إن الكمال والقدرة التي ينالها الإنسان إثر عبوديّته وإخلاصه وعبادته، يكون ذا مراحل ومنازل.
المرحلة الأولى: مجاهدة النفس والتحكم بها، وبعبارة أخرى إن أقل علامة لقبول عمل الإنسان عند الله سبحانه وتعالى، هو انه يكتسب عقيدة نافذة لينور بها طريقه:
{. . . إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً. . .}[1].
وكذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. . .}[2].
وأخرى، ان هذا الإنسان يتغلب ويقهر نفسه واهواءه، و إرادته تصبح قوية في مقابل اهوائه النفسانية والحيوانية، ويكون الإنسان حاكم نفسه، ويكسب إدارة لائقة في دائرة وجود ذاته. يقول الله سبحانه وتعالى حول الصلاة:
«إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر»[3].
ويقول تعالى حول الصيام:
{. . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [4].
ويقول الله تعالى حول العبادتين:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[5].
في هذه المرحلة من العبودية يكون من نصيب الإنسان هو القدرة على تسخير اهوائه وملذاته النفسانية، بعبارة أخرى أن أولى آثاره هي العبودية، والربوبية والولاية على النفس الأمّارة بالسوء وعلى أثره يكتسب الإنسان الصفاء والهداية والتفاؤل.
المرحلة الثانية: التحكم والولاية على افكاره المبعثرة، يعني التحكم بالقوة الخيالية، هذه القوة ليست تحت ارادتنا بل نحن تحت تصرفها، لذلك كلّما أردنا ان نركز أذهاننا على موضوع معين دون سواه، فإنه لا يمكن ذلك، و بدون إرادتنا فإن مخيلتنا تتبعثر إلى جهات مختلفة. فمثلاً، كلما سعينا ان يكون لدينا حضور قلب في الصلاة، يعني كلما بذلنا قصارى جهدنا على أن نبقی القلب حاضراً في صلاة الجماعة، لا نستطيع. وفي نهاية الصلاة نلتفت فلا نجد القلب في الصلاة.
فقد جاء في الحديث:
«لِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ إِنْقِلاباً مِنَ القدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلَيا»[6].
ولكن هل ان الإنسان حُكم عليه أن يكون أسير التفكر جبراً واضطراراً، وأن هذه القوة العجيبة التي هي مثل العصفور تقفز من غصن إلى غصن تكون هي الحاكمة المطلقة، أم أن استسلام الإنسان في مقابل القوة التخيلية هي من عدم رشده وتجربته، وأن أهل الكمال واولياء الله قادرون على ان يسخروا هذه القوة؟
الشق الثاني هو الصحيح، فإحدى وظائف البشر هي السيطرة على اهواء قوة الخيال، وإلا فإن هذه القوة التي لها صفة شياطنية لن تسمح للإنسان بأن يسلك صراط القرب إلى الله تعالى.
ولأجل أن ننتصر عليها، فليس هنالك شيء مثل طاعة الله جل وعلا وعبادته والتي أساسها التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الذين يقومون بالرياضات النفسية يدخلون من الطرق الآخرى، والإسلام يدخل عن طريق العبادة دون الاحتياج إلى الاستفادة من الطرق الخاطئة. فتوجه القلب إلى الله والتذكّر بأنه أمام ربّ الأرباب وخالق ومدبر الوجود، يهيئ أرضية تجميع وتركيز الذهن في الصلاة.
يقول ابن سينا في كتاب «الإشارات» في النمط التاسع، بعد توضيح وشرح عبادة عوام الناس والتي هي فقط من أجل الثواب، وليس لها قيمة كثيرة، يتطرّق إلى الحديث حول العبادة المقرونة بالمعرفة فيقول:
العبودية من وجهة نظر العارف وأهل المعرفة، هي رياضة للهمم، وللقوة الخيالية. وإثر التكرار والتعود على حضور القلب في حضرة الله سبحانه وتعالى، يسعى دائماً إلى تغيير توجّهاتها من المسائل المادية والطبيعية نحو المسائل الملكوتية. وبالنتيجة فإن هذه القوة تنقاد إلى سرّ الضمير والفطرة الإلهية للإنسان، ومطيعة له لدرجة أنّه كلما أراد ان يشاهد الحق فإن هذه القوى لا تتحرك في خلاف الجهة، ولا يحصل تداخل بين القوى العلوية والسفلية، ودون أي مزاحمة فإن سر الباطن يتلقى الإشراق[7].
المرحلة الثالثة: تصل الروح في مراحل قوتها، وقدرتها وربوبيتها وولايتها إلى درجة ومرحلة يكون فيها غير محتاج للبدن في كثير من الأحيان، في حال أن البدن يحتاج إلى الروح مائة بالمائة.
المرحلة الرابعة: ينقاد البدن من جميع الجهات إلى أوامر وإرادة الشخص، بحيث تحصل اعمال خارقة للعادة في دائرة جسده، وهذا المطلب ذو شجون ويحتاج توضيحه إلى تفصيل كثير، يقول الإمام الصادق×:
«ما ضَعُفَ بَدَنٌ عَمّا قَوِيَتْ عَلَيْهِ النِيَّةُ»[8].
المرحلة الخامسة: هي أعلى وأسمى المراحل، وذلك إنه حتى الطبيعة الخارجية تصبح تحت نفوذ وإرادة الإنسان ومطيعة له. فمعجزات وكرامات الأنبياء والاولياء(ع) من هذا الباب.
والمعجزة تحدث بان صاحبها لديه نوع من القدرة والإرادة حيث يستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى، ان يتصرف في الكائنات، فالعصا تصير ثعباناً، والأعمى بصيراً، ويستطيع أن يحيى الموتى، ويعلم الغيب، وتحصل هذه القدرة والمعرفة له فقط عن طريق السير على الصراط المستقيم والتقرب إلى خالق الكون، والولاية والتصرف في المخلوقات لا تعني غير هذا الشيء.
كل هذه المراحل هي نتيجة وثمرة القرب إلى الله سبحانه وتعالى وهذه حقيقة واقعية وليست تعبيراً مجازياً واعتبارياً.
العبادة تكون سبباً للتقرّب، والتقرّب سبباً لمحبوبية العبد عند الله جل وعلا، بمعنى ان الإنسان بالعبادة يصبح قريباً من الله سبحانه وتعالى وعلى إثر هذا القرب؛ تكون له القابلية على إستقبال الفيوضات والعنايات الخاصة الإلهية، وعلى إثر تلك العنايات، تصبح جوارحه و اعضاؤه من اُذنيه، وعينيه، ولسانه ويديه الهية وحقّانية، فبقدرة الله يسمع ويرى ويقول أيضاً، وكذلك يدافع عن الحق، ويستجاب دعاؤه وتتحقق طلباته.
وعلى اساس اعتقاد مذهب التشيع، فالوسيلة الوحيدة للوصول إلى المقامات الإنسانية، واجتياز طريق العبودية بصورة كاملة وتامة، لا تكون إلا بالعناية الروحية والقيادة للإنسان الكامل الذي هو حجة الله سبحانه وتعالى[9].
«بُنِيَ الإِسْلامُ عَلى خَمْس: عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوِلايَةِ وَلَمْ يُنادَ بِشَيْء كَما نُودِىَ بِالْوِلايَةِ»[10].
نعم، فالإنسان مع العبادة الخالصة والإرشاد انسان كامل، فإن نفسه وقواه تصبح تحت نفوذ وارادة الحق، وعليه يتحول الإنسان إلى موجود رباني وذو كرامة.
وأرى من الضروري في هذا الفصل ان على القراء البحث قليلاً في الآيات والروايات والكتب الاخلاقية العرفانية، وتربية النفس، عسى ان تنفتح علينا باب أخری من المعرفة والاعتقاد.
[1]- الأنقال 8: 29.
[2]- العنكبوت 29: 69.
[3]- العنكبوت 29: 45.
[4]- البقرة 2: 183.
[5]- البقرة 2: 153
[6]- مسند أحمد: 6/2.
[7]- الإشارات: النمط التاسع.
[8]- من لا يحضره الفقيه: 4/400، حديث 5859؛ وسائل الشيعة: 1/53، باب استحباب نية الخير. . ، حديث 106.
[9]- «خلافت و ولايت: 381 چاپ اول».
[10]- وسائل الشيعة: 1/4.