والقائلون بتواتر القراءات السبع فقد استدلوا على رأيهم بوجوه: الأول: دعوى قيام الإجماع عليه من السلف إلى الخلف، و قد وضح للقارىء فساد هذه الدعوى، على أن الإجماع لا يتحقق باتفاق أهل __________________________________________________ (1) اعجاز القرآن للرافعي: ص 52، 53، الطبعة الرابعة. البيان في تفسير القرآن، ص: 156 مذهب واحد عند مخالفة الآخرين. و سنوضح ذلك في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى. الثاني: ان اهتمام الصحابة و التابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءته، و إن ذلك واضح لمن أنصف نفسه و عدل. الجواب: إن هذا الدليل إنما يثبت تواتر نفس القرآن، لا تواتر كيفية قراءته، و خصوصا مع كون القراءة عند جمع منهم مبتنية على الاجتهاد، أو على السماع و لو من الواحد. و قد عرفت ذلك مما تقدم، و لو لا ذلك لكان مقتضى هذا الدليل أن تكون جميع القراءات متواترة، و لا وجه لتخصيص الحكم بالسّبع أو العشر. و سنوضح للقارىء أن حصر القراءات في السبع إنما حدث في القرن الثالث الهجري، و لم يكن له قبل هذا الزمان عين و لا أثر، و لازم ذلك أن نلتزم إما بتواتر الجميع من غير تفرقة بين القراءات، و إما بعدم تواتر شىء منها في مورد الاختلاف، و الأول باطل قطعا فيكون الثاني هو المتعين. الثالث: ان القراءات السبع لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترا و التالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله: و وجه التلازم أن القرآن إنما وصل إلينا بتوسط حفّاظه، و القرّاء المعروفين، فإن كانت قراءاتهم متواترة فالقرآن متواتر، و إلا فلا. و إذن فلا محيص من القول بتواتر القراءات. الجواب: 1- ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لأن الإختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها، و لهذا نجد أن اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد البيان في تفسير القرآن، ص: 157 المتنبي- مثلا- لا يصادم تواتر القصيدة عنه و ثبوتها له: و ان اختلاف الرواة في خصوصيات هجرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينافي تواتر الهجرة نفسها. 2- ان الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنما هو خصوصيات قراءاتهم. و أما أصل القرآن فهو و اصل إلينا بالتواتر بين المسلمين، و بنقل الخلف عن السلف. و تحفظهم على ذلك في صدورهم و في كتاباتهم، و لا دخل للقراء في ذلك أصلا، و لذلك فإن القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أن هؤلاء القرّاء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا. و عظمة القرآن أرقى من أن تتوقف على نقل أولئك النفر المحصورين. الرابع: ان القراءات لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر مثل «ملك» و «مالك» و نحوهما ... فإن تخصيص أحدهما تحكّم باطل. و هذا الدليل ذكره ابن الحاجب و تبعه جماعة من بعده. الجواب: 1- ان مقتضى هذا الدليل الحكم بتواتر جميع القراءات، و تخصيصه بالسبع أيضا تحكّم باطل. و لا سيما أن في غير القرّاء السبعة من هو أعظم منهم و أوثق، كما اعترف به بعضهم، و ستعرف ذلك. و لو سلمنا أن القرّاء السبعة أوثق من غيرهم، و أعرف بوجوه القراءات، فلا يكون هذا سببا لتخصيص التواتر بقراءاتهم دون غيرهم. نعم ذلك يوجب ترجيح قراءاتهم على غيرها في مقام العمل. و بين الأمرين بعد المشرقين، و الحكم بتواتر جميع القراءات باطل بالضرورة. 2- ان الاختلاف في القراءة إنما يكون سببا لالتباس ما هو القرآن بغيره، و عدم تميزه من حيث الهيئة أو من حيث الإعراب، و هذا لا ينافي تواتر أصل القرآن. البيان في تفسير القرآن، ص: 158 فالمادة متواترة و إن اختلف في هيئتها أو في إعرابها، و إحدى الكيفيتين أو الكيفيات من القرآن قطعا و إن لم تعلم بخصوصها. تعقيب: و من الحق إن تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات. و قد اعترف بذلك الزرقاني حيث قال: يبالغ بعضهم في الإشادة بالقراءات السبع، و يقول من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر، لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة، و يعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الأندلسية الأستاذ أبي سعيد فرج ابن لب، و قد تحمّس لرأيه كثيرا و ألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه. و الرد على من رد عليه، و لكن دليله الذي استند اليه لا يسلم. فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن، كيف و هناك فرق بين القرآن و القراءات السبع، بحيث يصح أن يكون القرآن متواترا في غير القراءات السبع، أو في القدر الذي اتفق عليه القرّاء جميعا. أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قرّاء كانوا أو غير قرّاء «1». و ذكر بعضهم: ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، و انه لم يقع لأحد من أئمة الأصوليين تصريح بتواتر القراءات و توقف تواتر القرآن على تواترها، كما وقع لابن الحاجب «2». قال الزركشي في «البرهان»: للقرآن و القراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للبيان و الاعجاز، و القراءات اختلاف ألفاظ الوحي __________________________________________________ (1) مناهل العرفان: ص 248. (2) التبيان: ص 105. البيان في تفسير القرآن، للخویی(ره) ص: 159 المذكور في الحروف، و كيفيتها من تخفيف و تشديد غيرهما، و القراءات السبع متواترة عند الجمهور، و قيل بل هي مشهورة. (و قال أيضا:) و التحقيق انها متواترة عن الأئمة السبعة. أما تواترها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففيه نظر، فإن اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، و هي نقل الواحد عن الواحد «1». البيان في تفسير القرآن، للخویی(ره) ص: 159
source : دارالعرفان