الأوّل : روى أبو الفرج الأصفهاني عن الزبيري : اجتمع بالمدينة راوية جرير ، وراوية كثير ، وراوية جميل ، ورواية نصيب ، ورواية الأحوص ، فافتخر كلّ واحد منهم بصاحبه وقال : صاحبي أشعر ، فحكّموا سكينة بنت الحسين بن علي (عليهما السلام) ، لما يعرفونه من عقلها ، وبصرها بالشعر ، فخرجوا يتقادّون حتّى استأذنوا عليها فأذنت لهم ، فذكروا لها الذي كان من أمرهم ، فقالت لراوية جرير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
طرقتُكِ صائدة القلوب وليس ذا |
حين الزيارة فارجعي بسلام |
وأيّ ساعة أحلى للزيارة من الطروق ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، ألا قال : فادخلي بسلام .
ثمّ قالت لراوية كثير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها |
وأحسن شيء ما به العين قرّت |
فليس شيء أقرّ لعينها من النكاح ، أفيحب صاحبكَ أن ينكح ؟ قبّح الله
|
الصفحة 367 |
|
صاحبكَ وقبّح شعره .
ثمّ قالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
فلو تَركتْ عقلي معي ما طلبتُها |
ولكن طلابيها لما فات من عقلي |
فما أرى بصاحبك من هوى ، إنّما يطلب عقله ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره .
ثمّ قالت لراوية نصيب : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
أهيم بدعد ما حييتُ فإن أمت |
فيا حرباً مَن ذا يهيم بها بعدي |
فما أرى له همّة إلاّ مَن يتعشّقها بعده ! قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال :
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت |
فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي |
ثمّ قالت لراوية الأحوص : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
من عاشقين تواعدا وتراسلا |
ليلاً إذا نجم الثريا حلقا |
باتا بأنعم ليلة وألذّها |
حتّى إذا وضح الصباح تفرّقا |
قال : نعم .
قالت : قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال : تعانقا .
قال إسحاق في خبره : فلم تثنِ على واحدٍ منهم في ذلك اليوم ، ولم تقدّمه .
قال : وذكر لي الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم ، إلاّ جميلاً فإنّه خالف هذه الرواية ، وقال : فقالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
فيا ليتني أعمى أصم تقودني |
بثينة لا يخفى عليّ كلامها |
قال نعم .
قالت : رحم الله صاحبكَ كان صادقاً في شعره ، كان جميلاً كاسمه ، فحكمت له .
وعلّق الأُستاذ علي دخيل على هذه الرواية بقوله : إنّ أثر الصنعة واضح على هذه الرواية ، وهي من نسج الزبيري عدوّ أهل البيت ، وما أكثر مفترياته
|
الصفحة 368 |
|
هو وذويه على آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ، لقد جعلَ من ابنة الرسالة النابغة الذبياني فقد كان يضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ ، فتأتيه الشعراء فتعرض أشعارها .
وجدير بالذكر أنّ المؤرّخين لم يحدّثونا عن مثل هذا الاجتماع لمن سبقها من نساء أهل البيت (عليهم السلام) كفاطمة وزينب (عليهما السلام) ، مع أنّهما أجلّ وأعلم من سكينة ، بل لم يذكر التاريخ اجتماع مثل هؤلاء الرواة عند أحد من الأئمّة (عليهم السلام) للحكومة فيما بينهم .
نعم ورد في نهج البلاغة : ( سُئل (عليه السلام) : مَن أشعر الشعراء ؟ فقال : " إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ، فإن كان ولابدّ فالملك الضليل " ) (1)، يريد امرئ القيس .
أنا لا أدري كيف يقبل هؤلاء بحكم سكينة ، مع أنّه لم يرو لها إلاّ سبعة أبيات ، لا تؤهل قائلها لمثل هذا المنصب الكبير .
وقد سُئل الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عن هذا الاجتماع ، فقال : لم يذكره ابن قتيبة ، ولا ابن طيفور في " بلاغات النساء " ، مع أنّهما أقدم من أبي الفرج .
وقال (قدس سره) : " أبو الفرج كتابه كتاب لهو ، وقد يأخذ عن الكذّابين ، وحمّاد الذي جاءت عنه الرواية كذّاب " (2) .
وقال الشيخ جعفر النقدي : أمّا وصف الحسين (عليه السلام) لابنته سكينة من غلبة الاستغراق مع الله تعالى ، فيكذّب الانقال المروية عن الزبير بن بكّار ، وأضرابه من النواصب ، كعمّه مصعب الزبيري ، من اجتماع الشعراء عندها ومحاكمتها بينهم ، وأمثال ذلك ممّا ينافي شأن خفرة من خفرات النبوّة ، وعقيلة من عقائل بيت العصمة .
وإن تعجب فاعجب من أبي الفرج الأصبهاني ، ومَن حذا حذوه ، أن ينقلوا مفتريات هؤلاء في كتبهم من غير فكر ولا تروٍّ ، على أنَّ الزبير بن بكّار كان
____________
1- شرح نهج البلاغة 20 / 153 .
2- جنّة المأوى : 165 .
|
الصفحة 369 |
|
عدوّاً لآل علي ، بل لسائر بني هاشم ، كان يصنع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتّى أرادوا قتله ، ففرَّ من مكّة إلى بغداد أيّام المتوكّل ، ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه " وفيات الأعيان " .
وجدير بالذكر هو أن تعلم أنّ مثل هذا الاجتماع عقد برعاية عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي ، فقد روى أبو الفرج عن أبي عمرو قال : أنشدت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله هذه القصيدة : وجدت الخمر جامحة وفيها ... وبحضرتها جماعة من الشعراء ، فقالت : مَن قدر منكم أن يزيد فيها بيتاً يشبهها ، ويدخل في معناها حلّتي هذه ؟ فلم يقدر أحد منهم على ذلك .
وذكر أبو الفرج نفسه اجتماعاً مشابهاً للاجتماع الذي نسبه للسيّدة سكينة ، عقد برعاية امرأة أموية ، قال : أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان ، قال : حدّثني عبد الله بن إسماعيل ابن أبي عبيد الله كاتب المهدي ، قال : وجدت في كتاب أبي بخطّه : حدّثني أبو يوسف التجيبي ، قال : حدّثني إسماعيل بن المختار مولى آل طلحة ، وكان شيخاً كبيراً ، قال : حدّثني النصيب أبو محجن ، أنّه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء ، فقال : هل لكم أن نركب جميعاً ، فنسير حتّى نأتي العقيق ، فنمتّع فيه أبصارنا ؟
فقالوا : نعم ، فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب ، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب ، وتنكّروا ثمّ ساروا حتّى أتوا العقيق ، فجعلوا يتصفّحون ويرون بعض ما يشتهون ، حتّى رفع لهم سواد عظيم ، فأمّوه حتّى أتوه ، فإذا وصائف ورجال من الموالي ، ونساء بارزات ، فسألنهم أن ينزلن ، فاستحوا أن يجيبوهن من أوّل وهلة ، فقالوا : لا نستطيعَ أو نمضي في حاجة لنا ، فحلّفنهم أن يرجعوا إليهن ، ففعلوا وأتوهن فسألنهم النزول فنزلوا .
ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم ، فلم تلبث جاءت المرأة فقالت : ادخلوا ، فدخلنا على امرأة جميلة برزت على فرش لها ، فرحبّت وحيّت ، وإذا كراسي موضوعة ، فجلسنا جميعاً في صفّ واحدٍ كلّ إنسان على كرسي ،
|
الصفحة 370 |
|
فقالت : إن أحببتم أن ندعو بصبي لنا فنصيحه ونعرك أذنه فعلنا ، وإن شئتم بدأنا بالغداء ؟
فقلنا : بل تدعين الصبي ولن يفوتنا الغداء ، فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلاّ كلا ولا ، حتّى جاءت جارية جميلة قد سترت عليها بمطرف فأمسكوه عليها حتّى ذهب بصرها ، ثمّ كُشف عنها ، وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها ، فرحّبت بهم وحيّتهم ، فقالت لها مولاتها : خذي ويحك من قول النصيب ، عافى الله أبا محجن :
ألا هل من البين المفرق من بد |
وهل مثل أيّام بمنقطع السعد |
تمنّيت أيّامي أُولئك والمنى |
على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي |
فغنّته ، فجاءت كأحسن ما سمعته بأحلى لفظ ، وأشجى صوت .
ثمّ قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
أرق المحبّ وعاده سهده |
لطوارق الهم التي ترده |
وذكرت من رقّت له كبدي |
وأبى فليس ترق لي كبده |
لا قومه قومي ولا بلدي |
فنكون حيناً جيرة بلده |
ووجدت وجداً لم يكن أحد |
من أجله بصبابة يجده |
إلاّ ابن عجلان الذي تبلت |
هند ففات بنفسه كمده |
قال : فجاءت به أحسن من الأوّل ، فكدت أطير سروراً .
ثمّ قالت لها : ويحك خذي من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
فيا لك من ليل تمتعت طوله |
وهل طائف من نائم متمتّع |
نعم إنّ ذا شجو متى يلق شجوه |
ولو نائماً مستعتب أو مودع |
له حاجة قد طالما قد أسرّها |
من الناس من صدر بها يتصدّع |
تحملها طول الزمان لعلّها |
يكون لها يوماً من الدهر منزع |
وقد قرعت في أُمّ عمرو لي العصا |
قديماً كما كانت لذي الحلم تقرع |
|
الصفحة 371 |
|
قال : فجاءني والله شيء حيّرني وأذهلني طرباً لحسن الغناء ، وسروراً باختيارها الغناء في شعري ، وما سمعت منه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها .