هـ) في (شرح عقائد الصدوق): "قد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغير الحال فيه، قال الله تعالى: ?ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ?(الأنعام:2). فتبين أنَّ الآجال على ضربين، وضرب منها مشترط يصحّ فيه الزيادة والنقصان. ألا ترى قوله تعالى: ?وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَاب?(فاطر:11).
وقوله تعالى: ?وَلَوأنّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهم بَرَكات مِنَ السَّماءِ والأرضِ?(الأعراف:96).
فبّين أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع عن الفسوق.
وقال تعالى فيما أخبر به عن نوح عليه السَّلام في خطابه لقومه: ?استغفِرُوا رَبَكُم إِنّه كانَ غَفّاراً * يُرسِلِ السَماءَ عَلَيكُم مِدراراً...?(نوح:10-11)إلى آخر الآيات.
فاشترط لهم في مدّ الأجل وسبوغ النعم ، الاستغفار. فلما لم يفعلوا قطع آجالهم وبتر أعمالهم واستأصلهم بالعذاب، فالبَداء من الله تعالى2 يختص بما كان مشترطاً في التقدير وليس هوالانتقال من عزيمة الى عزيمة، تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبير"3.
وقال أيضاً في (أوائل المقالات): "أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله ، من الإفقار بعد الغناء ، والإمراض بعد الإعفاء، وبالإماتة بعد الإحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والأرزاق النقصان منها بالأعمال"4.
وقال الشيخ الطوسي (ت 385 ـ م 460 هـ)في (العدة): "البَداء حقيقة في اللغة هوالظهور، ولذلك يقال: "بدا لنا سور المدينة"و"بدا لنا وجه الرأي". وقال الله تعالى ?وَبَدَا لَهُم سَيَّئَاتُ ما عَمِلوا?(الجاثية:33).
?وَبَدَا لهُم سَيَّئات ما كَسَبوا?(الزمر:48)ويراد بذلك كله "ظهر".
وقد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا وكذلك في الظن. وأَما أِذا أُضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز. فأما ما يجوز من ذلك فهوما أفاد النسخ بعينه ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع. وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهم السَّلام من الأخبار المتضمنة إضافة البداء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه: من حصول العلم بَعدَ أن لَم يكن. ويكون وجه إطلاق ذلك على الله تعالى، التشبيه وهوأنَّه إِذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهراً لهم ويحصل لهم العلم به بعد أَن لم يكن حاصلا لهم أطلق على ذلك لفظ البداء"5.
ويريد الشيخ أن أطلاق البداء على الله تعالى لأجل كونه بداءً في أذهان الناس، وظهوراً بعد خفاء، فكان ذلك مصححاً لإطلاقه على الله سبحانه بالمجاز والتوسع، كما عرفت نظيره في بعض الألفاظ.
هذا بعض ما أفاده علماء الشيعة القدامى، وأما ما كتبه المتأخرون حوله فحدث عنه ولا حرج وفي وسعك المراجعة إليه6.
فبأي وجه فسّر كلام النبي يفسر به كلام أوصيائه.
فاتضح بذلك أنَّ التسمية من باب المشاكلة وأنَّه سبحانه يعبر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبر به الناس عن فعل أَنفسهم، لأجل المشاكلة الظاهرية، ولكونه مقتضى المحاورة مع الناس والتحدث معهم.
وباختصار: إنَّ البحث في حقيقة البداء المقصودة للامامية أمر اتفق المسلمون حسب نصوص كتابهم وأحاديث نبيّهم عليه ، ولا يمكن لأحد إنكاره.
وأَما التسمية بالبداء فمن باب المشاكلة والمجاز ، فمن لم يستسغه فليسمه باسم آخر "وَليَتَّق الله ربه في أخيه المؤمن ، ولا يبخس منه شيئاً" ?وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أشياءَهُم وَلا تَعثَوا في الارضِ مُفسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللهِ خَير لَكُم إن كُنتُم مُؤمِنِينَ?(هود:85ـ86).
وبذلك تقف على أنَّ ما ذكره الامام الأشعري في (مقالات الاسلاميين)7. والبلخي في تفسيره8 ، والرازي 9 ، وغيرهم حول البداء ، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه. فانهم فسروا البداء لله بظهور ما خفي عليه والشيعة براء منه ، بل البداء عندهم تغيير التقدير بالفعل الصالح والطالح فلوكان هناك ظهور بعد الخفاء فهوبالنسبة الينا لا بالنسبة الى الله تعالى ، بل هوبالنسبة اليه ابداء ما خفي واظهاره. ولوأطلق عليه فمن باب التوسع.
*الإلهيات ، آية الله جعفر السبحاني
source : tebyan