القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى!
هذه القضية تتخذ مستويات عدة من الفهم والإدراك، ونحن إذا تتبعنا القرآن بإمعان، وقلبنا النظر في تضاعيف آياته الشريفة، لاتضح لنا، ان الله جل وعلا طرح ذاته من خلال هذا الكتاب العظيم، وبالتالي، فأن العلاقة بين الله والقرآن هي علاقة مصدرية.. علاقة تأسيس.
قال تعالى: (أنا أنزلناه في ليلة القدر).
بناء على هذا المقترب كان لله الحضور الكامل في القرآن... حضور بمستوى ذاته المقدسة.. الحضور الجامع لكل أسمائه الحسنى.. حضور دائم.. مستمر.. فعال.
*وردت كلمة الله في القرآن الكريم (980) مرة.
*وردت كلمة رب أكثر من (650) مرة.
* وردت كلمة الرحمن (57) مرة.
*وردت كلمة رحيم (54) مرة.
*وردت كلمة حكيم أكثر من (75) مرة.
*وردت كلمة العليم (140) مرة.
*وردت كلمة قدير (39) مرة.
*وردت كلمة غفور (71) مرة.
*وردت كلمة العزيز أكثر من (80) مرة.
*وردت كلمة سميع (43) مرة.
*وردت كلمة خبير (33) مرة.
وهكذا مع كل أسماء الله الحسنى سبحانه وتعالى، وليس من ريب ان لهذه الكثرة الكمية دلالة ضخمة وعميقة، فأنها تؤكد وتبرهن على الحضور الإلهي والمركز، فهو ليس بالحضور العابر البسيط... ليس بالحضور الكمي الساذج.
ان كثيراً من النقاد يعتمد إحصاء الكلمات في نقده الأدبي لهذه القصيدة أو تلك، ويحاول ان يكتشف الموضوع الجوهري في القصيدة من خلال إحصاء استبياني، بل ربما يعمد الى هذه المحاولة مع الديوان كله، وفي الحقيقة ان ذلك يشكل خطوة أولى على هذا الصعيد، إذ لابد مع هذا، ان يبذل جهداً إضافياً لاكتشاف طبيعة هذا لحضور... وزنه... أهميته... موقعه.... حجمه... دوره... ونحن بلا ريب نلتقي بعد ضخم من أسماء الله تعالى وصفاته في القرآن، ولكن ما هي مقتربات هذا الحضور؟
ان الحضور الإلهي في القرآن كالحضور الإلهي في الكون!
الله موجود في كل آية من آيات القرآن الكريم، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، فهو جل وعلا حاضر في القرآن بذاته وصفاته... بأمره ونهيه... بإرشاده وهدايته... بوعده ووعيده... بإخباره عن الماضي والحاضر والمستقبل... بقوانينه وشرائعه... فهو الحضور الواسع... الدائم... الممتد... المتمكن.... بل وكثيراً ما يعبر هذا الوجود عن نفسه أكثر من مرة في الآية الواحدة، ففي قوله تعالى _مثلاً_ (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم). يتكرر الحضور الإلهي بدرجة مكثفة، فالياء في (يا عبادي) تعود الى الله سبحانه وتعالى، ثم هنالك (رحمة الله) وبعدها مباشرة (ان الله) وتختتم الآية بذكر صفتين من صفات الله بعد تصديرهما بضميرين يعودان عليه سبحانه (انه هو الغفور الرحيم)، ففي الآية يأتي ذكر الله سبع مرات بطريقة وأخرى، فيما عدد المفردات التي تتكون منها الآية (23) مفردة، ولو تأملنا حضوره سبحانه في الآية، لتبين لنا عمقه ووزنه، فهو أما من خلال اضافة إليه بلغة العبودية (عبادي) او مقترنا بالرحمة (رحمة الله)، أو مع التوكيد (ان الله)، او مقترنا بالوصف المؤكد المتلاحق (انه هو الغفور الرحيم).
ان مثل هذا الحضور موجود بكثرة غالبة بل هو السائد في القرآن الكريم. يقول تعالى: (قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسقٍ إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاصد إذا حسد).
الله موجود في كل آيات هذه السورة، فهو سبحانه في الآية الأولى (رب الفلق)، واسم الجلالة فاعل مستتر في الآية الثانية، وفي الآية الثالثة يمكننا ان نقول في ضوء هذه المقدمة أن المعنى هو: أعوذ برب الفلق من غاسق إذا وقب، وهكذا مع الآيتين الرابعة والخامسة، وبهذه الطريقة نستطيع ان نتلمس وجود الله وحضوره الصميمي في الكثرة الكاثرة من آيات الكتاب المجيد، وهي ليست بالطريقة المتكلفة أبداً، لانها تستهدي شواهد لغوية ونحوية وبلاغية ومنطقية.
ان قراءة القرآن الكريم قراءة بنيوية شاملة تكشف لنا، ان كل آية من آياته الكريمة، إنما تكتسب تأسيسها وقيمتها وجمالها وحركتها وبدايتها ونهايتها من حضور الله فيها بشكل مباشر او غير مباشر.
ولكن أليس لرسول الله _هو الآخر _ حضور في القرآن ايضاً؟
والجواب: بلى!
ولكن ما هو وزن هذا الحضور؟
ان حضوره (ص) على هامش الحضور الإلهي الواسع المتمكن... انه حضور تابع... حضور محسوب ومقرور... فلم نجد عن حياة رسول الله إلا إشارات عابرة، أكثرها لأغراض تشريعية أو تصحيحية أو دعوتية، أو رداً على شبهة تتصل أولاً وآخراً بالدين، وذلك رغم ما صدر في حقه من ثناء، وعلى الرغم من استحقاقه الطبيعي لهذا الثناء، إلا انه جاء في سياق المنّة عليه من الله!، ويتأكد الحضور برسمه التابع من لغة التحذير والعتاب والتوبيخ والتسديد والتهديد والتذكير، ويدخل في هذا الإطار موضوع (مقولة القول) في القرآن، فهو ذو دلالة تصب في اتجاه الحضور الإلهي المهيمن في القرآن الكريم.
قال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس).
وقال تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى).
وقال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي).
في هذا التركيب اللغوي القرآني مستويات مهمة من الحقيقة، تتفاعل فيما بينها لتؤكد الحضور الإلهي التام في القرآن، وفي الوقت نفسه الحضور الهامشي لرسول الله بالنسبة لحضور الله جل وعلا.
تُرى لماذا لم يأت الجواب على السؤال المطروح مباشرة، وذلك بدون تصديره بكلمة (قل)؟
ليس من شك ان الجواب بصيغة (مقول القول) ابلغ في دلالة على المصدر المفارق لهذا الجواب، فيما الجواب المباشر قد يوحي بالمسؤولية الشخصية، بل ربما الجواب المباشر قد يُتخذ دليلاً قاطعا على هذه المسؤولية من قبل الجاحدين، الذين كانوا ينتظرون كل ما من شأنه الإيهام بالعلاقة المصدرية بين محمد والقرآن، ومن المعلوم ان العرب أصحاب ذائقة لغوية فذة، كانوا يتابعون كلامه بدقة حاذقة، ويقلبونه على أكثر من وجه، لعلهم يقعون على هفوة ولو في سياق من التأويلات المعقدة بغية توظيفها لصالح هذه الدعوة.
امتداداً للطرح السابق نتساءل ايضاً:
ترى لماذا لم يأت الجواب باستخدام كلمة اخرى، كأن يقول _في غير القرآن _ يسألونك عن الأهلة فهي _مثلاً _ مواقيت للناس، فلا داعي لكلمة (قل).
في الحقيقة: ان كلمة (قل) هنا تؤدي دوراً خطيراً في تعزيز الثنائية بين النبي الأكرم ومصدر القرآن كخطاب، فـ (قل) تؤكد هنا الوحي، أكثر مما لو جاء الجواب مجرداً منها، وهذا واضح جداً، كما انها تفيد: ان محمداً مجرد ناقل للجواب، وليس منتجاً بأي شكل من الأشكال، وذلك حتى إذا ادعى إن الجواب وحي بطريقة من الطرق.
ولكن لماذا لم يتصدر الجواب بـ (اجب) _مثلاً _ وذلك بدل (قل) او بأي أداة لغوية أخرى، يمكن ان تصلح بديلة في أداء هذه المهمة؟
إن دلالة (قل) على النقل والإبلاغ من مصدر مؤسس الى آخر، أبلغ وأقوى وأعمق من أي كلمة أخرى، بما في ذلك كلمة (اجب) أو أي بديل ثانٍ، ان دلالة استعمال كلمة (قل) هنا، تعني ان محمداً ينقل جواب الله على السؤال المطروح، الذي قد يكون موجهاً في بعض الأحيان الى محمد بالذات، وإذا أردنا الدقة أكثر، انه بهذه الصيغة ينقل الجواب عن الله مباشرة، وليس جواب الله.
أما إذا تصدر الجواب بـ (اجب) _مثلاً _ وذلك بدل (قل) فانه قد يوهم بأنه جواب محمد، وليس جواب الله تبارك وتعالى، فالخطاب القرآني يلاحظ هنا بدقة متناهية أضعف احتمالات الوهم، التي قد تُغري بتأسيس علاقة مصدرية بين النبي والقرآن، ولو بحدود ضئيلة، بل وفي حدود إمكان الفهم الخاطىء، وإلا يستطيع محمد أن يصدّر الجواب بكلمة أخرى، ويدعي انه كلام الله.
لنتدبر أكثر: في الجملة (يسألونك) يعود الضمير على الرسول (ص)، فهو المسؤول من قبل الآخر، وبهذا الضمير من حيث الموقع وعلاقته بالفعل والفاعل السابقين عليه يحتل محمد مركزاً أساسياً في الآية، فهو الطرف البارز والمهيمن، فالناس يسألونه إما اختباراً أو استفادة أو إحراجاً، ولكن هذه المنزلة سرعان ما تكون هامشية، او هذا الحضور سرعان ما يكون تابعاً إذا أكملنا الآية الشريفة، وذلك بسبب آلية مقول القول، حيث تستبطن تابعية الرسول، وتؤكد عبوديته لله تعالى، بل تكشف عن كونه لا يملك من أمره شيئاً.
هذه الحقيقة تتجلى أكثر بقوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن)، وفي قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)، وفي قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) ونجد مثل هذه الظاهرة حتى في أبسط الأمور (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) أي حتى على مستوى التحية وصيغتها يتراجع موقع الرسول في القرآن إزاء الحضور إلالهي، ومن الملاحظ ان كلمة قل وبهذه المقتربات تكررت 332 مرة في مواضيع شتى، العقيدة والشريعة والاخلاق والإخبار بالغيب ومقاصد الكون والحياة ومصير الوجود، وفي جميعها تتكرس الثنائية بين محمد ومصدر الخطاب القرآني، حيث يبدو النبي مجرد ناقل وحسب، ولم تتعثر هذه المهمة أبداً، رغم هذه السعة من الاستعمال، وهذه الكثرة من المديات في التنوع، وهذه المفارقات الهائلة!
أين هي الخصائص التي كان يسميها الفلاسفة القدماء بالطبائع الإنسانية الثانية كالنسيان والوهم وما هو على غرارهما؟ وأين هي دوافع حب الذات وضغوطات اللا شعور؟ فماذا نستفيد من هذه الحقيقة.
source : البلاغ