ذكرنا في السطور السابقة بأن العارف لديه قوتين هما القوة العلمية والعملية. ولا فوته أداء جميع الواجبات والنوافل، و هو يجتنب جميع المحرّمات الإلهية بكامل إرادته.
خطبة همام:
يخبرنا امام العرفاء، ومشكاة قلوب العشاق، ونور طريق العرفاء، مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) بأوصاف العارفين؛ تحت عنوان صفات المتقين في(نهج البلاغة) ـ الذي هو دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ـ .
العارف الكبير، عندليب العرفان؛ السيد قمشه اي، نظّم خطبة الإمام علي(ع) مع مافيها من أحوال معنوية وملكوتية، على شكل شعر، حتى يستلذّ القرّاء أكثر من قراءة الخطبة، فقد زينّا بعض جملات خطبة الإمام علي(ع) في هذا الكتاب، بتلك الأشعار العرفانية.
رُوِيَ أنَّ صاحِباً لأميرالْمُؤمِنينَ× يُقالُ لَهُ: «هَمّامُ كانَ رَجُلاً عابِداً، فَقالَ لَهُ: يا أميرَالْمُؤْمِنينَ صِفْ لِىَ الْمُتَّقينَ حَتّى كَأنّي أنْظُرُ إِلَيْهِمْ»[1].
سمعت أن هناك عاشقاً شمائله مثل الفراشة، وفي الحب هو صادق.
وهو رفيق الوحدة، سلطان الدين، وهو طريق كلام العشق.
جاء أحد العشاق إلا ملك العشق، علي هو مخزن سرّ الله.
جاء إلى ذلك الملك مع قلب صادق، وقلبه مثل الورد ممزق من فراق العشق.
جاء سائلا عن علامة الحبيب، ويستشم طريق وصال الحبيب.
جاء لكي يقوي الملك قلبه، ويتحرق من لمعان العشق.
جاء ليسكر من شراب العشق، ويصرخ من العشق.
كان يقول: يا علي يا سرّ الأسرار، افش سرّ العاشقين.
صف لنا حمام الروض، الذين قطعوا اسار الروح.
عندما طاروا من عشّ الروح، واستقرّوا في عشّ الحبيب.
عندما وصلوا للقاء المحبوب، ودخلوا حريم الملك.
عندما كانوا هؤلاء العطاشى يبحثون عن الماء، في ظلام الليل الدامس.
ملأوا كؤوس عشقهم من الحبيب، وابتعدوا عن كلّ شيء.
رُفع الحجاب عنهم، ونظروا بأعينهم إلى الحق.
تحرّروا من النفس الحيوانية، ووصلوا إلى قمّة الإنسانية.
فتحوا الطريق لهم تجاه وادي العشق، وفسحوا المجال لهم في الخلوة المقدسة.
شاهدوا جمال الحبيب، ورفع من ذلك الجمال ألف غطاء.
هؤلاء قلوبهم مليئة بعشق الحبيب، ولا يرضون إلا بكلام المحبوب.
هذه العنادل في حدائقهم، طيبة الفكر والذكر والعمل.
هذه هي أوصاف الطيبين، حرّروا ارواحهم وأجسادهم من اسار الدنيا.
وانت كاشف سرّ ما خفي، فهات قصة من العشاق.
ويخرج من كنز الفكر جوهرةٌ، ولا حديث ألذُّ من حديث العشق[2].
فَتَثاقَلَ(ع) عَنْ جَوابِهِ ثُمَّ قالَ(ع): «يا هَمّام اتَّقِ اللّهَ وَأَحْسِنْ فَـ {إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}»[3].
فَلَمْ يَقْنَعْ هَمّامُ بِهذا القَوْلِ حَتّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأثْنى عَلَيْهِ وَصَلّى عَلَى النَّبِىِّ| ثُمَّ قال:
«أمّا بَعْدُ فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ حينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طاعَتِهِمْ آمِناً من مَعْصِيَتَهُمْ لأنَّهُ لاتَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصاهُ وَلا تَنْفَعُهُ طاعَةُ مَنْ أطاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيا مَواضِعَهُمْ».
روح المتقين معتدلة، وهدفهم هو الحب.
قلوبهم من أثرنا ممحية، وفي بستان العشق قلوبهم مقطّعة.
إنّ الله أعطى أولئك المحسنين فضيلة القيادة، وميّزهم بأنواع الفضائل.
ووهبهم فضائل كثيرة، لأنّهم دائماً صادقين في كلامهم.
أوّل صفة الطيبين هي الصدق في كلامهم، اسمع جيداً فهذا وصف حسن.
وليس الصدق هو في كلامهم فقط، بل الصدق في جميع أفعالهم.
وكل شخص لديه صدق في الكلام، فإنّك تجد فيه صفات حسنة كثيرة.
والقلب الذي هو منوّر بالعشق فإنّه شمس، وشعاعه يبان على ألسنة الصدق والصواب.
مَنْطِقُهُمُ الصَّوابُ، وَمَلْبَسُهُمْ الإقْتِصادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّواضُعُ، غَضُّوا أبْصارَهُمْ عَمّا حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أسْماعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ في الْبَلاءِ كَالّتي نَزَلَتْ في الرّخاءِ، وَلَوْلاَ الأجَلُ الّذي كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أرْواحُهُمْ في أجْسادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن شَوقاً إلَى الثَّوابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقابِ.
إذا هؤلاء لم يصلوا إلى وصال المحبوب، فإنّه لم يكتب لهم العشق.
لم يسع أولئك العظماء السجن، فالسجن ليس مأواهم.
وليس كطائر العنقاء من ضيق الكونين، خرجوا باحثين في طرفة عين.
وضاق على هذا العنقاء القفص الترابي، فيرى بستان الورود بعيدا عنه.
ولمّا ترى تلك الطيور الأحباب، يأتون آلافاً إلى بساتين الجنان.
ما أجمل بستان الجنة والأنس مع المحبوب، وهنالك لا رقيب ولا حسّاد.
الكل مشتاق للفرار من هذا الفخ، فكيف تستقر الروح في هذا الفخ.
ناظرين بشوق إلى الحبيب، وينتظرون بعيون باكية.
والكل حزين بسبب رحيل الحبيب، والكل في عجله من وصاله.
الكل يحسب الأيام والسنين، ليوم اللقاء فيفدون أرواحهم.
عَظُمَ الْخالِقُ في أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مادونَهُ في أعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآها فَهُمْ فيها مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنّارُ كَمَنْ قَدْ رَآها فَهُمْ فيها مُعَذَّبُونَ.
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأمُونَةٌ، وَأجْسادُهُمْ نَحيفَةٌ، وَحاجاتُهُمْ خَفيفَةٌ، وَأنْفُسُهُمْ عَفيفَةٌ، صَبَرُوا أيّاماً قَصيرَةً أعْقَبَتْهُمْ راحَةً طَويلَةً، تِجارَةً مُريحَةً يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أرادَتْهُمُ الدُّنْيا فَلَمْ يُريدُوها، وَأسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أنْفُسَهُمْ مِنْها، أَمّا اللَّيْلُ فَصافّونَ أقْدامَهُمْ تالينَ لاَِجْزاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتيلاً.
جاء الليل، تلك الليلة التي صاحبت المتألمين، جاء الليل، تلك الليلة التي هي خصمٌ للمساكين.
جاء الليل، تلك الليلة التي يشكو فيها العشاق، مرة من الحبيب، وأخرى من القلب.
جاء الليل، تلك الليلة التي اصبحت محفلاً لي، مرة من قرب الحبيب، ومن القلب.
ليلة فيها ضجيج للعشاق، ليلة فيها ألحان فرحة العشق.
ليلة فيها الأنجم زاهرة في أروقة القصر التسعة، ليلة تحرق فيها قلوب المشتاقين.
ليلة يسكر من صيحة طائر الحق، وتصل فيه إلى لمس الروح.
ليلة فيها المنجمون يحرقون القلب، ليلة تحرق فيها النار القلوب.
ليلة تضيق فيها الدنيا، تصيح فيها العنقاء الليلة.
بليلة الرجال الذين هم في طريقهم للحرب، بالشمع المحترق في قيامهم.
بليلة طيور الحق التي هي في احتراق، بتراب عشق الليل المحتاج.
ليلة فيها معراج العرش عشٌ، فسبحان الذي أسرى ألحانه.
جلس فوق قمة العرش، وشرب من الكأس واصبح ثملاً.
يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَواءَ دائِهِمْ، فَإِذا مَرُّوا بِآية فيها تَشْويقٌ رَكَنُوا إِلَيْها طَمَعاً، وَتَطَّلَعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْها شَوْقاً، وَظَنّوا أَنَّها نَصْبُ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذا مَرُّوا بِآيَة فيها تَخْويفٌ أَصْغَوْا إِلَيْها مَسامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفيرَ جَهَنَّمَ وَشَهيقَها في أُصُولِ آذانِهِمْ، فَهُمْ حانُونَ عَلى أَوْساطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِباهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرافِ أَقْدامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللّهِ تَعالى في فَكاكَ رِقابِهِمْ، وَأَمَّا النَّهارُ فَحُلَماءٌ عُلَماءٌ أَبْرارٌ أَتْقِياءٌ.
حينما يحين الصباح فهم كالعلم أذكياء، ويتحمّلون تغيّرات الدنيا.
الدنيا وما فيها هي تحوّل وتغيّر، فجيش النجوم في حالة صياح.
إذا ملئ الشرق والغرب بالفتن، وإذا غرقت الدنيا بالطوفان.
فلا أشوّقهم ولا اخاف منهم، فقلبهم وروحهم مسلّم لحكم المحبوب.
إذا القلب امتلأ من نور المعرفة وأصبح صافياً، فإنّه يلقى نظام العالم من حكم القضاء.
فكل وجودي هو ذائب في طاعته، وأصبح كالمشكاة يبدّد ظلام الدنيا.
وأشرقت في روحه أنوار العلم والحلم، وأسرع نحو الخير والورع.
وبالعلم يُضاء كل روح، جسور، حليم، ورحيم.
العلم يزيد الحلم، وأعماله و ورعه يصبحان أفضل[4].
قَدْ بَراهُمُ الْخَوْفُ بَرىءَ القِداحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النّاظِرُ فَيَحْسِبُهُمْ مَرْضى وَما بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض، وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظيمٌ، لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمالِهِمْ الْقَليلَ، وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثيرَ، فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذا زُكّي أَحَدٌ مِنْهُمْ خافَ مِمّا يُقالُ لَهُ! فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسي مِنْ غَيْري، وَرَبّي أَعْلَمُ بي مِنّي بِنَفْسي، اللَّهُمَّ لا تُؤاخِذْني بِما يَقُولُونَ، وَاجْعَلْني أَفْضَلَ مِمّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لي ما لا يَعْلَمُونَ .
حينما نصف هؤلاء بالمحسنين، فكلّما يتفكّرون يزدادون حسناً.
وهذا جوابهم لنا حين نسألهم: نحن ظاهرنا وباطننا واحد.
نفتخر بأننا أعلم من غيرنا، والدّهر كفيل ببرهنة ذلك.
ولأننا أصبحنا وذبنا بالعشق، فكلّ واحد ينعتنا بصاحب السرّ.
أنت تمدحنا ونحن في الحقيقة لاشيء، فكأنّما مدحت العدم بلا شيء.
وهكذا هو حال لسان القلب مع الله، قائلاً «اجعلني للمتقين إماماً».
واغفر لي ما لا يعلمون، من أعمالي السيئة وأفكاري المضطربة.
فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِمْ: أَنَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً في دين، وَحَزْماً في لين، وَإيماناً في يَقين، وَحِرْصاً في عِلْم، وَعِلْماً في حِلْم، وَقَصْداً في غِنىً، وَخُشُوعاً في عِبادَة، وَتَجَمُّلاً في فاقَة، وَصَبْراً في شِدَّة، وَطَلَباً في حَلال، وَنَشاطاً في هُدىً وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع، يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلى وَجَل، يُمْسي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لِما حَذِرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِما أَصابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فيما تَكْرَهُ، لَمْ يُعْطِها سُؤْلَها فيما تُحِبُّ، قُرَّةُ عَيْنِهِ فيما لا يَزولُ، وَزَهادَتُهُ فيما لا يَبْقى، يَمْزُجُ الحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ، تَراهُ قَريباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خاشِعاً قَلْبُهُ، قانِعَةً نَفْسُهُ، مَنزُوراً أُكُلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهْ، حَرِيزاً دينُهْ، مَيِّتةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأمُول، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأمُون، إِنْ كانَ في الْغافِلينَ كُتِبَ في الذّاكِرِينَ، وَإِنْ كانَ في الذّاكِرينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغافِلينَ.
إذا ما جالست الجهلاء عمراً، فذاكرتي دائماً عند الأحباب.
إذا مزج روحه مع الذاکرين فقلبه بين يدي الحبيب.
إذا كتب اسمه من الأوفياء، فقد كتب من اليقظين.
يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَه، وَيُعْطي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعيداً فُحْشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غائِباً مُنْكَرُهُ، حاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ، في الزَّلازِلِ وَقُور، وُفي المَكارِهِ صَبُور، وَفي الرَّخاءِ شَكُور، لا يَحيفُ عَلى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأثَمُ فيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لا يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلا يَنْسى ما ذُكِّرَ وَلا يُنابِزُ بِالاَلْقابِ وَلا يُضارُّ بِالْجارِ وَلا يَشْمَتُ بِالْمَصائِبِ وَلا يَدْخُلُ فى الْباطِلِ وَلا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ.
المحسن لا يسير على طريق الباطل، ولا تزلّ قدماه خطوة عن الحق.
هكذا قال أصحاب الحقائق، حينما يفتحوا أبواب حدائق الشقائق.
فإنهم يشاهدون حقيقة الباطل والحق، فإمّا يرون غنيّاً وإمّا فقيراً مدقعاً.
إذا أردت الاستحواذ على الدنيا بالباطل فإنّك فقير، وإن اتبعت الحق فإنّك تملك العالم كله.
الحق ذلك الوجود المطلق الذي كان، هنالك ولا يجلب الفناء لمن دخل الحق.
واتصل بالحق يا قلب إن كنت فطناً، فاقطع مسالك الباطل على نفسك.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللّهُ هُوَ الَّذي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ في عَناء، وَالنّاسُ مِنْهُ في راحَة، أتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ، وَأَراحَ النّاسَ مِنْ نَفْسِهِ، بُعْدُهُ عَمَّنْ تَباعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُّوهُ مِمَّنْ دَنا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَباعُدُهُ بِكِبر وَعَظَمَة، وَ لا دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَديعَة.
حينما يعتزل الإنسان عن الخلق، ويعيش حالة التفرّد والعزلة، فإنّه ستأتيه حال من الزهد والتجرد.
وتفرده عن الناس ليس لغرض التكبر والغرور، لأنّهما من طبائع الملوك الجبابرة.
وإذا اقتربت من الإنسان المؤمن الوفي، فإنّك لا ترى سوى الرأفة والرحمة.
وعندما يخالط ويعاشر الناس، فإنّه ربّما يفتح عليهم باباً إلى الله.
وليست معاشرته للناس من أجل الخداع والمكر، و وصل حديثنا إلى هنا أيها العقل.
فرّ يا عقل فانّ العشق الدامي أتاك، أو تحول إلى فراشة لا تستطيع مفارقة النار.
ضحّ بنفسك وجسدك، فالقلب اشتعل ناراً من أجل رؤية جمال المحبوب.
وأرمِ نفسك في النار لأنها شمع فرحة الملكوت، فيتنوّر الروح ويحترق الجسم المادي.
ينشر جناحيه متّجهاً نحو الصيّاد، فيأخذ الجسم منه ويحرّر الروح[5].
وحينما وصل حديث امام العارفين(ع) إلى هنا، قَالَ:
«فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(ع):
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: َهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ(ع): وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ».
[1]- نهج البلاغة: الخطبة 184.
[2]- الهي قمشه اي.
[3]- النحل 16: 128.
[4]- الهي قمشه اي.
[5]- الهي قمشه اي.