السؤال: هل العبادة نفس الخضوع أو نهایته ؟
الجواب: إنّ الخضوع و التذلّل، حتّى إظهار نهایة التذلّل، لا یساوی العبادة، و لا یعدّ حداً منطقیاً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، و التلمیذ أمام أُستاذه، و الجندیُّ أمام قائده، لیس عبادة لهم و إن بالغوا فی الخضوع والتذلّل حتّى و لو قبّل الولدُ قدمَ الوالدین، فلا یعد عمله عبادة، لأنّ اللَّه سبحانه یقول: « واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةٍ».[1]
و أوضح دلیل على أنّ الخضوع المطلق و إن بلغ النهایة لا یعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائکة بالسجود لآدم و قال: « و إذْ قُلنا لِلمَلائِکةِ اسْجُدوا لآدَمَ».[2]
و آدم کان مسجوداً له ککونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّ الأول لم یکن عبادة و إلّا لم یأمر بها سبحانه، إذ کیف یأمر بعبادة غیره و فیالوقت نفسه ینهى عنها بتاتاً فی جمیع الشرائع من لدن آدم علیه السلام إلى الخاتم صلى الله علیه و آله، ولکن الثانی- أی الخضوع للَّه- عبادة.
واللَّه سبحانه یصرّح فی أکثر من آیة بأنّ الدعوة إلى عبادة اللَّه سبحانه، و النهی عن عبادة غیره، کانت أصلًا مشترکاً بین جمیع الأنبیاء، قال سبحانه: « ولَقدْ بَعثنا فی کُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أنِ اعبدُوا اللَّهَ واجْتنِبوا الطّاغوتَ»[3]
و قال سبحانه: «وَ ما أرسَلنا مِنْ قَبلِکَ مِنْ رَسولٍ إلّا نُوحی إلیهِ أنَّهُ لا إلهَ إلّا أنَا فَاعْبُدونِ»[4]
و فی موضع آخر من الکتاب یعدّ سبحانه التوحید فی العبادة: الأصل المشترک بین جمیع الشرائع السماویة، إذ یقول: «قل یا أهْلَ الکِتابِ تَعالَوْا إلى کَلِمةٍ سَواءٍ بَینَنا و بَینَکمْ ألّا نَعْبدَ إلّااللَّهَ ولا نُشرِکَ بهِ شَیئاً».[5]
و معه کیف یأمر بسجود الملائکة لآدم الذی هو من مصادیق الخضوع النهائی؟ و هذا الإشکال لایندفع إلّا بنفی کون الخضوع عبادة، ببیان أنّ للعبادة مقوّماً لم یکن موجوداً فی سجود الملائکة لآدم.
و لم یکن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل یوسف الصدّیق کان نظیره؛ فقد سجد له أبواه و إخوته، و تحقّق تأویل رؤیاه بنفس ذلک العمل، قال سبحانه حاکیاً عن لسان یوسف علیه السلام: «إنّی رأیتُ أحدَ عشَر کوکباً و الشَّمسَ و القَمَر رأَیتُهُمْ لی ساجِدِینَ».[6]
کما یحکی تحقّقه بقوله سبحانه: «و رَفعَ أبَویهِ عَلَى العَرشِ و خَرُّوا لَهُ سُجَّداً و قالَ یا أبَتِ هذا تَأْویلُ رُؤْیایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلها رَبِّی حَقّاً».[7]
و معه کیف یصحّ تفسیر العبادة بالخضوع أو نهایته؟
إنّه سبحانه أمر جمیع المسلمین بالطواف بالبیت الذی لیس هو إلّاحجراً وطیناً، کما أمر بالسعی بین الصفا و المروة، قال سبحانه: «وَ لْیَطَّوَّفُوا بِالبَیتِ العَتِیقِ» [8]
و قال سبحانه: «إنَّ الصَّفا و المَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَیتَ أوِ اعْتَمَر فَلا جُناحَ عَلَیهِ أنْ یَطَّوَّفَ بِهِما».[9]
فهل ترى أنّ الطواف حول التراب والجبال و الحجر عبادة لهذه الأشیاء بحجّة أنّه خضوع لها؟!
إنّ شعار المسلم الواقعی هو التذلّل للمؤمن و التعزّز على الکافر، قال سبحانه: «فَسَوْفَ یأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ و یُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنینَ أعِزَّةٍ عَلى الکافِرینَ».[10]
فمجموع هذه الآیات وجمیع مناسک الحج یدلّان بوضوح على أنّ مطلق الخضوع و التذلّل لیس عبادة. و لو فسّرها أئمة اللغة بالخضوع و التذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع، فلا محیص حینئذٍ عن القول بأنّ العبادة لیست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع. و لو سُمّی فی بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُمّی من باب المبالغة و المجاز، یقول سبحانه: «أَرأَیتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواهُ أفأَنتَ تَکونُ عَلیهِ وَکیلًا» [11]
فکما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فکذا تسمیة متابعة الهوى عبادة له، ضرب من المجاز.
و من ذلک یعلم مفاد قوله سبحانه: «ألَمْ أعْهَدْ إلَیکُمْ یا بَنی آدمَ أنْ لا تَعبُدوا الشَّیطانَ إنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ* و أنِ اعْبُدُونِی هذا صِراطٌ مُستقیمٌ».[12]
فإنّ مَنْ یتَّبِع قولَ الشَّیطان فیتساهل فی الصلاة و الصیام، و یترک الفرائض أو یشرب الخمر و یرتکب الزنا، فإنّه بعمله هذا یقترف المعاصی؛ لا أنّه یعبده کعبادة اللَّه، أو کعبادة المشرکین للأصنام، و لأجل ذلک لا یکون مشرکاً محکوماً علیه بأحکام الشرک، و خارجاً عن عداد المسلمین، مع أنّه من عبدة الشیطان لکن بالمعنى الوسیع الأعمّ من الحقیقی و المجازیّ.
و ربما یتوسّع فی إطلاق العبادة فتطلق على مطلق الإصغاء لکلام الغیر، و فی الحدیث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن کان الناطق یؤدّی عن اللَّه عزّ وجلّ فقد عبد اللَّه، و إن کان الناطق یؤدّی عن الشیطان فقد عبد الشیطان»[13].[14]
مصادر:
[1] - الإسراء: 24.
[2] - البقرة: 34.
[3] - النحل: 36.
[4] - الأنبیاء: 25.
[5] - آل عمران: 64.
[6] - یوسف: 4.
[7] - یوسف: 100.
[8] - الحج: 29.
[9] - البقرة: 158.
[10] - المائدة: 54.
[11] - الفرقان: 43.
[12] - یس: 60- 61.
[13] - الکافی 6: 434.
[14] - فی ظلال التوحید، الشیخ جعفر السبحانی ، ص 20- 23.
مصدر: مکتب سماحة آیة الله العظمی مکارم الشیرازی
source : rasekhoon