البعد الانساني في الصحيفة السجادية
مقدمة الخطابه
جمهوريات ممالک، سفارات... تعمل لتشويه عقائد الهية صافية، و تسعي لتخريب حضارات أمم.. فمهمتها الاستعمارية أن تحوک مؤامرات في البلاد التي لا تعتنق أفکارها، و أطاريحهها السياسية و الاقتصادية... و ان أصرت هذه الدول المسالمة، المستضعة، علي عدم الاندماج في نظام الأقوياء جسوها في سجن من الحظر الدولي...
تقابلها ندرة من السفارات التابعة لدول آمنت بربها و بحرية الشعوب، تسعي بامکانياتها لمساعدة الدول المضطهدة، و تقوم بعمليات تنوير للمجتعات الانسانية، و تؤسس لمناهج ايقاظية تدفعها الي نهضة تعتمد استعادة الماضي القوي، برجاله و مفکريه وقادته العظماء... فيتصل الحاضر الوقوفي المعتم بالتاريخ المشرق، فيأخذ الضوء بالانتشار، و تعود الأنوار الي السطوع، هذه هو دأب سفارة الجمهورية الاسلامية الايرانية بدمشق، التي ترفع شعائر الله من خلال التعريف برجال الله و أحبائه. و مؤتمر الامام زين العابدين عليه السلام واحد من هذه المؤتمرات المشرقة بنور ربها.
علي حفيد علي صحيفته حفيدة النهج
هو دستور جمهورية الحکمة، و هي دستور جمهورية اللاعنف.
«مني القانتين، کان عابدا وفيا، وجودا حفيا» [1] .
عبد و عبد، فکانت عبادته مشتهي الملائکة.
صلي و صلي ألف رکعة، يحصيها الزمن بين شروق و شروق... فصار زين العابدين، حتي قال مالک بن أنس: «بلغني أن علي بن الحسين کان يصلي في کل يوم و ليلة ألف رکعة الي أن مات» [2] .
سجد و سجد، فکان سجوده، ارتقاء في الدرجات و سفرا الي الذات، فصار سجادا. سجد و أطال السجود، فتاخت جبهته مع التراب، فصار «ذا الثفنات».
اذا قام للوضوء و الصلاة اصفر لونه، و اذا لبي في الطواف غشي عليه، فکان سيد الخاشعين و امام الزاهدين. [3] .
أذاب نفسه في العبادة، فقال له ابنه الباقر عليه السلام مشفقا: «فو الله ما رأيت أحدا طلب الله طلبک» [4] .
تسامح و تسامح متجاوزا حدود التسامح، فصار صوتا للانسان، تخاصم مع الظلم، انتصر للعدل، فصال فرح العالم.
أطاع الله فيما يحب، و حمده فيما يکره، فکان امام الأتقياء.
الدعاء رسالة و منهج
لماذا اتخذ زين العابدين عليه السلام الدعاء و العبادة منهجا لمتابعة المسيرة الرسالية؟
بعد صلح الامام الحسن، و ثورة الامام الحسين احتاج المجتمع الاسلامي الي الدعاء مع زين العابدين [5] ... هذه الاختيارات أتت تنفيذا لوحي مؤجل.
تنزل القرآن الکريم علي النبي محمد (ص) تشريعا سماويا، و کان لابد من حرس القرآن بعد غيبة النبوة، مع معصومين لهم عرفان، و علم هو نقر في الأسماع، و نکث في القلوب... و لهم وحي مؤجل... أتي الامام علي عليه السلام و فسر بخطبه و حکمه، المعرفة الالهية و أوضح طريق النبوات، و فصل الأحکام الاسلامية... و توالي الحسن و الحسين و زين العابدين وصولا الي القائم... يحسون الشريعة و القرآن، ينفذون وصايا تبلغوها عن النبي بتسلسل الآباء و الأبناء و الأحفاد... أئمة اتصل حلبهم بحبل الله.
قال الامام زين العابدين عليه السلام في دعائه: «اللهم انک أيدت دينک في کل أوان بامام أقمته علما لعبادک، و منارا في بلادک، بعد أن وصلت حبله بحبلک» [6] .
ما هو الوحي المؤجل؟ و هل فکرته تخيف؟
نزل الوحي علي النبي محمد (ص) فبلغه في حينه تباعا، لکن هناک أحداث مستقبلية، تحتاج الي معلومات الوحي، لتصون الاسلام من الانحرافات، أما انحرفت أديان سماوية من قبل؟... عن تشريعات أنبيائها؟ و اتخذت الشرک بعد التوحيد؟... هذه المعلومات هي وحي مؤجل التنفيذ، حمله جبرائيل الي النبي (ص) قبل انقطاع الوحي؛ لأن الوحي لا يتنزل الا علي الأنبياء... و بلغه النبي للمعصومين أمانة منقولة من امام الي امام لتنفيذه في مواعيده، فنفذوه بالتضحيات و الشهادة، و الدعاء، و العلم، و الفقه و الغيبة..
مع الامام الحسن
أشار النبي أکثر من مرة الي أن الحسن يجمع کلمة الأمة و قال: «الحسن ريحانتي من الدنيا، و ان ابني هذا سيد، و ليصلحن الله علي يديه بين فئتين مع المسلمين» [7] . هذا الحديث رواه عشرات الصحابة، و تبلغ الحسن القول من جده علي أنه وحي و نفذه في أوانه، عندما وقفت فئتان من المسلمين - احداهما بقيادته - تختصمان و بفنائهما يضعف الاسلام، تنازل الحسن عن الملک الدنيوي، و لما عوتب علي صلحه و هو جم، قال: لن أقتل سبعين ألف مسلم من أجل ملک زمني، لقد وحد المسلمين، و لو تفرقوا يومها لغلبوا من (بني الأصفر) و لضعف الاسلام و انحسر، ترک الامامة الزمنية، لکن امامته الدينية ظلت مصونة، لا ينتفي و جودها بانتفاء السلطة السياسة. لقد أصلح - بأمرالله - بين فئتين من المسلمين استجابة لوحي مؤجل، تبلغه عن جده...
مع الامام الحسين
روي ابن عساکر ثلاثين حديثا تحکي أخبار جبرائيل للنبي باستشهاد الحسين في کربلاء من أجل الاسلام... نقلا عن عائشة و أنس بن مالک و أم سلمة و أبي أمامة و علي بن أبي طالب [8] .. و لما حان تنفيذ الوحي الذي تبلغه الحسين من جده، سار الي کربلاء و استشهد.. لذلک ما استجاب الحسين لنصائح الناصحين بعدم الخروج الي العراق، و منهم عبدالله بن عباس و عبدالله بن عمر... و قال: «هو أمر مکتوب» أي «وحي مکتوب».
مع الامام علي بن الحسين
کان وحيه المؤجل الدعاء و العبادة. لأن الدعاء هو نمط، من انماط، الحکم يقوم علي الحياد الايجابي، توصل اليه ثورة اللاعنف... عن النبي (ص) قال: «يولد لأبني الحسين ابن يقال له علي، اذا کان يوم القيامة نادي مناد من بطنان العرش ليقم سيد العابدين، فيقوم هو» [9] .
عندما آل أمر الخلافة اليه بادر ينفذ الوصية، ترک السيف و لاذ بالعبادة و الدعاء، و ضمن دعاءه دستور جمهورية انسانية يحکمها التسامح و العدل، و يسودها الخير الذي يلغي الشر بالمحبة و الکلمة و الدعاء... فکانت الصحيفة السجادية: أدعية و دموعا، ما ترک زين العابدين السيف خوفا مما عاشه في کربلاء، کما ادعي کثيرون، حفيد علي، تغلي في عروقه دماء علي، لا ترهبه سيوف، و لا تخفيه رماح أو حشود، فابنه زيد الشهيد (122 - 79 ه) ثار و قتل مع أنه وعي قصة کربلاء، ما خاف القتل، بل کان يلتذ به في کل خطوة من ثورة..
کانت الصحيفة السجادية ترسم دستور أمة، تقرر التوحيد و النبوة و الامامة، العبادات و المعاملات و الأمر بالمعروف و النهي عن المنکر بأسلوب الدعاء، تذکر الناس بحقوق الصلاة و الصوم و الحج و الوالدين و الجيران و الملائکة و طبقات المجتمع و حماة الثغور.. في زمن بدأ الناس يتهاونون في شؤون العبادات، تلهيهم الدنيا، يقلدون حکامهم، تهاونوا بالصلاة و کأن الأجيال تعبت منها... فردهم علي بن الحسين اليها بسلوکه العبادي و کثرة صلاته، صلي ألف رکعة في اليوم و الليلة، فأوضح طريق الزهاد بقوة، فکانوا اذا ذکروه بکوا و قالوا، هو زين العابدين [10] .
الدعاء عنده رسالة، منطلق ثورة اللاعنف، التي تصلح أمور المسلمين، الدعاء هو تشريع لسياسة الحياد الايجابي، الذي لا يرفع السيف بوجه أحد، انما يلغي السيف، بالکلمة و الدعاء و المحبة، و التوجيه، و أمنيهات الهداية و السعادة لکل فرد من أي مجتمع... الدعاء هو الوعي بالانسان عن طريق الوعي بالخالق، و بناء أمة تلتزم الواجبات و الحقوق، هذا الوحي بالانسان و التزام الموجبات حققتها بعض الدول الأوربية مثل سويسرا و السويد.. حيث ألغيت الجيوش، و أخذت مکانها الشرطة، (رجال الأمن). و غدت نموذج المجتمعات الراقية و المتطورة... هذا هو المجتمع الذي أراد بناءه الامام زين العابدين من منهجية الدعاء؛ لکنه أراده مجتمعا مؤمنا...
البعد الانساني في الصحيفة السجادية
اذا نظرنا تباعا في تراثنا الديني الفيناه وحيا سماويا: القرآن الکريم، ثم نبويا: الحديث الشريف جمع في صحاح و أسانيد معتمدة، ثم اماميا: نهج البلاغة و الصحيفة السجادية، هذه بواکير التراث في الاسلام، و بعد ذلک توالدت کتب الفقه مع الأئمة و العلماء... فالصحيفة السجادية هي رابعة التراث الأول، التزمت الدعاء مدرسة تضم المعرفة الالهية و الأعمال العبادية و الأعمال الحياتية؛ توزع البعد الانساني عند الامام زين العابدين و الي نظري و تطبيقي معطياته: کلام و دعاء و استغفار و تسامح و عطاء و أفعال... و قد مزج بيناه برفق، موحدا بين النظرية و التطبيق...
و قد اعتمدت في الأخبار علي مصدرين نأيت بهما عن الروايات الشعبية، اعتمدت «حلية الأولياء» لشيخ المتصوفة أبي نعيم الأصبهاني (م 430 ه) ثم تاريخ دمشق لابن عساکر (م 571 ه).
انسانية الامام زين العابدين في التطبيق
انسانية صور مشرقة في تاريخ الاسلام، رسمها زين العابدين عملا ولد دعاء، أو دعاء ولد فعلا، فما أغاظ الطغاة فأنتجوا علي مر العصور حولها ضبابا، و أثاروا غبار مصطنعا يحجبها.
صورة الانسانية في التعامل مع الفقراء
قال تعالي: (و أما السائل فلا تنهر) [11] .ترفق علي بن الحسين بالآية شرحا و تطبيقا و حبله اتصل بحبلها. فسرها بحرکة انتزعت منه جسدية، و محت فيه الرغبات الأرضية... عندما يري المرء متسولا شعثته الأيام، فکلح وجهه و اسودت يداه، رث الأثواب متسخها.... منظره قد يثير الشفقة، لکنه بأدرانه يثير الاشمئزاز، قد ينفحه المرء الصدقة، و يحاول ألا تلمس اليد العليا اليد السفلي.. أثار القرآن الکريم مشکلة قهر السائل، و أمر أن يصرف بلين، و لم يلزم عطاءه...
لنقرأ مع أبي نعيم في الحلية: «کان زين العابدين اذا ناول السائل الصدقة قبله، ثم ناوله» ما سمعت بکريم أو جواد أو سخي قبل السائل ثم ناوله الا الامام زين العابدين الذي کان يقول: «سادة الناس في الدنيا الأسخياء» [12] و أرفع درجات السخاء احترام المعطي أو ستره... ألا تضج الانسانية بهذا العمل؟ التقبيل للسائل صدقة معنوية، و المناولة صدقة مادية... القبلة للسائل حرکة محت وجود «النهر» «و القهر» و ألغت فکرة التمييز الطبقي، ارتفعت بانسان وضيع الي مستوي انسان قرشي، هو حفيد الرسول، و ابن أميرالمؤمنين... الحرکة شرعت المساواة بين البشر، لا فرق بين انتماء و انتماء، الصدقة المعنوية حرکة متطورة اذا اقترنت بالعطاء المادي... و لذلک حدد الامام التعامل مع الصدقة بالعطاء، و الاحترام، و الدعاء للفقير بسعة الرزق، حتي لا يريق ماء وجهه أمام الأغنياء... و أکد أن القبلة وحدها لا تغني من جوع، و افترض العطاء ضرورة للسؤال...
صدقة السر (الضمان الاجتماعي)
جنح بالصدقة الي اتجاه أشد انسانية، أراده صدقة سر لأنها تحفظ، کرامة الفرد، بعيدا عن اذلاله، و تمحو کبرياء المتصدق، فتتلاشي الفوارق الطبقطية في المجتمعات، کثف صدقة السر، فصارت حرکة متطورة في تاريخ المجتمعات، انه الضمان الاجتماعي الذي يکفل شريحة معوزة في المجتمع... حشد من الروايات في حشد من المصادر قالت: «أحصي بعد موت زين العابدين عدد من کان يقوتهم سرا، فکانوا نحو مئة بيت» [13] مئة بيت قد تعدل خمس بيوت المدينة يومها ما وجدت قوتها، فضمنها زين العابدين و أعطاها سرا ما يکفلها و يزيح عنها العوز..
ان الصور التي برزت فيها صدقة السر مع الامام متعددة الوجوه، کان يرسمها يوميا بأنامل سخية، ألوانها الفرح، و اطارها عتمة الليل، عرفها الليل، و قليلا ما عرفها النهار فاضح الأسرار، النهار يأکل ألواناه الزاهية: لذلک منعها الامام عنه... و قال: «ان الصدقة في سواد الليل تطفي غضب الرب» [14] . کان أهل المدينة يقولون: «ما فقدنا صدقة السر الا بعد موت زين العابدين»، و قال محمد بن اسحق: کان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معايشهم و مآکلهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ما کانوا يؤتون به ليلا الي منازلهم» [15] لقد أطعمهم، رفع عنهم الفاقة، و العوز، ذهب اليهم، وعف عن الاتيان اليه، أو الي غيره، کفاهم أن يمدوا يدهم، أعطاهم دون أن يجعل يدهم هي السفلي... ألغي الفقر و الجوع و التسول من مجتمع المدينة... منحهم المحبة، و أعطاهم الزغيف، وصان کرامتهم فکان انسانا متفوق الانسانية في کل تصرفاته..
الرفق بالحيوان
هو نمط متقدم و متطور من التصرف الانساني.. ان ما يفاخر به العالم المتحضر اليوم، من الرفق بالحيوان هو نهج انتهجه العرب منذ الجاهلية، و طوره الاسلام الذي أبقي علي العادات و القيم الجاهلية، ذات الأبعاد الانسانية،مثل الکرم و الشجاعة و الوفاء و الرفق بالحيوان...روي أبونعيم عن عمرو بن ثابت قال: «کان علي بن الحسين، لا يضرب بعيره من المدينة الي مکة» [16] و روي ابن عساکر عن هشام بن عروة: «کان علي بن الحسين يخرج علي راحلته الي مکة و يرجع لا يقترعها» (أي لا يضربها) [17] و قالوا أيضا: حج زين العابدين عشرين حجة، لم يضرب راحلته... طريق الذهاب و الاياب، يرفقان بالراحلة، و ينفيان التعامل معها بقسوة، و يؤکدان الرحمة المطلقة، و لو لم تکن هذه التصرفات مليئة بالانسانية لما ذکرها الزهاد و المؤخورن و الأدباء و المحدثون...
ان انسانية زين العابدين في التصرف العملي، کانت تتبدي متواضعة، لأنها تصدر عن تواضع، لکنها في التشريعات العالمية هي نماذج متفوقة لانسان أنتج أنماطا متفوقة، احتاجب الي قرون لتأخذ مکانهم في المجتمعات الحضارية.
الحلم
الأناة و العقل، و هو نقيض السفه، و تحالم الرجل: أري من نفسه ذلک و ليس به.
اصطلاحا: الحلم هو أن يغض المرء عن المسي ء اليه، و يکون صفة ثابتة و متأصلة في الانسان، أما التحلم فهو تکلف الحلم، أي الحلم المصطنع، أو الحلم الکاذب، يظهر عند التملق و المنافقة ثم يغيب عند الضرورة الملحة لوجوده... الحلم الأصيل صفة تلازم الأنبياء و المعصومين، هو نزعة انسانية، تحمل صاحبها علي العفو عن المسي ء، و تجاوز المغاضبة.
کان زين العابدين عليه السلام وارثا للحلم عن أبيه عن جده، حفلت کتب السير و التاريخ بحکايا الحلم التي کانت تفيض عن آل البيت فيض العطر عن الزهر، عشرات الروايات في تاريخ دمشق لابن عساکر، قال في الامام زين العابدين: «استطال رجل علي علي بن الحسين، فتغافل عنه، فقال له الرجل: اياک أعني فقال له علي: و عنک أغضي» [18] . و روي أيضا: «کان علي بن الحسين خارجا من المسجد، فلقيه رجل فسبه فثارت اليه الموالي، فقال مهلا عن الرجل... ما ستر الله عنک من أمرنا أکثر، ألک حاجة نعينک عليها؟ و أعطاه کساء کان عليه، فخجل الرجل و قال: أشهد أنک من أبناء الرسل» [19] .
رواية أخيرة: لما عزل والي المدينة هشام بن اسماعيل، استهان به الناس، و کان کثير المضايقة للامام زين العابدين و أهل بيته، و لما مر به زين العابدين ما شتمه بل قال له: استعن بنا علي ما شئت.
فقال هشام [20] (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [21] .
عشرات الروايات ان ذکرت انما لتؤکد تأصل الحلم في شخصية زين العابدين، فهو امام لا يستفزه الغضب، بل يعفو و يصفح و يسامح.. حفلت الصحيفة السجادية بمعاني الحلم و العفو عن أذاهم.. «اللهم و أيما عبد نال مني ما حظرت عليه و انتهک مني ما حجرت عليه.. فاغفرله..» [22] .
البعد الانساني في الصحيفة السجادية
کل عبارة في صحيفته مثقلة ببعد انساني، لذلک يصعب الانتقاء، و يحار الاختيار...
ظاهرة العدل و الظلم
العدل فرح العالم... و الظلم کآبته و أحزانه، و مصائبه.. أتت أدعية زين العابدين تعالج الظلم، ترفضه، تعرضه بصيغة الداء، و في رجائه الانتصاف للمظلومين، اتصل الامام بقول النبي انصر أخاک ظالما و مظلوما قالوا: کيف ننصره ظالما؟ قال: بأخذ الحق منه..
قال زين العابدين: «اللهم... خذ ظالمي و عدوي عن ظلمي بقوتک» [23] الحرکة الانسانية تکمن في الحرکة الدعائية، ما قال الامام: أهلک ظالمي، ما أمطره بوابل من الدعوات الانتقامية. ان زين العابدين کان حليما أواها منيبا... کل ما يريده أن يرتقع الظلم من المجتمعات، يطلب زحزحته عن المظلوم، دون أذي الظالم، فهو لا يبغي الانتقام؛ لأن في الانتقام ظلما جديدا، و عنفا جديدا، هو يريد العدالة المطلقة، و السلام المطلق؛ لذلک قرن جملته بقوله: «و اعصمني من مثل أفعاله، و لا تجعلني في مثل حاله» [24] .
الدعاء، تمن و أمنيات و رجاء، فزين العابدين عليه السلام في التمني يطلب العصمة من الظلم له أو عليه، و في الرجاء يأمل انتفاء الممارسة، لقد حمله الدعاء الي أجواء ملائکية لا تعرف الغلط، «اللهم فکما کرهت الي أن أظلم، فقني من أن أظلم» [25] ما أروعها من عبارة لو نقشت بماء الذهب نطقت روحا، و ظل الذهب لها جسدا، ما أعظم مضمونها من مبدأ تتصدر به دساتير الدول، فتوفي مجتمعاتها من ظالم و مظلوم، و تسود العدالة، و يعم السلام...
ثم يلتفت الامام الي مناهضة الظلم وردعه: «اللهم اني أعتذر اليک من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره» [26] هذا الاعتذار يشرح اهتمام الامام بقضايا الرعية، و تحمل المسؤولية، و مشارکتهم الألم... و تنتهي أمنيات العدالة المطلقة عند قوله: «اللهم... حتي أکون... مؤثرا لرضاک علي ما سواهما في الأولياء و الأعداء حتي يأمن عدوي من ظلمي و جوري، و ييئس وليي من ميلي و انحطاط، هواي» [27] . عدالة، انصاف، مساواة محبة، انسانية... کلمات کلها تخشع امام هذه العبارات المنتمية الي مفردات زين العابدين الدعائية.
ظاهرة المحبة
أحب الناس لکن محبته ظلت تطلب المزيد منهم، خص طبقات المجتمع بدعائه، وزع محبته علي الأصدقاء و المساکين و الفقراء و ظلت تتدفق فوزعها علي أهل الشنان و الأعداء..
محبة الفقراء
منح محبته لعامة الناس، للفقراء و المساکين، و طلبها تنزيلت من ربه، و سأله تثبيت محبة المساکين في قلبه.. قال: «اللهم حبب الي صحبة الفقراء، و أعني علي صحبتهم بحسن الصبر» [28] . کان صادقا في دعائه، فاستجاب له، و قذف في قلبه محبة المساکين، جالسهم، حادثهم، أصغي اليهم، آکلهم.. حتي عابه الناس: روي أبونعيم في الحلية: «کان جابر بن عبدالله يقول لعلي بن الحسين: غفرالله لک، أنت سيد الناس و أفضلهم، تذهب الي هذا العبد فتجلس معه، يعني زيد بن أسلم» [29] .
محبة أهل الشنآن
«اللهم أبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة، و من حسد أهل البغي المودة» [30] يبغضونه فيحبهم، و يحسدونه فيودهم.
محبة الوالدين و برهما
«اللهم... و ألهمني علم ما يجب لهما علي الهاما... اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، و أبرهما بر الأم الرؤوف.. اللهم و ما.. أو ضيعاه لي من حق أو قصرا بي عنه من واجب... فقد وهبته لهما، وجدت به عليهما» [31] .
هو في واجب الآباء علي الأبناء مجد مجتهد، مطيع، خاشع، و جل... و في واجب الأبناء علي الآباء متسامح، واهب لحقوقه، وهب لوالديه ما قصرا عنه من حقوقه...
محبة الجيران
خص جيرانه بالدعاء، طلب لهم کل ما يتمنونه، و أمل في التمکن من القيام بحقوقهم.. «اللهم و تولني في جيراني و موالي.. في ارفاق ضعيفهم و سد خلتهم، و عيادة مريضهم، و هداية مسترشدهم.. و کتمان أسرارهم و ستر عوراتهم.. و اعطاء ما يجب لهم قبل السؤال..» [32] .
محبة الأعداء
عسير أن يوطن الانسان نفسه علي محبة أعدائه... ان زين العابدين استطاع أن يميز في أحکامه و معاملاته الاجتماعية بين أصدقائه و أعدائه، و هذا منتهي العدل و الانسانية: قال: «اللهم.. حتي أکون... مؤثرا لرضاک علي ما سواهما في الأولياء و الأعداء» [33] في دعائه للأعداء أقرأ و تأمل فأقول هذا غير ممکن، هل يستطيع الانسان مهما بلغ من الحلم و الرأفة و الانسانية و التسامح.. أن يسأل الله أن يغفر لأعدائه و مؤذيه و ظالميه، و منتهکي حقوقه، بعبارات خاشعة، مليئة بالرحمة و الصدق، انه الامام زين العابدين، فعلها في دعائه و ألح في طلب العفو لأعدائه قال: «اللهم و أيما عبد نال مني ما حظرت عليه، و انتهک مني ما حجرت عليه، فمضي بظلامتي ميتا... فاغفر له ما ألم به مني، و اعف له عما أدبر به عني، و لا تقفه علي ما ارتکب في، و لا تکشفه عما اکتسب بي...» [34] .
زين العابدين لقب ما ناله أحد قبلک، و لا فاز به سواک...
حسن عباس نصرالله
ارجاعات:
[1] أبونعيم الأصبهاني، حلية الأولياء: 133 / 3.
[2] ابن عساکر، مخصتر تاريخ دمشق: 237 / 17.
[3] قال ابن عساکر: اذا ذکره الزهاد بکوا و قالوا: زين العابدين: 234 / 17.
[4] ابن عساکر: 237 / 17.
[5] لکل امام منهجه، الفقه و تحکيم العقل مع الامامين الصادق و الکاظم... و الغيبة مع الامام المهدي.
[6] الصحيفة السجادية: 191.
[7] ابن عساکر: 21 / 7 رواه ابن عباس و أبوهريرة... ابن شهر آشوب، المناقب: 24 / 4.
[8] نفسه: 165 / 7، ابن کثير، البداية و النهاية؛ 199 / 8، ابن شهر آشوب، المناقب: 55 / 4.
[9] ابن عساکر: 234 / 17.
[10] نفسه: 234 / 17.
[11] الضحي: 10 / 93.
[12] حلية الأولياء: 137 / 3.
[13] ابن عساکر: 238 / 17.
[14] حليلة الأولياء: 137 / 3.
[15] ابن عساکر: 239 / 17.
[16] نفسه:238 / 17، حلية الأولياء: 136 / 3، المناقب: 166 / 4.
[17] ابن عساکر: 238 / 17.
[18] ابن عساکر: 244 / 17.
[19] ابن عساکر: 243 / 17، المناقب: 170 / 4.
[20] ابن عساکر: 243 / 17.
[21] سورة الأنعام / 124.
[22] الصحيفة السجادية: دعاء رقم / 39.
[23] نفسه: دعاء رقم / 14.
[24] نفسه: دعاء / 14.
[25] نفسه: دعاء /14
[26] نفسه: دعاء رقم / 38.
[27] نفسه: دعاء رقم / 22
[28] نفسه: دعاء رقم / 30.
[29] حلية الأولياء: 138 / 3.
[30] نفسه: دعاء رقم / 20.
[31] نفسه: دعاء رقم / 24.
[32] نفسه: دعاء رقم / 26.
[33] نفسه: دعاء رقم / 22.
[34] نفسه: دعاء رقم / 39.